تأثير البيئة الطبيعية على سطح الأرض شديد التعقيد والتشعيب يمتد من الغلاف الغازى بمكوناته المتعددة فى دورة متوازنة تبدأ من البحر والتبخر الى السُحب والأمطار والنهر يجرى الى البحر. والأرض بمكوناتها الصخرية ومفتتاتها الرملية تستقبل دورة الهواء والماء وتشكل المسرح الطبيعى لأشكال الحياة النباتية والبحرية والحيوانية والانسانية فى تناغم ايكولوجى دقيق. فإذا أخل عنصر طبيعى أو حياتى بهذا التوازن تحدث كارثة فى المنظومة الايكولوجية يترتب عليها اعادة التوازن بشكل آخر. وقد حدث هذا تكرارا على طول عمر الحياة على كوكب الأرض، مثل انقراض الديناصورات وظهور الثدييات والطيور. ورغم كوارث الطبيعة كالزلازل والبراكين والأعاصير الفجائية أو التغيرات المناخية التدريجية فإن الأثر الأكثر فداحة والأسرع تغييرا وتدميرا هو ما يفعله الانسان المعاصر كالإضرار بالغلاف الجوى وإحداث ثقب الأوزون وارتفاع درجات الحرارة وما يترتب على كل ذلك من متغيرات غير محسوبة غالبا ما سوف تؤدى الى تغير نظام المطر العالمى وازدياد عمليات الجفاف وارتفاع سطح البحار والمحيطات وربما تغير دورة التيارات البحرية الدافئة والباردة. وبالمثل فإن المغالاة فى التحكم فى مياه الأنهار بالسدود وجر المياه الى أماكن خارج أحواض الأنهار بالرفع المكلف وشبكات الأنابيب والقنوات لزراعة أرض بعيدة هو أيضا من مخاطر المدى الطويل. ونتيجة مجموعة ظروف طبيعية نشأت فى المناطق الحارة شبه الصحراوية بحار وبحيرات داخلية تتلقى مياها من أنهار أو أمطار ولكن لكونها فى منخفضات فإن مياهها لا تنصرف للخارج ومن ثم يكون عامل التبخر هو العامل الحاسم فى إيجاد نوع من التوازن بين الدخل والمنصرف وتبقى مستويات المياه شبه ثابتة مع متغيرات فى بعض سنين المطر الكثير او القليل . وهذه الأوضاع تجعل المياه شديدة الملوحة حتى بالقياس الى مياه البحار. وتؤدى عملية التبخر الى أمكان الحصول على مجموعة من الأملاح التى يحتاجها الانسان وبخاصة البوتاس والنطرون وغيرهما مما تلقى به الأنهار الصغيرة التى تصب فى البحيرة. وهناك العديد من تلك البحيرات التى تتراوح بين متناهية الصغر كبحيرات وادى النطرون وبحيرة قارون فى مصر، أو بحيرات اكبرها بحر آرال فى وسط آسيا بين كازاخستان واوزبكستان (34 ألف كم²) وبحيرة تشاد فى غرب إفريقيا بين تشاد ونيجيريا والكمرون ( 4 ألف كم² ) وسولت ليك فى ولاية يوتا الأمريكية (2460 كم²)ثم أصغرها وأشهرها تاريخيا البحر الميت بين فلسطين وإسرائيل والأردن (1020 كم ²). بحر قزوين هو أيضا من هذا النوع لكنه ضخم جدا بالقياس الى تلك البحيرات المغلقة فضلا عن أنه يتلقى تصريفا كبيرا من المياه العذبة لأنهار كبيرة ومتوسطة على رأسها نهر الفولجا الروسى ونهر كورا فى اذريبيجان. وهناك اسباب رئيسية فى انكماش هذه البحيرات تتلخص فى: عوامل طبيعية كحلول الجفاف التدريجى كما هو الحال فى تشاد وسولت ليك، وعوامل بشرية نتيجة تحويل مياه الأنهار الى الأراضى الزراعية كما هو الحال فى بحر آرال والبحر الميت. لقد كانت مساحة بحيرة تشاد 17 ألف كم² انكمشت الى الربع لضعف تصرف نهرى شارى واللجونى وحلول مناخ جاف منذ اوسط القرن الماضى قد أدى الى ظاهرة التصحر فى إقليم الساحل الافريقى من مالى الى السودان. والأغلب أن الصراع الدائر الآن فى دارفور ناجم عن حالة التصحر وانكماش المراعى وتقلص الأراضى الزراعية مما يدعو الى القتال المرير بين المجموعات الرعوية والزراعية من أجل الحياة. ولا شك أن ذلك كان الحال دائما فى مثل هذه المناطق التى تتعرض للذبذبة المناخية. البحر الميت هو مشكلة بيئة فى منطقة هامشية المنفعة دقيقة التوازنات بشكل مثير للقلق. يقع البحر داخل أخدود ضيق طويل استكمالا لأخدود خليج العقبة وعلى عمق نحو 417 مترا تحت منسوب سطح البحر عرضه 18 كم وطوله نحو 80 كم. انقسم الآن الى بحيرتين, شمالية كبيرة عميقة وجنوبية صغيرة ضحلة، يفصلهما لسان أرضى طبيعى شقت فيه قناة صغيرة لضخ مياه من الشمال لإبقاء الجنوب مشبع بالماء فى أحواض تترك لتجف للحصول على أملاح معدنية خاصة البوتاس. نهر الأردن بروافده العليا فى لبنان وسوريا واليرموك وانهار اردنية موسمية تغذى البحر الميت بالمياه لكنها تتذبذب سنويا تؤدى لاتساع او انكماش نسبى للبحر . وفى الماضى كانت المياه الواردة اليه تكاد تتساوى مع كمية التبخر مما ركز كميات هائلة من الأملاح تمتنع معها السباحة وتقتل الحياة المائية والنباتية وبرغم ذلك كان نظام النهر والبحر يشكل بيئة غنية لأنواع خاصة نباتية وحيوانية . تحويل نحو 90% من مياه الأردن لمشروعات انتاجية واستهلاك منزلى فى الأردن واسرائيل والضفة ونقل مياه بحيرة طبرية لشمال النقب سببت هبوط سطح البحر الميت بمقدار 25 مترا خلال ال 40 سنة الاخيرة . ترك الانخفاض شواطئ طينية مليئة بالحفر تمتص من يقع فيها كالرمال المتحركة هدد الدخل السياحى الاسرائيلى الذى يشغل 5500 حجرة فندقية وملاه ليلية واستخدام الطين الأسود علاجا لأوجاع السياح. وهناك مشروعات للإبقاء على البحر الميت احدها إسرائيلى ينطوى على حفر قناة من البحر المتوسط ترفع المياه بمضخات عملاقة فوق الهضبة وتوليد الطاقة من سقوطها للبحر الميت. والثانى اردنى صممته شركة هندسية من شيكاجو تحت مسمى Red Dead ينقل الماء من خليج العقبة برفعه الى منسوب 220 مترا ثم نفق طويل للبحر الميت مع محطة توليد وتحلية المياه. لكن تنفيذ اى من المشروعين لايتحقق مع الأوضاع السياسية غير المستقرة، فضلا عن التكلفة الهائلة بحيث لا تعوضها المنفعة البيئية والطاقة واعتراض البيئيين، وأخيرا يحتاج التنفيذ عقدين قد تستجد خلالهما أمور توقف المشروع. وهكذا نرى أن الانسان بتدخله فى موازين البيئة بتحويل مياه الأنهار لاستزراع مساحات محدودة من أراض جدباء وبتكلفة عالية انما هو يكسب الحاضر ويخسر المستقبل بما يحمله فى طياته من عناصر وعوامل مجهولة الأثر. السؤال المحير: لماذا لا يستفيد الانسان من الدروس السابقة ؟. لمزيد من مقالات ◀ د. محمد رياض