يواجه النظام الإقليمى العربى تحديات كثيرة غير مسبوقة ،خاصة فى العقد الأخير وتتجسد فى مجموعة من التهديدات أولها: أن المنطقة العربية تحولت لساحة لصراع المصالح والأجندات بين القوى الإقليمية والدولية, وزيادة التدخلات الخارجية والتى وظفت حالة السيولة التى مرت بها بعض الدول العربية واندلاع الحروب الأهلية فيها, لتزيد من نفوذها ودورها فى إدارة تفاعلات تلك الأزمات والصراعات على حساب الدور العربى, وهو ما أثر سلبا على المصالح العربية ،سواء من ناحية تعقد تلك الأزمات وإطالة أمدها أو من ناحية تعرض الأمن القومى العربى للخطر مع تغلغل بعض الدول مثل إيران فى شئون العالم العربى تحت غطاء الطائفية وعبر أدواتها من التنظيمات والحركات الموالية لها. وثانيها: أن الدولة الوطنية العربية تمر بأزمة كبيرة فى ظل تزايد الفاعلين من غير الدول فى بعض الدول العربية مثل ميليشيا الحوثى فى اليمن وحزب الله فى لبنان وحركة حماس فى غزة والميليشيات المسلحة فى سوريا والعراق وليبيا والصومال، حيث أصبحت تلك الميليشيات تشكل تحديا وكيانات موازية للمؤسسات الشرعية خاصة مع تشابكها واستقطابها وتحالفها لحساب أطراف وقوى خارجية تدعمها لوجيستيا وماليا وعسكريا, يضاف إليها التنظيمات الدينية الإرهابية التى توظف الدين لأغراض سياسية مثل داعش وجبهة النصرة وغيرهما. وثالثها: أن حالة الضعف العربى والأزمات التى تعيشها بعض الدول العربية أغرت الكثير من القوى الإقليمية والدولية لتنفيذ أجنداتها ومصالحها على حساب المصالح العربية، فقرارات الرئيس الأمريكى ترامب بشأن الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان وقبلها الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، يمثلان تحولا كبيرا فى السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربى الإسرائيلى، فرغم الانحياز الأمريكى لإسرائيل خلال معظم الإدارات الأمريكية ومنذ انطلاق عملية السلام فى مدريد منذ أكثر من ثلاثة عقود, إلا أنه لم يكن بهذا الانحياز العلنى والمستفز الذى قامت به إدارة ترامب، فلم يقدم أى رئيس أمريكى على تقرير وضع القدس أو الجولان بقرارات منفردة, وكانت السياسة الأمريكية تقوم على الأقل ظاهريا بالمطالبة بحل الصراع عبر المفاوضات، إلا أنها عمليا كانت تنحاز للمواقف الإسرائيلية وهو ما جعل إسرائيل تستخدم عملية السلام كوسيلة لإضاعة الوقت ،وتنفيذ سياسة الأمر الواقع فى نشر المستوطنات وتهويد القدس لتظل عملية السلام فى حالة موت سريرى, غير أن قرارات ترامب بشأن القدس والجولان جاءت لتعلن بشكل رسمى وفاة عملية السلام، فإذا كانت الولاياتالمتحدة تستبعد القدس والجولان فعلى ماذا يتم التفاوض فى أى عملية سلام مستقبلية؟!. رغم أن أمن إسرائيل والدفاع عن مصالحها يمثل أحد ثوابت السياسة الأمريكية فى المنطقة, ورغم أن الاعتبارات الانتخابية الأمريكية وتأثير اللوبى اليهودى يلعبان دورا مهما فى الانحياز الأمريكى لإسرائيل على مدى كل الإدارات الأمريكية والتى تتبارى فيما بينها فى إظهار هذا الانحياز, إلا أن خطورة قرارات ترامب بشأن القدس والجولان تحمل تداعيات خطيرة, ليس فقط أنها تهدم عملية السلام وتمثل بيئة مواتية لعدم الاستقرار فى المنطقة, وإنما لأنها تعطى الذريعة للتنظيمات المتطرفة والدول المارقة مثل إيران للمتاجرة بالقضية الفلسطينية والجولان والمزايدة عليها وتبرير تدخلاتها، رغم أن الوجود الإيرانى فى سوريا كان أحد الذرائع التى استخدمتها الولاياتالمتحدة لتبرير قرار الجولان، ثم إن السياسة الأمريكية بشأن القدس والجولان لا تخدم إسرائيل بل على العكس تضر بها، فسياسة الاحتلال وفرض الأمر الواقع لا يمكن بأى حال أن توفر الأمن والاستقرار لإسرائيل، وإنما السلام العادل والشامل هو السياج الذى يوفر الأمن والسلام للشعب الإسرائيلى ويجعله فى وضع طبيعى ضمن محيطه العربى فى إطار علاقات ترتكز على الاحترام والتعايش, وبالتالى فإن غياب السلام العادل يشكل لغما يمكن أن تنفجر فى أى لحظة مع تغير موازين القوى, وهذا ما أثبتته التجارب السابقة حيث إن منظومة القبضة الحديدية أو سياسة الحصار لم تمنع الصواريخ من اختراق المدن الإسرائيلية. كما أن قرار ترامب بشأن القدس والجولان ينزع الجانب الأخلاقى عن الولاياتالمتحدة وإسرائيل بانتهاكهما القوانين والأعراف الدولية وميثاق الأممالمتحدة الذى يرفض الاحتلال وضم أراضى الغير بالقوة العسكرية. القمة العربية الأخيرة فى تونس مثلت الحد الأدنى من تماسك النظام الإقليمى العربى ونجحت فى إيصال رسالة قوية للخارج سواء الدول التى تتدخل فى المنطقة مثل إيران وتركيا, أو للولايات المتحدة ورفض قرار الرئيس ترامب بشأن الجولان وهو ما يمثل حائط صد أمام طرح ما يعرف بصفقة القرن، وأمام إقدام دول أخرى على اتباع السلوك الأمريكى, لكن تعزيز النظام الإقليمى العربى يتطلب خريطة طريق عربية واضحة تشمل التحرك عبر عدة مسارات متوازية ومتكاملة ومتزامنة وتتضمن تفعيل الدور العربى فى تحقيق التسوية السياسية السلمية للأزمات فى سوريا واليمن وليبيا،ودعم وتعزيز الدولة الوطنية فى تلك الدول, وبناء جبهة عربية موحدة للتصدى للتهديدات الإيرانية, والتحرك لإجهاض قرار ترامب بشأن الجولان على المستويات الدولية والمنظمات العالمية, لكن يظل الحفاظ على النظام الإقليمى العربى ومنعه من الانهيار مرهونا بتوافر الإرادة السياسية العربية الحقيقية. لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد