بينما كان الرئيس عبد الفتاح السيسى يتحدث أمام الندوة التثقيفية الثلاثين عقب حادث قطار محطة مصر المؤسف، فوجئ الحاضرون بصراحة الرئيس الشديدة عندما قال حرفيا: «نحن نتخذ إجراءات لكى نضبط أداءنا». وتساءل الرئيس: «هل يصح أن يأخذ أحد «استروكس» ويترك جرار قطار منطلقا كصاروخ طائر على الأرض لكى يفجر أولادنا وأهالينا فى محطة مصر؟»، وأكمل الرئيس بحسم شديد: «لا ولن نسمح وسنحاسب بالقانون الذى وافق عليه مجلس النواب الذين يثبت تعاطيهم المخدرات.. سيتم إنهاء خدمتهم فورا..»، وزاد الرئيس قائلا: «التحاليل سنجريها دون مجاملات فى كل المرافق والقطاعات والوزارات». انتهى كلام الرئيس الحاسم، ودخلت القضية حيز التنفيذ على أرض الواقع، فبدأت تحركات العديد من الجهات المعنية لإجراء التحاليل والكشف عن المتعاطين. «الأهرام» أعدت سلسلة من الحلقات تحمل عنوان «كلنا ضد المخدرات.. نعم للتحليل والعلاج».. وفى هذه الحلقات رصدنا تفاصيل كثيرة، ونقلنا حكايات المتعافين والمتعاطين، وزرنا بعض البؤر والمناطق التى يجرى بها ترويج المخدرات ومراكز علاج الإدمان، وأعددنا حلقة عن العائدين من «الإستروكس» وقبل هذا وذاك رصدنا جهود وزارة الداخلية فى محاصرة هذه الظاهرة التى تضر بشبابنا..
مشاهد درامية تتكرر فى أروقة بعض البيوت، فقد يكون رب أسرة مدمنا أو أحد الأبناء يتعاطى المخدرات، وتبدأ أحداثها بصديق سوء يدعو صديقه للتجربة وينتهى أول فصولها بالمقر الذى أصبح شبه رسمى، وهو تلك المنطقة المريبة التى تلقب ب (الشون) على طريق مصر الإسماعيلية الصحراوى وقبل بوابة الرسوم لمدينة بلبيس مباشرة، حيث يقصدها (الضريبة) وهم المتعاطون للبودرة أو الهيروين، وتجد الشباب فيها يتركون سياراتهم الفارهة، وينتظرهم سائق دراجة بخارية (موتوسيكل) ليقلهم عبر مدقات وأنفاق بغرض الوصول الى «دولاب المخدرات» وهو مركز البيع، ورغم اختلاف طرق التعاطي، إلا أن الوصول الى هذه المنطقة يعنى أن المدمن دخل أقصى درجاتها وهى «الحقن» . المشهد الهزلى هو محاولاتنا اقتحام هذا العالم، مفترضين بعض درجات الأمان، ولكن العكس بدا واضحا للوهلة الأولي، حيث تم التنسيق مع «شيخ العرب» وهو أحد رجال المنطقة هناك من أصحاب الكلمة المسموعة، والذى أكد أنه من المستائين من الوجود المستمر للمخدرات، المنطقى أن يرافقنا أحد الأهالى لتأميننا وتسهيل مهمتنا، مستقلين سيارته الخاصة باعتباره أحد سكان المنطقة المسموح له بالتجول فيها مع ضيوفه لتبدأ رحلتنا، ولذلك طلب منى ارتداء عباءة سوداء للتمويه والاحتياط، ومن أمام الطريق الرئيسى ينتظر سائق الموتوسيكل الملثم مريديه، الذين يعرفهم جيدا لأنه من أبناء المنطقة، ويعرف من الذى يحتاج للمخدر من غيره، ويقلهم مسافة لا تتجاوز 2 كيلو متر داخل الدهاليز، ويدفعون فى التوصيلة بين 50 الى 100 جنيه، لأنهم لا يستطيعون دخولها بسياراتهم أو مترجلين. وفى السيارة تتبعناهم ولأن صاحبها من أبناء البلدة الذين يعمل معظمهم بالزراعة أو المهن المختلفة أو حتى العمل فى العاشر من رمضان .. تستطيع فرزهم ومعرفة أى منهم جاء ليبنى فى عمله، وأيهم جاء المكان ليهدم نفسه بحثا عن الموت، لأن ميعاد تدوير دولاب المخدرات يبدأ من السابعة صباحا مع شروق شمس كل يوم جديد، لتكتب نهاية أحد أبنائنا أو اكثر، وعندما سرنا على هذا الممر الضيق الذى يحتمل السيارة بالكاد لندخل الى «ترعة قطة» التى تنتهى بدولاب المخدرات، بدأت الأنفاس «المحبوسة» تتلاحق، فقد رأيت فى هذه الترعة مئات من «السرنجات» المستعملة، وبعضها ملوث بدم لم يتجلط بعد. وتجاذب شيخ العرب مع أحد الأهالى هناك الحديث، مشيرا الى مدرعة وجدناها تجوب الطريق، وقال إن الشرطة تداهم المنطقة بالفعل منذ فترة، وتركت المدرعة تمر، وقضت على 50 % وربما يزيد من هذه التجارة، إلا أنه ما زال العمل مستمرا هنا وهناك، من يرتبون المقابلات بالتليفون، وبعد مرور المدرعة، وفى لحظات خرج أحدهم يسألنا : هل تريد الدولاب؟ وطلب منه أرقام هواتفنا، ولكن مضيفنا لم يرد، فشعر السائل بالريبة فتتبع السيارة، وعندما وقفنا قليلا مع أحد الأهالى الذين لا يسعى سوى إلى لقمة العيش، اقترب الشخص الذى استوقفنا وتحدث بحدة مهددا لأن وقوفنا «خطأ» وإذا استمرت وقفتنا سيحدث ما لا تحمد عقباه، وهنا انتفض «شيخ العرب» وهدده أيضا بأنه من رجال المنطقة المحترمين، فارتدع «مندوب الخطر» بعض الشيء وقال : «نخشى عليكم تبعات الانتظار أمام (ترعة قطة)». هنا ارتجفت رعبا عندما اقتربت سيدة يبدو عليها أنها ليست من أهالى العزبة، ويظهر على ما تبقى من وجهها الشاحب علامات التعاطي، وحكى لنا أحد سكان المنطقة حكايتها، وأنها كانت تأتى بسيارة فارهة ومن شدة جمالها كانوا يخشون النظر اليها حتى وصلت بها الحال الى خسارة ثروتها حتى صارت كالمتسولات. أما القصة الأخرى التى رواها أحدهم، تتعلق بسيدة جاءت هنا مصطحبة طفلتيها الصغيرتين لتشترى تذكرة بودرة، وأخذ الاطفال ينظرون لطعام أحد باعة المخدرات أمامهم فترك البائع طعامه للأطفال، ولكن الأم التى سلب منها الإدمان كل معانى الشفقة والإحساس التهمت الطعام بالكامل دون التفكير فى طفليها. بساتين الإسماعيلية وبينما كنا نتحدث لم تنقطع أصوات الموتوسيكلات التى مازالت تقل الباعة و (الضريبة) على السواء، ولكن جاء أحدهم مترجلا وكان منتفخ العينين يسير باحثا عن ضالته، متجها الى «دولاب المخدرات» عند نهاية «ترعة قطة» ومع أننا استطعنا إيقافه وسألناه عن قصته، لكنه لم يهتم وبدا عليه الخوف، فتركنا مسرعا، فانصرفنا وأكملنا جولتنا بقرية بساتين الإسماعيلية، والتى تشتهر بأن بها العديد من العزب التى تمتهن الاتجار فى المخدرات، وهذا لا يمنع أن بها عائلات محترمة وشبابا يرفضون هذه الأعمال المشينة، وبها عزب يبيع بعض روادها المخدرات، مثل الرويسات والتل والرضاونة والجبل نمرة 1 ونمرة2 وعزبة زكى والخشاينة، وقد وصلنا فى عزبة الجبل إلى منزل مهدم بالكامل يردد الأهالى أن الشرطة هدمته، وهو منزل لأشهر تاجر مخدرات هناك، هو السيد أبو مريشد، ولا تزال أطلاله موجودة وكأنها شاهدة على أن رواد تجارة المخدرات يستوطنون هذه المنطقة، والحرب بينهم وبين الشرطة قائمة لسنوات، ولكن منذ مجيء المدرعات ومرورها باستمرار، فيؤكد الأهالى أن مظاهر الاتجار قلت كثيرا، فقد كان البنات والشباب يركبون معهم فى سيارات نصف النقل التى تنقلهم لمدارسهم فى الطريق، مما يسبب خطرا على سكان المنطقة، ورغم أن هذا المشهد قل بعد الوجود الأمني، إلا أنه مازال موجودا، حيث يتعاطون الجرعات فى الشارع أمام المارة، ويحقنون أنفسهم فى مشهد يثير قلق الأهالى على أنفسهم وبناتهم، لأن منهم كثيرين محترمين يعملون لأجل لقمة العيش الحلال . ونحن مازلنا أمام ترعة قطة المحاطة بالأراضى الزراعية، ولكنها جافة، أشار أحد المزارعين الى السرنجات الملقاة والتى تحول دون الزراعة أو نزول أحد الترعة، فلا نستطيع أن نروى منها حتى عندما تأتى حصة المياه. لم تنته جولتنا عند كل هذه الآلام، بل انتهت رحلة البحث عن الموت بشخص تائب فاستجاب الله لدعائه بأن يعفيه من ذل التعاطى والاتجار، والذى أكد لى أنه كان قد وصل الى درجة كبيرة من الإدمان جعلته يتاجر فى البودرة ليلبى احتياجاته منها، ويؤكد أن لا شيء كان يسعده إلا وجودها فى جيبه، وما إن تختفى يشعر بالتعاسة والخوف، وإذا تأخرت الجرعة أشعر وكأنى مجنون ذهب عقله، وأن الجميع يكرهونني، وأنا أكره كل من حولي، وبعد التعاطى كان تأثيره يمتد الى 4 ساعات، والشيء الوحيد الذى أخشاه «الاستحمام بالماء البارد»، والمدمن فى البداية تستطيع أن تعرفه بسهولة، فإذا كان رب أسرة تجده عصبيا على أتفه الأمور، ثم يضحك فجأة وكأن شيئا لم يكن، أما المراهقون فتجدهم يكذبون باستمرار ويختلقون آلاف الحيل بلا داع للحصول على المال لشراء الجرعات، كما أن شهيتهم للأكل تقل ويشربون العصائر بكميات كبيرة وينامون فى مواعيد غير منتظمة، وإذا وصل بعضهم الى مرحلة تحطيم البيت للحصول على المال، فاعلم أنه وصل لمرحلة متأخرة من الإدمان. المدرعات تجوب المنطقة تركت المنطقة والحزن يملأ قلبى على شباب يضيع على أيدى مخربين بلا ضمير، وذهبت الى دوار عمدة قرية بساتين الإسماعيلية الحاج سعيد زيدان، والذى أكد أن المدرعات تجوب المنطقة باستمرار، ووجود التجار فيها قل بشكل كبير فعلا، لكن اتساع الظهير الصحراوى حولها هو السبب باعتبارها امتدادا لمنطقة السحر والجمال التى داهمتها الشرطة وقضت عليها فعلا، وأوضح أن القرية يتبع لها 26 عزبة، منها ما يتاجر فى البودرة فعلا، وهى عزبة ذكى وأبو هيف وترعة قطة والجبل نمرة 1 و2 و4، ولكن الشرطة تسيطر الآن على المكان.