للمرة الثالثة تفشل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى فى تمرير اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبى. الدعوات إلى الخروج دون اتفاق باتت تتساوى مع دعوات إجراء استفتاء ثان قد ينهى المشكلة. الفوضى التى ستضرب بريطانيا سياسيا واقتصاديا سوف تضرب أيضا الاتحاد الأوروبى ولو لفترة من الزمن، الكثير من التكهنات حول مشكلات وتعقيدات قانونية ومالية وتجارية تبدو احتمالا مؤكدا، بما فى ذلك انفصال أيرلندا الشمالية وأسكتلندا من عباءة الدولة البريطانية، وهما أصلا يرفضان البريكست ويفضلان البقاء فى الإطار الأوروبى الأوسع، الذى يحقق لهما ضمانة حقيقية لحالة السلام السائدة فيهما فضلا عن مكاسب اقتصادية كبيرة. الكثير من الاجتهادات للساسة والقانونيين البريطانيين والأوروبيين تتحدث عن ماذا يمكن أن تفعل ماى فى غضون أقل من أسبوع لتمرير اتفاق الخروج دون أى تعديل حسب قرار الاتحاد الأوروبى، والبعض يطرح هنا استفتاء شعبيا ثانيا كخيار قد يؤدى إلى نتيجة جديدة تسمح بالبقاء فى الاتحاد ومن ثم تجاوز المخاطر المؤكدة فى حالة الخروج دون اتفاق. وهو ما تعارضه ماى ومتشددو حزب المحافظين باعتبار أن ما تفعله من أجل الخروج هو تطبيق والتزام بالخيار الديمقراطى الذى عبر عنه البريطانيون فى الاستفتاء الأول 2017 الذى أقر هذا الخروج. وفى الرد على ذلك يقول المؤيدون إن الاستفتاء الأول جرى فى ظل بيئة سياسية متوترة بسبب المخاوف من الهجرة الأجنبية وتأثيرها على بطالة البريطانيين وهوية المجتمع، وإن مؤيدى الخروج لم يذكروا الحقائق كاملة أمام الرأى العام، وكان ثمة خداع كبير وتجاهل للعواقب المؤكدة للخروج على الاستثمار فى بريطانيا وحرية التجارة وتكلفة الخروج نفسها التى تصل الى ما يقارب 50 مليار يورو، باختصار إن المصوتين لم يكونوا على إدراك كامل بطبيعة المشكلة التى سوف تواجهها البلاد فى حالة البريكست، وانهم الآن بعد عامين من المناقشات وإدراك الحقائق باتوا أكثر نضجا فى الإلمام بالمشكلات المتوقعة، ومن ثم سيكون اختيارهم مبنيا على حقائق تخص الأجيال المقبلة وليس بتأثير انفعال وقتى لمشكلة يمكن احتواؤها بشكل أو بآخر، وبتكلفة أقل جدا من التكلفة التى ستدفعها بريطانيا فى حالتى الخروج المنظم أو غير المنظم. الجدل حول دور الاستفتاءات فى النظم الديمقراطية القديمة ليس جديدا فى حد ذاته، وهو ما يفيد أيضا النظم الساعية بحق إلى أن تكون ديمقراطية مستقرة إجرائيا وقيميا. وفى حالة البريكست فإنها تعيد طرح قضية رئيسية وهى العلاقة بين القرار السياسى الذى يؤخذ بناء على الرأى العام فى لحظة زمنية بعينها بكل أبعادها الانفعالية والوقتية، وبين حقوق الأجيال المقبلة، وأيضا إشكالية الاستفتاء على قضايا تتعلق بالهوية، وإعادة تشكيل مسارات قانونية وسياسية ترسخت بفعل مرور مدة زمنية كبيرة على وجودها وترتب عليها مصالح كبرى يفترض الحفاظ عليها وتنميتها وليس إجهاضها فى لحظة عابرة. وكلا الأمرين يدخلان فى صميم الجدل حول مدى صلاحية الديمقراطية التمثيلية المعمول بها فى الغرب ودول أخرى لكى تظل نظاما أمثل للحكم فى ظل تغيرات كبرى تحدث فى العالم على الصعيد التكنولوجى والاتصالات والبيئة والمناخ والسكان وغيرها. وهناك دراسات عديدة رصينة نشرت فى الغرب عالجت منذ عقدين ما سمى العجز الديمقراطى، وتوصيفه انكشاف النظم الديمقراطية بصيغتها التمثيلية عن تقديم حلول للمشكلات بعيدة المدى وتخص الأجيال المقبلة وتراعى التحديات المستقبلية، وهو ما تم إعادته إلى قصور الرؤية لدى السياسيين المحترفين الذين يخوضون الانتخابات سواء البرلمانية أو الرئاسية وهدفهم الأكبر هو تحقيق الانتصارات السريعة من خلال التركيز على القضايا الجزئية وتقديم إغراءات مزيفة غالبا توحى لعموم الناس انها ستحقق لهم مكاسب كبرى، بغض النظر عن تأثير تلك المكاسب الآنية على حياتهم وحياة أبنائهم فى المستقبل القريب والبعيد على السواء. ومثل هذا التفسير يوجه بصورة مباشرة اتهاما لهؤلاء السياسيين بإفساد الديمقراطية، إضافة إلى الدور السلبى الذى تلعبه وسائل الإعلام المتحيزة والمؤدلجة وكذلك الشركات الكبرى التى تقوم بتمويل الحملات الانتخابية لهؤلاء السياسيين. وهكذا فالمسئولية عن إضعاف الديمقراطية التمثيلية هى مسئولية مشتركة لأكثر من طرف يعمل بدأب على تحقيق مكاسب آنية متجاهلا اعتبارات المستقبل. ولكن بعض الديمقراطيات باتت تدرك هذه الإشكالية، كما فى فنلندا ووجدت أن الحل يكمن فى وجود جهة رسمية تشكل بطريقة متوازنة من الخبرات والأجيال المختلفة، تنظر فى أى تشريعات أو مقترحات قوانين من زاوية مدى تأثيرها على المدى البعيد وحقوق الأجيال المقبلة. ومع ذلك توجه الانتقادات والضربات لتلك الخبرات من قبيل أنها ستؤدى إلى زيادة معدلات البيروقراطية والبطء فى اتخاذ القرارات فى الوقت الذى تتسارع فيه الأحداث وتتطلب إجراءات جريئة وسريعة. وانصار حقوق الأجيال المقبلة يردون على هذا الاتهام بالتأكيد أن اتخاذ قرار يستند الى معايير واضحة تحمى الحاضر والمستقبل افضل من مكسب سريع يؤدى الى كوارث، وأنه ليس من حق مشرعى اليوم أن يصادروا المستقبل. والحقيقة أن مثال البريكست فى بريطانيا والفوضى التى تطل برأسها على أوروبا والاقتصاد العالمى تثبت ان هناك حاجة ماسة الى مثل هذا النوع من الآليات التى تراعى حقوق الأجيال الجديدة. ومع ذلك يبقى البحث فى تطوير راديكالى يعيد صياغة العملية الديمقراطية برمتها مطلبا مهما للغاية. ولذا سيظل للاستفتاءات التى تعنى اللجوء الى الرأى العام من أجل حسم قضية ما ، مكانة رئيسية فى مثل هذا التطوير المرجو للعملية الديمقراطية، ولكن بطريقة اكثر انضباطا وأكثر مراعاة للحقائق من جميع الزوايا بالنسبة للقضية محل الاستفتاء. ومن هذه الضوابط المطلوبة أن يتم الاستفتاء على مرحلتين فصل بينها عام أو عامان خاصة بالنسبة للقضايا المصيرية الكبرى التى تعنى بتعديلات جذرية فى النظام السياسى أو هوية المجتمع، وأن توضع حدود عالية لمستوى المشاركة المطلوب فى الاستفتاء، بحيث لا تقل عن 60 أو 70% من إجمالى المصوتين، ولا يعتد بنسبة الاستفتاء إلا إذا زادت على ثلثى المشاركين. وأنصار تلك الضوابط يرون انها جديرة بأن تجعل خيارات الناس أكثر عقلانية وأقل انفعالية. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب