تجديد الاعتماد المؤسسي لكلية التمريض جامعة طنطا من "القومي للاعتماد"    بعد تكريمهما من قرينة الرئيس.. تكريم شقيقتين من ذوي الهمم في قنا    تنظمه «حياة كريمة».. افتتاح «حياة للتوظيف» بالشراكة مع «كير للتنمية»    محافظ قنا يتابع الموقف التنفيذي لمشروعات الخطة الاستثمارية    جانتس يصف نتنياهو ب "أبو الانقسام" ويدعو إلى تشكيل حكومة وسطية لتوحيد الإسرائيليين    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية لنظيره المغربي موجهة من الرئيس السيسي إلى ملك المغرب    الأمم المتحدة تشيد بجهود مصر في عمليات حفظ السلام في إفريقيا    المدير الرياضي للنصر: رونالدو تلقى 30 عرضًا ونحاول إقناعه بالتجديد    براءة الفنان هيثم محمد من تهمة تعاطي الهيروين    تأييد حكم حبس المتهم بقتل عريس البراجيل    الأمطار تعود والعظمى تنخفض ل24.. توقعات حالة الطقس غدًا الجمعة 30 مايو 2025 في مصر    ابراهيم السيجيني: المقر الجديد لجهاز حماية المستهلك سيكون منصة حديثة لحماية الحقوق    «ثقافة السويس» تواصل ليالي عرض «منزل العفاريت الظريفة»    نقابة «النيابات والمحاكم» تطلق مبادرة لتوفير لحوم الأضاحي بالتقسيط    محافظ المنيا: لا تهاون في صحة المواطن واستمرار الحملات الرقابية    مجلس حكماء المسلمين يُدينُ بشدة انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بالقدس    محافظ الغربية: هدفنا راحة المواطن وتوفير الخدمة الصحية اللائقة له    الوزير محمد عبد اللطيف يلتقي عددا من الطلاب المصريين بجامعة كامبريدج.. ويؤكد: نماذج مشرفة للدولة المصرية بالخارج    كلمات تهنئة معبرة للحجاج في يوم التروية ويوم عرفة    رواتب مجزية ومزايا.. 600 فرصة عمل بمحطة الضبعة النووية    قومية المنيا تعرض الإسكافي ملكا ضمن عروض الموسم المسرحي    بالصور- حريق مفاجئ بمدرسة في سوهاج يوقف الامتحانات ويستدعي إخلاء الطلاب    عيد الأضحى 2025.. هل يجوز التضحية في ليالي أيام النحر؟ وما هو أفضل وقت؟    أمين الفتوى يرد: هل يجوز التكبير المطلق من أول أيام ذي الحجة أم أنه للحجاج فقط    وزير الثقافة يتابع حالة الأديب صنع الله إبراهيم عقب تعافيه    رسميًا.. بايرن ميونيخ يُعلن عن أولى صفقاته الصيفية استعدادًا لمونديال الأندية 2025    رئيس جامعة بنها يتفقد سير الامتحانات بكلية الهندسة في شبرا.. صور    بين التحضير والتصوير.. 3 مسلسلات جديدة في طريقها للعرض    دموع معلول وأكرم واحتفال الدون وهدية القدوة.. لحظات مؤثرة في تتويج الأهلي بالدوري.. فيديو    عرفات يتأهب لاستقبال الحجاج فى الموقف العظيم.. فيديو    نتائج جهود الأجهزة الأمنية بالقاهرة لمكافحة جرائم السرقات    إنريكي في باريس.. سر 15 ألف يورو غيرت وجه سان جيرمان    تمكين المرأة اقتصاديًا.. شروط وإجراءات الحصول على قروض مشروعات صغيرة    رئيس قطاع المتاحف: معرض "كنوز الفراعنة" سيشكل حدثا ثقافيا استثنائيا في روما    محافظ المنوفية يشهد استلام 2 طن لحوم كدفعة جديدة من صكوك الإطعام    بنسبة حوادث 0.06%.. قناة السويس تؤكد كفاءتها الملاحية في لقاء مع الاتحاد الدولي للتأمين البحري    قرار مفاجئ من الأهلى تجاه معلول بعد دموعه خلال التتويج بالدوري    الإسماعيلى ينتظر استلام القرض لتسديد الغرامات الدولية وفتح القيد    مصنع حفاضات أطفال يسرق كهرباء ب 19 مليون جنيه في أكتوبر -تفاصيل    «أحد سأل عني» ل محمد عبده تتجاوز المليون مشاهدة خلال أيام من طرحها (فيديو)    إعلام إسرائيلى: نتنياهو وجه بالاستعداد لضرب إيران رغم تحذيرات ترامب    "قالوله يا كافر".. تفاصيل الهجوم على أحمد سعد قبل إزالة التاتو    ندب الدكتورة مروى ياسين مساعدًا لوزير الأوقاف لشئون الواعظات    أردوغان: "قسد" تماطل في تنفيذ اتفاق الاندماج مع دمشق وعليها التوقف فورًا    الكرملين: أوكرانيا لم توافق بعد على عقد مفاوضات الاثنين المقبل    لندن تضغط على واشنطن لتسريع تنفيذ اتفاق تجارى بشأن السيارات والصلب    أول تعليق من حماس على قرار إقامة 22 مستوطنة جديدة بالضفة    الدوخة المفاجئة بعد الاستيقاظ.. ما أسبابها ومتي تكون خطيرة؟    الإحصاء: انخفاض نسبة المدخنين إلى 14.2% خلال 2023 - 2024    انطلاق المؤتمر العلمى السنوى لقصر العينى بحضور وزيرى الصحة والتعليم العالى    استشاري أمراض باطنة يقدم 4 نصائح هامة لمرضى متلازمة القولون العصبي (فيديو)    ياسر ريان: بيراميدز ساعد الأهلي على التتويج بالدوري.. ولاعبو الأحمر تحرروا بعد رحيل كولر    رئيس الوزراء يصدر قرارًا بإسقاط الجنسية المصرية عن 4 أشخاص    كل ما تريد معرفته عن سنن الأضحية وحكم حلق الشعر والأظافر للمضحي    جامعة حلوان تواصل تأهيل كوادرها الإدارية بدورة متقدمة في الإشراف والتواصل    91.3 % صافي تعاملات المصريين بالبورصة خلال تداولات جلسة الأربعاء    نشرة التوك شو| ظهور متحور جديد لكورونا.. وتطبيع محتمل مع إسرائيل قد ينطلق من دمشق وبيروت    ماريسكا: عانينا أمام بيتيس بسبب احتفالنا المبالغ فيه أمام نوتينجهام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قاهرة نجيب محفوظ بعيون سويدية..
صاحب نوبل: كتابتى نضال ضد التفاهة
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 04 - 2019

قابلت نجيب محفوظ مرة واحدة. كان ذلك فى شتاء عام 2006، وكنت فى القاهرة منذ ثلاثة أعوام ونصف العام. اصطحبنى الكاتب جمال الغيطانى وهو صديق قديم لمحفوظ إلى أحد لقاءاته الأسبوعية. مضيت إلى فندق هوليداى إنه فى ضاحية المعادى، وهو فندق يطل على النيل لا تفصله عنه إلا أربع حارات مرورية، وكان لدى بابه الأمامى جهاز كشف عن المعادن، فنجيب محفوظ منذ اعتداء الشاب الأصولى عليه فى عام 1994 لم يعد يرتاد مقاهى وسط المدينة التى ظل على مدار نصف قرن قبل ذلك يقابل فيها زملاءه من الكتّاب.
كانت المجموعة صغيرة، ولكننى لا أستطيع أن أتذكَّر أسماء أيٍّ منها. لا بد أن قليلا من قدامى أصدقاء محفوظ كانوا حاضرين،
وقليلا من المعجبين الجدد من أمثالى. وكان حاضرا كذلك شخص شهير فى القاهرة، هو أمريكى فى منتصف العمر يؤثر ارتداء السترات البيضاء ويزعم منذ سنين أنه يؤلف سيرة لمحفوظ.
كان محفوظ آنذاك فى الرابعة والتسعين، يلتف فى معطف كبير عليه للغاية فيبدو أقرب إلى سلحفاة صغيرة ذابلة مثيرة للرثاء. كان قد شارف على العمى والصمم الكاملين، فكان من مرافقيه من يجلس بجواره ليزعق فى أذنه. وكانت يمناه قد تقلَّصت إلى مخلب من أثر الهجمة التى تعرَّض لها قبل اثنى عشر عاما إذ اقترب منه شاب وهو جالس فى سيارة فمدَّ يده إليه وطعنه فى حلقه. وبسبب جلسة محفوظ منحنيا إلى الأمام وقد كان فى ذلك الوقت أيضا شيخا كبيرا فقد أخطأ الطاعن شريانه السباتى.
فى ذلك المساء فى فندق هوليداى ان اكتفى محفوظ بفنجان قهوة تركى وسيجارة واحدة. وبدا واضحا أنه يتلذذ بتلك الطقوس، وبالحديث الدائر، وإن بات صعبا عليه أن يتابعه. كان محاطا بمن يحترمونه ويعرفون رفعة مقامه، ويجتهد كلٌّ منهم فى التسرية عنه، فكلما كان يضحك، ضحكه الخشن الطويل، كان وجهه الصغير بارز العظم ينضح بإشراق الصبا. أتصور أنه سألنى عن كتَّابى المفضلين وحدَّثنى عن إعجابه بشكسبير وبروست. وفى لحظة ما سألنى إن كنت أعتقد أن روايته «أولاد حارتنا» رواية «معادية للدين»؟ وهذه هى الرواية التى اعتُبرت تجديفا بإعادتها حكى أحداث من الإنجيل والقرآن مما أدَّى إلى محاولة اغتياله.
قلت فى ارتباك لا، لا أعتقد أن الرواية معادية للدين. ولن أنسى ابتسامته الملتوية بما شابها من خيبة. أتمنى الآن لو أننى قلت قولا أصدق أو أكثر إثارة للاهتمام كأن أقول «وإن تكن، لا يهمُّنى».
وقّع لى محفوظ نسختى من «الثلاثية» بيد متغضنة مجهدة. كان قد قضى سنين يعلم نفسه الكتابة من جديد، فلم ينله بعد تلك السنوات إلا تنفيذ الحكم المرجأ بضمورها مرة أخرى.
عاش نجيب محفوظ قرابة القرن، وقضى أغلبه وهو يكتب قصصا قصيرة ومسرحيات وسيناريوهات لصناعة السينما المزدهرة فى مصر وروايات كانت تنشر فى كبرى مجلات مصر وجرائدها وصارت تعد من قبيل الكلاسيكيات. فى عام 1988 فاز بجائزة نوبل فى الأدب، ولا يزال حتى يومنا هذا الكاتب العربى الوحيد الذى يحظى بهذا الشرف.
وليس من المبالغة فى شىء القول بأن محفوظ واحد من الفنانين الذين أسهموا فى صياغة وعى مصر الحديث. فبقدر المصرية التى تبدو فى جوهر كتابته ومزاجه إذ يتجلى ذلك فى ارتباطه الشديد ببلده وبالقاهرة وبالحى الذى شهد مولده، وفى سخريته وحذره ومرحه وحبه للأرجيلة وأم كلثوم وفن الثرثرة مع الأصدقاء فإن المرء لا يعرف بدقة إن كان سبب ذلك هو أنه نفسه قد أسهم بنصيب فى تحديد ذلك الجوهر. لقد قيل إن محفوظ أنتج الكثير للغاية من الأعمال وكان رائدا فى الكثير للغاية من القوالب الفنية بحيث وهب للكتَّاب المصريين تراثا كاملا من الأدب الحديث، يتسع نطاقه ليشمل الواقعية الاشتراكية والوجودية، وتيار الوعى والأليجوريا والإثارة noir.
غير أن محفوظ على الرغم من تجريبه فى الشكل، بقى على ثيماته، فقد كان مهموما بهوية مصر الوطنية والتطور، وبالتغيير الاجتماعى والسلطة، وبما كانت عليه مصر وما كان يمكن أن تكون عليه وما يمكن أن تؤول إليه. وفى «أولاد حارتنا» (كما فى أغلب أعماله)، يتواتر ظهور فضاءات مكانية وجغرافة معينة، كالصحراء موقعا للجرائم والتجليات، وملاذا للمنبوذين والمنفيين ينفقون فيه أعمارهم، فيا له من مصير رهيب. والمقهى، ذلك المكان المقصور على الرجال، وفيه تُحكى الحكايات، وتتبادل النمائم النكات، وتتعكر الأمزجة وتصفو. وعلى رأس ذلك كله الحارة مكان عرفه منذ طفولته وجعل منه مسرحه الأثير لعرض قصصه الدرامية الأسرية والمجتمعية والوطنية وكلها كانت فى نظر نجيب محفوظ شيئا واحدا.
غير أن محفوظ الذى ألَّف تلك الفضاءات لا يكاد يمكن العثور عليه فى كتاب «مقالات من عصر السادات.. 1947-1981» وهو الجزء الثانى من سلسلة كتابات غير أدبية تصدرها دار «جينكو ليبرارى» وتضم مقالاته الصحفية التى كانت تنشرها جريدة الأهرام الحكومية المرموقة فى عموده الثابت «وجهة نظر». محفوظ نفسه يقول إنه كان منخرطا دائما فى السياسة انخراطا عميقا. فقد قال للغيطانى الذى جمع أحاديثهما فى كتابه «المجالس المحفوظية» إن «بوسعك أن تجد السياسة فى كل ما كتبته». وفى مقالاته تظهر مبادئه السياسية: فهو مناصر لليبرالية والحرية الشخصية، معتدل بصورة شبه دائمة، مناصر للتقدم والعقلانية، مؤمن بالوطنية المصرية.
أمَّا ما ليس إياه فى هذه المقالات، فهو الكاتب. فالصادم فى هذه المقالات أنها عادية للغاية، وكأن محفوظ كان يدخر كل ذرة من موهبته لرواياته. وذلك ما توضحه تماما مقدمة «رشيد العنانى» للكتاب إذ يقول إن «القارئ يفتقد فى قراءته لهذه المجموعة من كتابات محفوظ الصحفية جمال اللغة، وأناقة الأسلوب، والخيال... فلا ينسرب إليها من عبقه الفنى شىء».
والحق أن ما تفعله هذه المقالات هو أنها تزيد من عمق غموض كتابة محفوظ وحياته، وتبرز التناقض الواضح بين حذره وتكتمه فى حياته اليومية من ناحية وطموحه الأدبى الجسور من ناحية أخرى. فلقد برع محفوظ على مدار مسيرته المهنية فى الإبحار وسط الرقابة، بل لقد عمل هو نفسه رقيبا، ولكنه استطاع أن يكتب عن مصر كتابة جريئة وصادقة. صحيح أنه قضى حياته كلها موظفا فى الحكومة، وأيقونة وطنية تُنشر أعماله مسلسلة فى صحافة الدولة، ولكنه جعل ثيمته الكبرى هى تداعى آمال بلده مرارا وتكرارا.
ولد محفوظ سنة 1911، ونشأ فى حى الجمالية التاريخى فى القاهرة، وهو حى يحتوى على مساجد عمرها ألف سنة، وأبواب أثرية، وأزقة ضيقة. كانت أسرته تناصر الوفد، وهو حزب مصر الوطنى الليبرالى الذى قاد الكفاح من أجل الاستقلال عن البريطانيين، فكان الزعيم الوفدى سعد زغلول موضع إجلال فى بيته. وكان والد محفوظ الموظف الحكومى يتكلم عن الشئون المنزلية والشئون الوطنية «وكأنهما شىء واحد» وعن زغلول والملك المصرى والبريطانيين وكأنهم «أصدقاؤه وأعداؤه الشخصيون».
فى عام 1919، نفى البريطانيون زغلول، فاندلعت فى البلد احتجاجات ممتدّة على مدار شهور. وشاهد محفوظ من شبابيك بيته المظاهرات الحاشدة فى مرورها بالحى لتقابلها أحيانا قوات البريطانيين القاتلة. وبعد سنوات عديدة حينما بلغ محفوظ من العمر اثنى عشر عاما غادرت أسرته حى الجمالية لتقيم فى حى العباسية الناشئ الراقى. لكنه ظل يرجع إلى حى طفولته فعليا ومجازيا لما بقى من حياته. فعالم الحارة بوصفها فضاء اجتماعيا، ومسرحا إنسانيا، ومجازا سياسيا كان مصدر إلهام لكثير من أعماله.
فى عام 1922، حصلت مصر على استقلال شكلى، وفى السنة التالية سمح لسعد زغلول بالعودة فرأس حكومتين لفترات قصيرة قبل وفاته فى عام 1927. ظل البريطانيون بحكمون البلد من وراء الستار داعمين الملكية المصرية متزايدة الضعف متناقصة الشعبية. ثم حدث فى عام 1952 أن قامت جماعة من شباب الضباط المصريين المحبطين من استمرار الحضور الإنجليزى وفسق حياة الملك فاروق بالإطاحة بالملكية وإعلان مصر جمهورية اشتراكية. وسرعان ما صار أحد أولئك الضباط وهو جمال عبدالناصر رئيسا للبلد، وبعد سنتين أمَّم قناة السويس وأصبح حامل لواء القومية العربية فى الشرق الأوسط. كما أسّس عبدالناصر نظام الحزب الواحد واحتكر الإعلام وقهر المعارضة الإسلامية والشيوعية.
كان محفوظ فى الأربعين فى وقت الانقلاب وكان كاتبا متحقِّقا. ناصر الكثير من سياسات الثورة الاشتراكية فى إعادة توزيع الثروة، لكنه تشكك فى الحكم العسكرى وأسف على السياسات الليبرالية والطموحات الديمقراطية التى عرفتها مصر فى العشرينيات ولم يحققها حزب الوفد. والواقع أنه سوف يظل دائما يرى أن العشرينيات شهدت ذروة كفاح مصر من أجل الاستقلال وحقبة الوطنية المستعرة والنزعة التفاؤلية الرومنتيكية. تبدأ ملحمته العائلية، أى «ثلاثية بين القصرين» فى هذه الحقبة وتنتهى بنهاية الحرب العالمية الثانية. ورواية «بين القصرين» أى الجزء الأول فى الثلاثية ينتهى بألمع أبناء الأسرة والشاب الواعد صاحب الملكات والمبادئ فهمى وقد أردته رصاصة بريطانية عند مشاركته فى مظاهرة من أجل الاستقلال. وبوفاته تمنى الأسرة بخسارة لا تستطيع أن تبرأ منها. وبموته يموت أيضا الأمل فى مصر مستقلة ديمقراطية.
نشأ محفوظ فى بيت لا أثر فيه للثقافة الأدبية فكان أول كتاب قرأه هو كتاب استعاره من أحد أصدقاء الطفولة. ولقد وقع شأن غيره من أترابه الصبية فى غرام قصص الجريمة والمغامرات، وبدأ «الكتابة» بالكدّ فى نسخ رواياته الشعبية المفضلة مدرجا فيها تفاصيل قليلة من حياته ومبرزا توقيعه فى النهاية.
وبمعنى ما كانت روايات كثيرة من روايات محفوظ استمرارا لهواية «الكتابة» بالنسخ التى مارسها فى طفولته. فلقد أعجب بكبار مفكرى ومثقفى العشرينيات والثلاثينيات كطه حسين وتوفيق الحكيم، واختار أن يدرس الفلسفة فى جامعة القاهرة. لكن قلبه تغير إثر تخرجه فتعامل مع قراره بالتحول إلى روائى بما عهد عنه من حسم وانضباط، فقرأ تقريبا جميع كبار الروائيين والمسرحيين فى الغرب، وأحب منهم شكسبير وبروست وتولستوى، كما أعجب بإبسن، وتشيخوف، وتوماس مان، ويوجين أونيل. ورأى مغالاة فى تقدير همنجواى معتبرا فوكنر «أكثر ثراء وتعقيدا».
الفن كله محاكاة، لكن الأمر مثلما قال محفوظ لاحقا كان عسيرا على فنان من بلد نام يريد أن يمتلك لنفسه قالبا غربيا.
«إن الكاتب الغربى الذى بدأ عندما بدأت أنا كان بوسعه أن يبحث عن نفسه منذ اليوم الأول... أما نحن الكتّاب المنتمين إلى ما يعرف بالعالم النامى أو المتخلف فرأينا فى ذلك الوقت أنه من أجل تأسيس ذات أدبية حقيقية فإن علينا أن نمحو تلك الذات. أعنى أن قالب الرواية الغربى كان مقدسا فكان الخروج عليه تدنيسا. ولذلك تصوّرت فى وقت ما أن دور جيلنا هو كتابة روايات لائقة، إذ كنت أتصور أن لكتابة الرواية طريقة لائقة وأخرى لا تليق».
بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ محفوظ ينشر قصصا فى المجلات واستهل كتابة سلسلة طموحة من الروايات الى تجرى أحداثها فى العصور الفرعونية. وتلك كانت طريقة محفوظ غير المباشرة فى الكتابة عن الاحتلال البريطانى، لكنه نبذ ذلك المشروع فى الأربعينيات والتفت إلى مصر المعاصرة.
وكان ذلك هو القرار الصائب. وبحلول عام 1947 حينما نشر روايته «زقاق المدق» كانت عناصر أدبه الأساسية حاضرة فيها جميعا، بدءا من الزقاق فى العنوان. فكثير من أسباب قوة أعمال محفوظ فضلا عن جمال نثره ينبع من المستويات العديدة فى قصصه. فالحارة التى يصوّرها فى هذه القصص صورة مصغرة كثيفة متنوعة اجتماعيا تشهد المصائر الشخصية والصراعات السياسية والتحولات الاجتماعية. وهى فى وقت واحد تتسم بألفتها كمكان يكافح أهله ويفكرون ويعانون، وهى أيضا رمز لمجال مصر الوطنى الأوسع.
لقد كان محفوظ يؤمن بضرورة أن يواجه الكتّاب والمثقفون الواقع ويصوِّروه. وقال فى أحد مقالاته الصحفية إن «اليمينيين يرون تصوير بعض الجوانب السلبية فى الحياة إساءة إلى سمعة المجتمع فى الداخل والخارج، وأن أولويتنا هى أن نصوّر ما ينطوى على جمال أو قيمة على سبيل العلاقات العامة لنا ولبلدنا، وهم فى ذلك كله واهمون». ومن ينتظر من الفنانين أن يغضوا الطرف عن الجانب الأسود فى الحياة هو كمن يطلب من «الشرطة والقضاء أن يتجاهلوا انتهاكات القانون لكى نتحاشى تشويه سمعتنا».
و«زقاق المدق» لم تتجاهل أحدا، لا زيطة الذى يصنع العاهات للمتسولين ليكسبوا بها لقمة عيشهم، ولا كرشة صاحب المقهى الذى يرفض العقاب على فسقه مع الصبية، وقبلهم جميعا حميدة الشبيهة بمول فلاندرز [عند دانيال ديفو] قاهرية، إذ تهرب من أهلها لتحترف الدعارة. يحرص محفوظ أيضا على حكى قصصهم من وجهات نظرهم. فكتب عن حميدة أنها «كانت بطبعيتها تواقة إلى المزيد لا تقوى على الانتظار فى صمت».
كان «زقاق المدق» عملا راسخا حيويا، لكن كان لا بد من مرور عقد كامل قبل أن يحقق محفوظ الشهرة عند نشره «الثلاثية». يبدأ ذلك العمل الذى قسَّمه محفوظ إلى ثلاثة أجزاء أطلق عليها أسماء شوارع من حى طفولته هى «قصر الشروق» و»بين القصرين» و«السكرية» فى العشرينيات لحظة تستيقظ أمينة عند منتصف الليل، وأمينة أم فى أسرة قاهرية تنتمى إلى الطبقة الوسطى. تستيقظ أمينة لتنتظر رجوع زوجها. فى انتظارها رجوع زوجا، «واتجهت صوب باب المشربية ففتحته ودخلت، ثم وقفت فى قفصها المغلق تردد وجهها يمنة ويسرة ملقية نظرها من الثقوب المستديرة الدقيقة التى تملأ أضلافها إلى الطريق» مخفية إياها عن الشارع. من زاوية النظر المحدودة تلك، تتسع تدريجيا رؤيتنا نحن للقاهرة إلى أن نستوعب بانوراما محفوظ الكاسحة المحبوكة ببراعة. عبر مئات الصفحات نمعن فى الرحيل إلى أحياء جديدة وأجيال جديدة من أسرة أمينة، وأفكار وتوقعات جديدة. إذ تنعكس على حياة أولئك الأبناء تغيرات مهمة على المستوى التاريخى والسياسى والاجتماعى.
فى مستهل «قصر الشوق» يرجع السيد أحمد زوج أمينة إلى البيت بعد سهرة شرب فيها الخمر مع أصدقائه. هو تاجر ناجح ومحب للشراب والنساء والموسيقى. غير أنه شديد الحزم مع أبنائه مستبد على زوجته أشد الاستبداد حتى باتت على قناعة بأن الرجولة الحقة والطغيان والسهر خارج البيت إلى ما بعد منتصف الليل سمات مشتركة فى كيان واحد. لقد بلغ تصوير محفوظ للبطريركية بكل ما فيها من نفاق وقسوة وكاريزما من القوة حتى أصبح «سى السيد» حتى يومنا هذا اختصارا فى العالم العربى كله للرجل المستبد. ومثلما يفضح محفوظ تجاوزات جيل سابق فإنه يتعامل مع أوجاع جيله. فأصغر أبناء الأسرة، وهو كمال، هو أكثر شخصيات الكاتب فى طبيعته السيرية. نراه فى الجزء الأول من الثلاثية طفلا يشله الخوف من غضب أبيه. وبنهاية الثلاثية، يكون معلما للفلسفة واقعا فى شرك حب من طرف واحد، ومثقفا حرا لكنه تعيس، مثقفا ملحدا مغتربا يشعر أن حياته تافهة القيمة. ولاحقا قال محفوظ للغيطانى إن «أزمة كمال هى أزمتى، ومعاناته هى معاناتى».
أما أبناء إخوة كمال أصغر أجيال الثلاثية فهم أقل يقينا إزاء ما ينبغى القيام به من أجل البلد. أحدهم شيوعى يتزوج رفيقة له فى زواج نِدِّى. والآخر عضو فى جماعة الإخوان المسلمين. ومن خلالهما يستشرف محفوظ أقوى فصيلين سوف تشهدهما المعارضة السياسية فى البلد خلال العقود التالية. كما يستشرف الطريقة التى سوف تتعامل بهما الدولة مع المعارضة. إذ تنتهى آخر روايات الثلاثية، أى «قصر الشوق» بالشابين «من يعبدالله منهما ومن لا يعبده» وهما معتقلان فى آخر أيام الحرب العالمية الثانية. ويقول كمال «عليك أن تعبدالحكومة أولا وأخيرا إذا أردت أن تخلى حياتك من المشكلات».
تقتنص الثلاثية وتيرة التغير الاجتماعى المذهلة وثمنه الهائل، ذلك التغير الذى استهلك أغلب منتصف القرن العشرين فى مصر شأنها شأن البلاد التى عانت آلام التحرر من الاستعمار. ثم جاءت رواية نجيب محفوظ التالية وهى «أولاد حارتنا» فى شكل مختلف تماما، فبدلا من التأريخ للقوى العظمى الحاكمة للتغير الاجتماعى، تقع هذه الرواية بالكلية خارج الزمن وتتساءل إن كان من الممكن أصلا حدوث أى تغير حقيقى.
تبدأ الرواية بطرد ابن ثم آخر من بيت أبيهما الفاتن وحديقته. (وكالعادة يكون الأخ الشرير هو الأكثر إثارة من الأخ الطيب). وتعيش سلالتهما المتكاثرة البؤس والشقاء بجوار بوابة قصر سلفهم الجبلاوى المقيم والخفى وراء الأسوار، فهو محبوب ومرهوب ومخيف وغائب. ويحتكر وقفه ناظر جشع وباسمه يحكم الفتوات الناس ويسرقونهم. ويتبع أبناء حارة الرواية زعماء مختلفين يزعمون على مدار السنين أنهم التقوا بالجبلاوى أو أنه تكلم إليهم ويقودونهم لاسترداد ميراثهم. ويستحضر هؤلاء الزعماء [الأنبياء] موسى وعيسى ومحمد (فضلا عن زعيم رابع وأخير يمثل العلم الحديث). غير أنه مع نجاح كل ثورة وتحقيقها نظاما جديدا أكثر عدالة، يبدأ دائما فصل تال وقد رجع كل شيء سيرته الأولى: بناظر للوقف، وفتوات، وبؤس.
وصف محفوظ الرواية ب «الميتافيزيقية». وهى تتحرك عبر دوائر من الفضح والثورة، والانهيار والقمع، ويتساءل الراوى «لماذا يكون النسيان آفة حارتنا». وبرغم أن فى الرواية بعدا أسطوريا، فإن أبطالها بشر. وأهم لحظات حياتهم من حب وحزن وموت محفورة فى الرواية حفرا واضحا. فيكتب محفوظ عن رجل يسوقه أعداؤه إلى الموت قائلا إن حزنا عميقا ومطلقا قد استولى عليه، طامسا جميع مخاوفه. وبدا له أن الظلام سوف يسيطر على الأرض. ورجل آخر غارق فى حب زوجته فيدنو منها فى ليلة عرسهما وقد بدت جميلة وقورا لينة الجلد مشعة الإشراق حتى لقد شخصت إليها الجدران فى النور اللؤلؤى.
نشرت الرواية مسلسلة فى الأهرام سنة 1959، ولفتت نظر السلطة الدينية العليا فى البلد وهى الأزهر فاعتبرها تجديفا. وقد أشرف على نشرها فى الأهرام رئيس تحريرها محمد حسنين هيكل المقرب من جمال عبدالناصر ولكن محفوظ لم يسع إلى نشرها فى مصر بعد ذلك قط. وبعدما فاز بجائزة نوبل بعد عقود جدَّد الإسلاميون المتطرفون ادانتهم للرواية وكانوا فى التسعينيات يواجهون الدولة بعنف مستهدفين بعضا من المثقفين.
أثارت الرواية سؤالا لا يزال يخيِّم على البلاد العربية والإسلامية: ما العلاقة بين الدين والسياسة وكيف ينبغى أن تكون؟ الدين فى أولاد حارتنا قوة تحشد ضد الظلم وستار يغطى عليه فى الوقت نفسه. ومحفوظ يعرض مارقا من سطوة الدين لكيفية استعمال كل دين فهو لا يقصر حديثه على الإسلام كقناع ووسيلة لتحقيق مآرب دنيوية. وتبرع الرواية بصفة خاصة فى التقاط تعبير جماعة من الناس عن القسوة أو الخوف أو الغضب أو الشجاعة. ومن ذلك على سبيل المثال أن جماعة من الناس تجترئ على أن تحول بين شاب وفتوة كان يعتزم أن يضربه، فتتناسب شجاعتهم عكسيا مع احتمال تحديد شخصياتهم:
«قال أحد الواقفين فى الصف الأول:
فتوتنا وتاج رأسنا، وما جئنا إلا لنسألك العفو عن الرجل الطيب.
وصاح رجل من وسط المظاهرة متشجعا بالزحام ومكانه فيه:
فتوتنا على العين والرأس، لكن ماذا فعل رفاعة؟
وصاح ثالث فى آخر المظاهرة مطمئنا إلى تواريه عن متناول عين الفتوة:
رفاعة برىء والويل لمن يمد له يدا بسوء».
لكن برغم أن راوى محفوظ يلاحظ الناس بشدة ويرى أى ضعف يمكن أن ينحدروا إليه، فإن تعاطفه معهم لا ينقص بسبب ذلك، بل إن العكس فى واقع الأمر هو ما يحدث.
هذه الرؤية الحادة والمتسامحة تظهر أيضا فى بعض الأوقات فى مقالات محفوظ. فهو يكتب ردًّا على شابة غاضبة مما تراه من نفاق ووضاعة فى كل مكان قائلا: «يا سيدتى، ارجو أن تتخلى عن شيء من مثاليتك، وليس عن قليل منها. فالمجتمع الذى تنظرين إليه من أعلى قد عانى الكثير من الظلم والحرب والفقر والأزمات. ولا تنتظرى منه أن يكون صورة جميلة للنظافة والأناقة والصحة. واعلمى أن فى خير الناس والناس جميعا دوافع شرسة وأنهم قد ينطوون على قدر مخيف من الأنانية والكبر والجشع». ويرد على صاحب رسالة أخرى يدعوه إلى المناداة بالإصلاح الدينى فيقول «إن ما أريده يا سيدى هو الفعل والسلوك، وليس الاستشهاد بالآيات الجليلة مع عدم العمل بها».
غير أن هذه اللمحات من شخصيته نادرة نسبيا. فمحفوظ يظهر فى أغلب الوقت واضحا بسيطا وقويا. وفى بعض الأحيان يخون مبادئه الليبرالية والديمقراطية. ففى مقالة عن الفساد يكتب أن «حاجتنا إلى أحزاب ومنابر سياسية قد تكون أقل فى هذه اللحظة على الأقل من حاجتنا إلى ضباط شرطة ومخبرين وسجون ومشانق».
فى الوقت نفسه، وتعليقا على كثر من الأحداث الجارية، يحتفظ محفوظ بما يسميه رشيد العنانى «صمت الحكماء». فلا يكون لديه ما يقوله عن مظاهرات الخبز سنة 1977 (وهى شبه ثورة قامت على التقشف الذى فرضه صندوق النقد الدولى) كما يبدو أنه يقبل بظاهر دعاوى التعددية السياسية وتحرير الصحافة التى نادت بها حكومة أنور السادات.
كان محفوظ فى نهاية المطاف يقول كلمته عن أغلب ثورات مصر وأنظمتها، ولكن فى الوقت المناسب له، وبشروطه (وأحيانا بعدما تتوافر بموت الرئيس مسافة آمنة). فى كتاب ذكرياته، يصف الغيطانى اعتياد محفوظ تجاهل الأسئلة التى لا يريد أن يجيبها، أو الصمت طويلا إلى أن يسلك الحوار مسارا آخر، ثم يفاجئ الجمع بملاحظة عن الأمر فى النهاية. كان ثمة فجوة مماثلة فيما يتعلق بردود أفعاله على التغيرات السياسية الهائلة التى عاشها، وفى أدبه وحده يطرح محفوظ شواغله وملاحظاته السياسية فى قالب أكثر ثراء وأصالة وتعقيدا. ففى الروايات التى كتبها فى الستينيات ك «ثرثرة فوق النيل» و«اللص والكلاب» و«ميرامار» قبض محفوظ على ما كان أخيرا من شك فى ثورة 1952 وتبدد للأوهام المتعلقة بها حينما تكشفت نقائص عبدالناصر وطغيانه. ففى رواياته جميعا فى هذه المرحلة جرائم قتل، وهذا العنصر الإثارى جزء من أجوائها الملتهبة. إذ تدور أحداث روايات الستينيات فى عوالم عبثية وظالمة لا يعرف أهلها ما الذى يمكنهم أن يصدقوه، ويتجادلون فيها حول أفعالهم إلى ما لا نهاية، ويرجعون النظر فى مبادئهم، بل يتشككون فى حقيقة واقعهم. وهذه الروايات فى نقدها الواضح والشفرى أيضا لنظام ناصر تتسم بكثير من الجرأة.
بعدما مُنى عبدالناصر بالهزيمة من إسرائيل سنة 1967 وبعد وفاته سنة 1970، كتب محفوظ بمزيد من الصراحة عن نقائص النظام السابق. فروايته «الكرنك» الصادرة سنة 1974 مستوحاة من تجربة تعرضه شخصيا للتجسس فى المقاهى. حيث يصف الرواى حياة الناس جميعا فى حقبة قوى خفية، يحوم فيها الجواسيس فى الهواء الذى يتنفسونه، أشباحا فى وضح النار. وبرغم أن طلبة الرواية الذين يلتقون فى المقهى لا يضمرون أى نوايا تخريبية فهم يتعرضون للاعتقال والتعذيب وإرغام بعضهم على الوشاية ببعض، وهم أبناء ثورة 1952 الذين تعرض إيمانهم بها للخيانة والانكسار. فحينما يخرج أحد الشخصيات من المعتقل وقد أنهى فترة اعتقاله الثالثة، يعرف أن الدول العربية مُنيت بهزيمة ساحقة من إسرائيل فيملؤه اقتناع بأنه والناس جميعا كانوا يعيشون أكبر كذبة فى حياتهم كلها.
لقد تعرَّض محفوظ شأن المصريين جميعا لصدمة عنيفة جراء النتيجة المفاجئة التى انتهت إليها الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1967. لكنه انتهى إلى القول بأنه لو لم تكن مصر قادرة على الانتصار عسكريا على إسرائيل، فعليها أن تسعى إلى تسوية سياسية. وأيّد رحلة السادات إلى القدس ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979 فكان ذلك من أشد مواقفه العلنية جرأة. وقد أعقبت ذلك دعوات إلى منع تداول كتبه فى العالم العربى.
كانت فترة حكم السادات من أصخب فترات التاريخ المصرى. كانت المعارضة قوية لمعاهدة السلام التى وقعها مع إسرائيل ولسياسة تحرير الاقتصاد وما أعقبها من فساد جامح. ولكن القارئ لا يكاد يعرف شيئا من هذا من خلال مقالات محفوظ. فعندما رسم محفوظ صورة قاسية لعصر السادات، كان ذلك مرة أخرى فى رواية هى «يوم قتل الزعيم» نشرها بعد اغتيال السادات سنة 1981. فى المقابل جاءت المقالة التى نشرها فى الجريدة بعد ستة أيام من موت السادات بعنوان «عصور وزعماء» منقطعة الصلة تماما وعلى نحو غريب. فهو يصف إنجازات عبدالناصر والسادات والرئيس الجديد حسنى مبارك وصفا يليق بكتاب دراسى ويشير إلى أن كلا منهم تقدم لقيادة مصر فى لحظة كانت مصر فى أمس الاحتياج إليه، بما فى ذلك مبارك الذى يتقدم الآن ب «ثورة أخلاقية ملهما أملا جديدا».
وهكذا فإن المقال ممارسة لكتابة أدباء البلاط إذ يبذل أقصى الجهد فى امتداح الحاكم الجديد. قد يكون محفوظ حريصا على مصلحته الشخصية، لكنه فى الوقت نفسه لا يخلو من إخلاص. ومثلما يصدق على أغلبية المثقفين المصريين، فإن وطنية محفوظ كانت تعنى أنه مهما عرف من الحقيقة وتحرر من الأوهام، فإنه لا يمكن أن يعادى الدولة، فقد كان معنى ذلك أن يترك الحارة ويهيم فى البرية ضالا فى الصحراء. والحق أنه كان يجد المبرر لتوجيه النقد حينما كان يوجهه بسبب ولائه وتبنيه الشخصى لمصالح مصر.
فى أثناء سنوات مبارك، تضاءل تدريجيا انخراط أدب محفوظ فى السياسة. فقد بات الكاتب الشيخ ينظر فى أغلب الأحيان إما إلى الماضى أو إلى الداخل. ويقول لنا راوى أولاد حارتنا:
«كنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة فى حارتنا على رغم ما جرّ ذلك على من تحقير وسخرية. وكانت مهمتى أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات... أطلعنى [ذلك علي] أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيّق صدرى وأشجن قلبى».
ومحفوظ نفسه كان أبعد ما يمكن عن الغم، ولكنه قال مرة للغيطانى إن المصريين لم يعرفوا على مدار تاريخهم إلا الخيبات.
فقد كانت لحظات الأمل كثورتى 1919 و1952 تعقبها دائما لحظات انحسار وإخفاق وقمع: «لا نكاد نشم أنفاسنا، حتى نجد من يجثم علينا ويكتم أنفاسنا وخرب حياتنا». غير أنه بقى مصرا على أن كتابته كلها «نضال ضد التفاهة» لم يتخل عنه قط.
عن مجلة ذى نيشن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.