تناولت في مقالين سابقين جوانب مختلفة بشأن تأصيل معني الدولة المدنية.. وهنا التتمة.. يخطئ الكثيرون عندما يتصورون أن الرئيس في الدولة المدنية لا ينبغي أن يتصف بأي صفة عسكرية, أو ينتسب إلي القوات المسلحة. والواقع أن هذا وهم شائع, تسببت فيه كثرة الانقلابات العسكرية التي قام بها الجنرالات في العالم الثالث, انقلابا علي الديمقراطية في الغالب, أو علي حكومات استبدادية أخري, يرأسها جنرال يعتمد علي القوة المسلحة. ولكن تاريخ الديمقراطيات الغربية الحديثة نفسها في أوربا والولايات يدفعنا إلي مراجعة هذا الوهم, فالأهم من مهنة الرئيس قبل توليه الرئاسة هو استعداده وتقبله لمبادئ الدولة المدنية الحديثة, سواء من حيث هي دولة يحكمها- كما يحكم رئيسها- الدستور والقانون, أو من حيث التكوين الفكري والسياسي لوعي الرئيس الذي تترسخ فيه أصول تداول الحكم بين القوي السياسية بتعدد أحزابها, كما يترسخ مبدأ الفصل بين السلطات الذي لا يختل إلا في حال تحول الرئيس إلي ديكتاتور والدولة إلي دولة متسلطة, يحتكر القوة والثروة فيها حزب حاكم أو مجموعة بعينها يخضع لها الرئيس الذي يمثل مصالحها أو يحرسها, علي نحو ما انتهت إليه علاقة الرئيس السابق حسني مبارك الذي أضاعه أصحاب المصالح الكبري في الحزب الوطني, وأضاع هو نفسه عندما سمح بمبدأ توريث السلطة والثروة في آن. ولم يكن ذلك لأن حسني مبارك عسكري, وإنما لأن المبادئ والقيم التي كان ينطوي عليها أصابها العطب والفساد في سنوات حكمه الطويل, وانتقل من رئيس واعد, عندما أقام المصالحة الوطنية بين الفرقاء بعد اغتيال السادات, إلي رئيس ديكتاتور, لم يسمع إلي نصح الشرفاء الذين استبدل بهم عصبة الشر التي قادته إلي قرارة القاع من إفساد الديمقراطية, وتدمير معاني المواطنة, والإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات, ونسف إمكان تداول السلطة وما يقترن بهذا المبدأ من تحويل التعددية الحزبية إلي تعددية هزيلة لا حول لها ولا قوة, خصوصا بعد أن قام بتدجين الأحزاب المعارضة وتهميشها لحساب الحزب الإقصائي الفاسد: الحزب الوطني. ولم يرتكب حسني مبارك هذه الآثام لأنه ينتسب إلي العسكر, وإنما لأنه ينتسب إلي قوة رأسمالية فاسدة, تشكلت أيام السادات, وواصلت نفوذها مع تعاقب سنوات حكم حسني مبارك, إلي أن وصلت إلي ذروة الفساد في وزارة نظيف التي كانت تحالفا بين كبار رجال الأعمال (الفاسدين في الأغلب) وحكومة الحزب الوطني التي قادت الوطن إلي الهاوية التي كانت العامل الأساسي في انفجار ثورة يناير التي لم تحقق أهدافها, ولم نعرف الكثير مما صاحبها من أحداث وملابسات ومداخلات لا تزال في طي الكتمان لا يعلمها إلا علام الغيوب. وإذن, فالصفة العسكرية ليست علامة سلب أو إيجاب في ذاتها, وذلك بدليل الفارق الرهيب بين مبارك وعبد الناصر الذي رفع ثوار التحرير صوره واسترجعوا أغنيات زمنه, فقد شهد زمن عبد الناصر العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وغيرها من الشعارات التي نادي بها ثوار التحرير, كي يحققوا حلما بإسقاط النظام, وأرجو بقدر ما أدعو الله ألا ينقلب هذا الحلم الذي اختل إلي كابوس. لا يوجد ما يمنع من الإشارة إلي الجنرال ديجول (1890-1970) الذي يذكر دائما بلقبه العسكري, وكتب عدة كتب حول موضوع الإستراتيجية والتصور السياسي والعسكري. ولم نسمع عن أن الصفة العسكرية للجنرال ديجول دفعت به إلي أن يؤسس لدولة استبدادية عسكرية, بل علي النقيض ويكفي في الدلالة علي إيمان ديجول بالثقافة المدنية وفنونها الرفيعة تعيينه أندريه مالرو أحد أبرز مفكري عصره ومثقفيه ومبدعيه وزيرا للثقافة في زمنه. وإذا انتقلنا من فرنسا إلي أمريكا يخطر علي البال فورا الجنرال جورج واشنطن قائد قوات تحرير أمريكا وأول رؤسائها. وبعده أندرو جاكسون الرئيس السابع الذي كان الحاكم العسكري لولاية فلوريدا. وأعبر ثيودور روزفلت الذي بدأ حياته ضابط شرطة في مدينة نيويورك, لأصل إلي فرانكلين روزفلت الذي قاد الحلفاء إلي ما يقرب من النصر الذي أكمله نائبه هاري ترومان الذي بدأ حياته ضابطا في المدفعية, وهو الذي أعطي الأمر المباشر بإلقاء القنبلتين النوويتين علي هيروشيما ونجازاكي, فأنهي الحرب لكنه حمل وصمة جريمة كبري ضد الإنسانية. ولن أنسي جيمي كارتر الذي بدأ حياته في سلاح البحرية الأمريكي, وأخيرا جورج بوش الأب الذي عمل ضابطا في الجيش الأمريكي مثله مثل كيندي. ولا يعني ذلك كله سوي حقيقة بسيطة, مؤداها أن الصفة العسكرية لا تنعكس بالسلب إلا علي من تصيبه آفة التسلط لهذا السبب أو ذاك, فضلا عن أن هذه الصفة سرعان ما تذوب وتختفي, إذا كانت موجودة أصلا في حالة سلامة مؤسسات الدولة المدنية الحديثة ولوازمها( الدستور والقانون) ومبادئها. فالدولة المدنية الحديثة هي التي تستمد فيها السلطة من الأمة, ويكون الحق فيها فوق القوة, والأمة فوق الحكومة أو الرئيس. ويكون الرئيس في هذه الحالة موظفا لدي الأمة لوقت معلوم متفق عليه بحكم الدستور, ويمارس سلطاته مع وجود رقابة عليه من السلطة التشريعية, ويكون خاضعا لأحكام السلطة القضائية شأنه شأن أي مواطن, ويظل مرضيا عنه ما ظل رئيسا لكل الأمة بكل طوائفها حتي تلك التي تعارضه. ولا علاقة للدين بهذه الأصول, سواء كان دين الرئيس أو أديان المواطنين, فالحكم للأمة بكل أديانها. وأول فتيل في القنبلة التي يمكن أن تطيح بنظام حكم أي رئيس, يشتعل مع التحيز السياسي أو الديني لحزب الرئيس السياسي أو جماعته الدينية. والبداية هي نسيان أن الحق فوق قوة جماعة الرئيس أو حزبه, في موازاة تجاهل أن الأمة- كل الأمة وليس بعضا منها- هي مصدر السلطات, فأصواتها هي التي أوصلت عظماء الحكام إلي كرسي الحكم, وهي التي أنزلتهم عنه. وفي مثال ديجول أسوة حسنة. المزيد من مقالات جابر عصفور