الوقائع التاريخية والسياسية الكبرى والصغري، تشكل غالبا مادة بناء للسرديات الكبرى فى تاريخ الأمم والشعوب والجماعات العرقية والدينية والمذهبية والسياسية والقومية. سلطة كل جماعة رمزية أو دينية أو مذهبية أو سياسية، تنسج سرديتها وتأويلاتها للوقائع الأساسية فى تاريخ الأمة أو الشعب أو الجماعة، وفق رؤيتها ومصالحها وتخيلاتها التى تكرس هيمنتها الرمزية، وشرعية وجودها وسلطتها إزاء سرديات أخري. صراع السرديات التاريخية هو جزء لا يتجزأ من الصراعات السياسية والأيديولوجية التى تستعر سياسيا فى ذات المراحل التاريخية التى تم فيها الحدث أو فى أعقابها، وسواء أكان هذا الحدث الكبير ثورة وفق الاصطلاح العلمى أو انتفاضة، أو تمرداً جماهيرياً أو لجماعة ما إزاء المستعمر أو السلطة الحاكمة. هذا النمط من الصراعات السياسية لا يقتصر على ذات الحقبة والمرحلة التاريخية، المواكبة للحدث التاريخي، وإنما يمتد إلى مراحل ما بعدية، خاصة إذا جاءت سلطة سياسية جديدة سواء من خلال الآليات الديمقراطية، أو الثورية، وتنزع السلطة الحاكمة الجديدة إلى بناء سردية جديدة للتاريخ الوطنى فى كل مراحله من وجهة نظرها ومصالحها، ورؤية حكامها ومؤرخيها للأحداث التاريخية الكبري. تاريخ الدولة والمجتمع والحركة الوطنية والجماعات التكوينية فى مصر الحديثة والمعاصرة، لا يزال أسير صراعات السرديات الكبرى والصغري، فى ظل سطوة النخب السياسية الحاكمة فى كل مراحله وتأثيرها على عملية صياغة السرديات التاريخية المؤسسة، دولة محمد على وإسماعيل باشا، والحركة العرابية، والانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1919، وحتى تأسيس نظام يوليو 1952 وإلى الآن. فى كل مرحلة ثمة سردية رسمية مهيمنة، تنتج وتدرس فى المدارس، وتشيع عبر أجهزة الإعلام، وكتابات عديدة على نحو أدى إلى إنتاج بعض من الأساطير والأوهام والأخيلة التاريخية المجنحة والتى لفرط تكرارها وشيوعها باتت تبدو وكأنها بمنزلة حقائق تاريخية!. من هنا بدت أهمية الجدل حول ما تم عام 1919، أو غيره من الأحداث الوطنية الكبري، وتكييف ما تم سياسيا واجتماعيا وثقافيًا من خلال استخدام منضبط للمناهج التاريخية، والموضوعية الصارمة، لاسيما فى ظل مرور مائة عام على الانتفاضة الوطنية الكبرى ومآلاتها، ونتائجها الإيجابية والسلبية فى مسار التطور السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافى المصري. إن مرور مائة عام على حدث تأسيسى فى تاريخ شعب ما، أو أمة، أو جماعة سياسية، يعنى أن تقوم النخبة المثقفة والأكاديمية والسياسية بإعادة النظر النقدية والتحليلية للسردية الكبرى وفرعياتها، وأطرافها وبنياتها، وذلك من خلال مقاربات جديدة، وضبط لوقائعها، أو الكشف عن وثائق جديدة أو الكتابة عن بعض الشخصيات المنسية أو المهملة التى لعبت أدواراً، وتم تهميشها من الأطراف التى سيطرت على مسرح الأحداث. الاهتمام الذى بدأ خافتًا ثم أخذ فى التبلور والتزايد حول الانتفاضة الوطنية ضد المستعمر البريطانى عام 1919 هو جزء من صراع السرديات، والتوظيفات السياسية لهذا الحدث الكبير فى التاريخ المصري، والذى شكل ولا يزال أحد محاور الصراع على التاريخ وبه فى الحياة السياسية المصرية، بين القوى شبه الليبرالية ومثقفيها، وبين بعض مثقفى اليسار والناصريين، حول شخصيات هذه المرحلة المهمة وعلى رأسها سعد زغلول وصحبه، ومصطفى النحاس، ودور حزب الوفد.. الخ. إن متابعة توظيف المئوية تشير إلى استخدام بعض الأطراف للحدث الكبير، يرمى لبث رسائل الشرعية التاريخية والسياسية للانتفاضة الكبري، فى بناء الوطنية المصرية، والدستور المؤسس لمدنية الدولة عام 1923 إزاء التاريخ الدستورى للدولة التسلطية فى مراحلها المختلفة بعد 23 يونيو 1952. نحن إزاء توظيف للسردية التاريخية فى الحاضر السياسي، ومن ثم تحولت المئوية إلى صراع على الحاضر وتشكلاته. ليس ثمة جديد فى غالب الأطروحات التى قدمت، وعديد الكتابات الصحفية، أو المداخلات البحثية فى المؤتمرات، التى لا يعدو غالبها أن يكون إعادة إنتاج للتحيزات والروئ المسبقة التى يتناسل من خلالها عديد من السرديات الرئيسية والفرعية، حول طبيعة الدولة أو الموقف من الأديان فى دستورى 1923، 1930، ومن ثم الخطاب حول المواطنة السياسية، أو الوحدة الوطنية، وتكامل الهلال مع الصليب، واعتبار أن الأمة الواحدة والقومية المصرية التى بدأت شعاراتها مع العرابيين مصر للمصريين - قد استكملت مقوماتها وشروطها السياسية والاجتماعية والثقافية.. الخ. كل طرف وظف الحدث السياسى الوطنى الكبير فى إثبات وإسناد بنية مقولاته السياسية والإيديولوجية فى مواجهة الواقع السياسى الراهن، دونما إعادة فحص وتحليل للسردية المؤسسة ذاتها وفرعياتها. هذا النمط من التوظيف السياسى للأحداث التاريخية يشكل ولا يزال أحد أسباب هيمنة بعض الأساطير والأوهام السياسية، التى لا تزال تسيطر على العقل السياسى والوعى الاجتماعى شبه الجمعى فى بلادنا. السؤال هل نحتاج لمئوية ثانية حتى نتحرر من بعض الأحكام الأخلاقية، والأساطير السياسية حول تاريخنا الحديث والمعاصر! أم أن صدمة المستقبل ستجعلنا نستيقظ من خدّر بعض أساطيرنا المتخيلة؟ لمزيد من مقالات نبيل عبد الفتاح