سعر الذهب اليوم فى السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 20 إبريل 2024    300 جنيها .. مفاجأة حول أسعار أنابيب الغاز والبنزين في مصر    عميد تجارة الإسكندرية: السيطرة على سعر الصرف يزيد من فرص الاستثمار    المتحدث باسم الحكومة: الكهرباء بتقطع عندنا في مجلس الوزاء    ارتفاع ضحايا مجزرة "تل السلطان" برفح الفلسطينية ل 6 شهداء    عاجل.. انفجار قوي يهز قاعدة عسكرية بمحافظة بابل في العراق    سفيرة البحرين: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على وحدة الصف بين البلدين    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    أولمبيك آسفي يهزم يوسفية برشيد في الدوري المغربي    استون فيلا يفقد مارتينيز أمام اولمبياكوس في دوري المؤتمر الأوروبي    مدرب مازيمبي: عندما يصل الأهلي لهذه المرحلة يصبح فريقا هائلا    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    ملف يلا كورة.. عقل كولر.. قائمة الزمالك لمواجهة دريمز.. وتألق مرموش    تقارير: مانشستر سيتي يخطط للمستقبل بدون جوارديولا.. ومدرب جيرونا "خليفته المحتمل"    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    جنازة مهيبة للطفل ضحية جاره.. ذبحه داخل شقة في شبرا الخيمة    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    العثور على جثة طفل مذبوح داخل شقة سكنية بشبرا الخيمة    استعد لاحتفالات شم النسيم 2024: نصائح وأفكار لتجديد فرحة الربيع بأساليب مميزة    بليغ حمدي الدراما.. إياد نصار يكشف سر لقب الجمهور له بعد «صلة رحم»    أبرزهم عمرو دياب وإيهاب توفيق.. نجوم الفن فى زفاف نجل محمد فؤاد (صور)    آمال ماهر تتألق في حفلها بالتجمع الخامس.. صور    خالد منتصر: معظم الإرهابيين مؤهلات عليا    أدعية الرزق: مفتاح للسعادة والاستقرار - فوائد وأثرها الإيجابي في الحياة    تعليق مثير من ليفاندوفسكي قبل مواجهة «الكلاسيكو» ضد ريال مدريد    قطر تعرب عن أسفها لفشل مجلس الأمن في اعتماد قبول العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    الحكومة تكشف حقيقة استثناء العاصمة الإدارية من قطع الكهرباء (فيديو)    داليا عبد الرحيم: الإخوان أسست حركات لإرهاب الشعب منذ ثورة 30 يونيو.. خبير: عنف الجماعة لم يكن مجرد فعل على الثورة.. وباحث: كان تعاملهم برؤية باطنية وسرية    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    دخول مفاجئ للصيف .. إنذار جوى بشأن الطقس اليوم وبيان درجات الحرارة (تفاصيل)    باحث ل«الضفة الأخرى»: جماعة الإخوان الإرهابية تتعامل برؤية باطنية وسرية    عمرو أديب يطالب يكشف أسباب بيع طائرات «مصر للطيران» (فيديو)    عاجل - فصائل عراقية تعلن استهداف قاعدة عوبدا الجوية التابعة لجيش الاحتلال بالمسيرات    إعلام عراقي: أنباء تفيد بأن انفجار بابل وقع في قاعدة كالسو    خبير ل«الضفة الأخرى»: الغرب يستخدم الإخوان كورقة للضغط على الأنظمة العربية المستقرة    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر (فيديو)    «عايزين نغني سطلانة زيكم».. عمرو أديب يهاجم بعض رموز النادي الأهلي (فيديو)    وزير الرياضة يتفقد المدينة الشبابية بالغردقة    سر الثقة والاستقرار: كيف تؤثر أدعية الرزق في حياتنا اليومية؟    أدعية الرزق: دروس من التواصل مع الله لنجاح وسعادة في الحياة    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    مرض ضغط الدم: أسبابه وطرق علاجه    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    تجنب تشوه العظام.. أفضل 5 مصادر غنية بفيتامين «د» يجب عليك معرفتها    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    داليا عبد الرحيم: الإخوان أسست حركات لإرهاب الشعب منذ ثورة 30 يونيو    تقليل الاستثمار الحكومي وضم القطاع غير الرسمي للاقتصاد.. أهم ملامح الموازنة الجديدة    وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يفتتحان أعمال تطوير مسجد الصحابة بشرم الشيخ    محافظ قنا: بدء استصلاح وزراعة 400 فدان جديد بفول الصويا    بفستان أزرق سماوي.. بوسي في حفل زفاف نجل شقيقة غادة عبد الرازق| صور    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    الحماية المدنية تسيطر على حريق في «مقابر زفتى» ب الغربية    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    انتشال جثتي شابين غرقا في نهر النيل أطفيح    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    معلومات الوزراء يكشف أهداف قانون رعاية حقوق المسنين (إنفوجراف)    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمثالا زعيم الأمة
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 03 - 2019

تقرر بعد وفاة سعد زغلول تكريمه بتكليف المثّال محمود مختار الذى صنع تمثال «نهضة مصر» بإعداد تمثال آخر لسعد زغلول، يستكمل به رمزية النهضة المصرية التى جسَّدها تمثاله الأول الذى لم يره سعد فى حياته منصوبًا فى أحد ميادين مصر. هكذا أصدر مصطفى النحاس باشا توجيهاته إلى الفنان محمود مختار بإعداد تمثال يقوم بتخليد ذكرى زعيم الثورة المصرية. وكتبت الحكومة المصرية إلى المثّال مختار الذى كان قد عاد من فرنسا واستدعته كى يُجسِّد رغبة الأمة فى تكريم الرمز الأول للثورة الذى تجسدت فيه كل معانيها الوطنية.
وعاد محمود مختار من فرنسا، ليبدأ مشروعه فى إعداد تمثال لزعيم الثورة. وطالب الوفد كل المصريين بالتبرع لإنشاء تمثال لسعد زغلول، وكانت التبرعات سخية هذه المرة، والحكومة الوفدية مستعدة للإنفاق بسخاء لكنها هذه المرة بدأت بطلب تبرع المصريين تأكيدًا لشعبية الرغبة لإقامة التمثال الذى بدأت قصته بعد مرور عشر سنوات من وفاة سعد زغلول، تحديدًا فى عام 1937عن طريق الاكتتاب الشعبى. وقام محمود مختار بصناعة نموذجين كى يوضع الأول منهما فى القاهرة، والثانى فى موقعه الحالى المواجه لكورنيش الإسكندرية بمحطة الرمل. وبعد أن قدَّم النحات محمود مختار الماكيتات الخاصة بالتمثالين ووافقت عليهما لجنة الوفد، لم يستطع محمود مختار استكمال التمثالين إلا بعد أن توفى الملك فؤاد المعروف باستبداده وعدائه الشديد لسعد زغلول الذى ظل رافضًا ومقاومًا إلى أن توفاه الله- لتسلط الملك فؤاد، الذى تولى الحكم من بعده ابنه الملك فاروق عام 1936. وكان الوفد موجودًا فى الحكم يترأس وزارته مصطفى النحاس باشا، وتم رفع الستار عن التمثال الأول فى موقعه الحالى المواجه لكورنيش الإسكندرية بواسطة الملك فاروق الأول فى احتفال ضخم مهيب، غابت عنه أم المصريين زوجة سعد زغلول، السيدة صفية زغلول، وعللت الصحف غيابها عن الاحتفال بأنه لم يكن مسموحًا - وفق البروتوكول - أن تجلس بجوار الملك. وكان السبب وراء اختيار الإسكندرية لإقامة إحدى تمثالى سعد زغلول بها هو العلاقة الوطيدة بين أهالى المدينة والزعيم سعد زغلول؛ فقد كانت الإسكندرية هى المدينة التى تستقبل سعد زغلول عند عودته من كل منفى يذهب إليه طوال نضاله الوطنى، وتقيم له احتفالات فى موضع التمثال الذى لا يزال قائمًا يتطلع بوجهه إلى البحر الذى جاءت منه سفن الاحتلال البريطانى الذى قام باحتلال مصر عام 1882، كما لو كان اتجاه وجهه يحذر المصريين من الخطر الأوروبى الذى لا يزال قائمًا وموجهًا لاستعمار مصر ونهب ثرواتها. وكان المقصود فى هذه الحالة هو الاستعمار الأوروبى الاستيطانى الذى لم يفارق موضعه فى العالم الثالث إلا ليترك مكانه القديم للإمبريالية الجديدة التى كانت مختلفة من حيث المظهر لا الجوهر عن الاستعمار الاستيطانى القديم.
ويعبر محمود مختار فى هذا التمثال عن شخصية سعد زغلول بطريقة أصيلة تمزج ما بين تقاليد النحت الأوروبى الحديث وطريقة المثّالين المصريين القدماء فى تصوير ملوكهم، فيبدو سعد كأحد فراعنة مصر العظماء فى ثياب عصرية، وذلك على نحو تؤكده كلمات الأستاذ مختار السويفى الذى يصف التمثال بأنه: «يقف قابضًا يديه دلالة على القوة والتمكن والعظمة، ويمد قدمه اليسرى أمام اليمنى تعبيرًا عن التحفز والإقدام، وهو أسلوب فرعونى أصيل فى التعبير عن رموز القوة والمجد والخلود». لكن لن يخطئ المتأمل فى التمثال تكامل معنى الجمع بين الأصالة والمعاصرة فى عمل فريد، إذ يقف التمثال على قاعدة متطاولة تتجسد أسفل جوانبها الأربعة لوحات نحتية أربع: تُجسِّد أولاها حادثة الثالث عشر من نوفمبر التى نرى فيها سعد زغلول وزملاءه وهم يقدِّمون، بوصفهم وفدًا يمثِّل الأمة المصرية، مطالب الأمة للمعتمد البريطانى الذى كان يمثِّل الاستعمار الإنجليزى يوم 13 نوفمبر 1918وبعدها بأيام اندلعت ثورة 1919 وقد ظل المصريون يحتفلون بهذا اليوم طويلًا تحت اسم «عيد الجهاد». ويبدو فى اللوحة النحتية سعد زغلول يتصدى للمعتمد البريطانى مادًّا إليه يديه وهو جالس أمامه فى حماية جنوده البريطانيين، مطالبًا بالاستقلال فى كبرياء وأَنفة ووراءه زعيمان من زعماء الوفد المصرى، وذلك قبل أقل من خمسة أشهر على قيام ثورة 1919. ويتبع الفنان الأسلوب الكلاسيكى الغربى فى تشكيل النحت البارز، مسجِّلًا اللحظة التاريخية بطريقة توضيحية أو واقعية تختلف عن المنهج الرمزى الذى يكثِّف المعانى على النحو الذى نراه فى أكثر أعمال محمود مختار.
وإلى جانب هذه اللوحة النحتية، لوحة أخرى عن عشق الجماهير لسعد زغلول، وهى لوحة أطلق عليها نقاد الفن التشكيلى لوحة: «هتاف الجماهير» أو «تحية الجماهير لسعد زغلول». وهى لوحة يصفها الدكتور صبحى الشارونى فى الكتاب الذى أعدَّه عن مختار(»ذاكرة الأمة.. المثّال محمود مختار ومتحفه» الذى نشرته الدار المصرية اللبنانية)، بأنها من النحت البارز وتم تنفيذها فيما بين عامى 1930، 1933 ومساحتها 140x252سم، وهى تصوِّر الزعيم سعد زغلول محمولًا على أعناق الجماهير بعد عودته من المنفى استجابة لثورة الشعب المصرى عام 1919؛ لأن الأمة المصرية رفضت نفى زعيمها مع زملائه أعضاء الوفد الذى قام بتقديم مطالب الأمة فى الاستقلال والحياة الدستورية. وقد اتبع الفنان الأسلوب الواقعى فى النحت البارز، مسجلًا الحدث لتأكيد أهم أحداث ثورة 1919 عند انتصارها وعودة زعمائها من المنفى محمولين على أعناق الجماهير. والحق أن هذه اللوحة لا تقل فى قيمتها التصويرية عن التمثيل التاريخى الذى تؤكِّده فى وعى من يتطلع إليها، فهى تنطوى على مغزى تربوى لا تخطئه العين فى طريقتها الرمزية التى تجسد تقديس الشعب لمن يحمل همومه وآلامه ويجسِّد رغباته المطالبة بالحرية لأبنائه الذين استشهد المئات بل الآلاف منهم مطالبين بالاستقلال التام أو الموت الزؤام كما علَّمهم سعد زغلول.
وعلى جانبى قاعدة التمثال الباقيتين نَحتان بارزان، يمثِّل الأول، الوجه القبلى الذى يتجسد فى هيئة امرأة من صعيد مصر بضفائر من الشعر المُجعَّد على طريقة النوبيين، وذلك على نحو يذكِّرنا بملامح تمثال: «شيخ قبيلة البشاريين» المعروض فى متحف مختار كما يقول الدكتور صبحى الشارونى. ويصور التمثال فتاة تضع كفَّها اليسرى على صدرها وفى يُمناها علامة الحياة، وهو الرمز الفرعونى المُعبِّر عن خلود مصر وخيرها. وكان التمثال على هذا النحو مستخدمًا فى فنون الدولة الحديثة عند المصريين القدماء. وأوافق الدكتور صبحى الشارونى على ما ذَكَر. وقد صاغ مختار تمثاله الفرعى على نحو يعبِّر عن امتزاج تعمقه فى فن النحت المصرى القديم ومدى كفاءته ومهارته فى التشكيل المجسم الذى درسه فى فرنسا. لقد وصل إلى قمة الإبداع محققًا شخصيته المستقلة المعتمدة على تراث مصر وخبرة الفن الحديث فى العالم المتقدم من حوله.
أما تمثال الوجه البحرى المُنفَّذ على قاعدة تمثال سعد زغلول فى الإسكندرية المصنوع من البرونز، فهو منحوت على طريقة المصريين القدماء حيث يُجسِّد وحدة وادى النيل ووحدة الوطن، على هيئة امرأة جالسة تمد يديها إلى الأعلى مُمسكة فى كل يد بسعفة من سعفات النخيل، تتجاوبان وتلتقيان فيما يشبه العناق الذى يصل بين اليدين اليمنى واليسرى بما يمثل وحدة وادى النيل ووحدة الوطن كله رمزًا للدلتا أو الوجه البحرى ومصر السفلى، لترمز إلى وحدة القطرين، وجبهتها مرتفعة ومزينة برموز تشبه رموز ملوك الفراعنة. ويصف الدكتور صبحى الشارونى هذا المعنى بقوله: «حقق مختار فى هذا العمل درجة عالية من التعبير عن الأصالة والعراقة المصرية فى مزيج متفوق، مكون من فهم عميق ورائع لأساليب الفن الفرعونى ممتزجًا بأساليب فن النحت الحديث». والتعبير هنا ينصب على إعلان المبايعة والزعامة لسعد زغلول من أهالى الوجه البحرى والوجه القبلى، الممثلين فى هذه الشخصية الرمزية.
والحق أن مشاهدة تمثال سعد زغلول لا يمكن أن تتوقف من بعيد على مجرد مشاهدة جسد سعد زغلول المنتصب فوق القاعدة التى تتجسد فى قاعدتها لوحتا: «13 نوفمبر» ولوحة «هتاف الجماهير» أو حتى تمثالي: «الوجه القبلى والوجه البحرى»، فلا بد من تأمل الجميع بوصفهم عناصر تتنوع فى وحدة فعل واحد خلاق، تتكثف فيه الأبعاد التاريخية على نحو رمزى، ابتداء من القمة التى يقف عليها جسد سعد زغلول المتطلع إلى البحر وقاعدته التى تبدو كأنها تُفصل معانى أربعة تتعدد كأنها الفصول الأربعة التى تتكرر مع تكرر الحياة المتجددة للحضور الرمزى لسعد زغلول الزعيم الذى لن يُمحى حضوره من وجدان الشعب المصرى عبر التاريخ، وبواسطة معاودة النظر فى التاريخ، ومعاودة التأمل فى رموزه الكبرى التى تتجسد بها وفيها معانى الحضور الوطنى الغالب للتمثال الذى يتحول إلى حضور ساطع لكل المعانى التى تكتمل بها دلالات الوطنية أو معانيها فى التمثالين اللذين نحتهما محمود مختار فى الإسكندرية أولًا، وفى القاهرة ثانيًا.
أما تمثال القاهرة، فهو «تمثال صرحى» كما يصفه صبحى الشارونى، والتمثال مقام بأرض الجزيرة مواجهًا كوبرى قصر النيل، وهو العمل الفنى الذى يكمل متحف محمود مختار ولا يبعد عنه أكثر من مائتى متر. والتمثال من البرونز والقاعدة من الجرانيت الوردى، وتتكون قاعدة التمثال من أربعة أعمدة فرعونية على طراز البردى المُضلَّع، وعلى القاعدة السفلية أربع لوحات من النحت مسبوكة من البرونز تتوسط ما بين الأعمدة فى التفافها الذى تراه العين من كل اتجاه. وما أكثر ما نَمُر على هذا التمثال الجميل المهيب الذى يُجسِّد سعد زغلول شامخًا مهيبًا، رافعًا يده اليمنى، كأنه يُلقى واحدة من خطبه الوطنية التى كانت تُلهب حماس الجماهير للكفاح فى سبيل الاستقلال والنهضة، كما أن «حركة اليد المرفوعة وثنيات الملابس بما تشكِّله من ظلال، تُساهم فيما يوحى به الشكل العام من هيبة وجلال وتعبير عن الزهو والاعتزاز فى الوقفة البطولية المتحفِّزة». فيما يقول صبحى الشارونى فى كتابه المشار إليه سابقًا. ولا شك فى أن هذا التمثال المتكامل، والتوافق الرمزى الذى يجمع بينه وعناصر قاعدته التى ينتصب على قمتها يكشفان عن عبقرية هندسية تؤكد سيطرة الفنان الكاملة على المقومات الرمزية والدلالات الوطنية للتمثال الميدانى، فضلًا عن تناسب الكتلة وتناغم عناصرها. ولذلك يصف بدر الدين أبو غازى هذا التمثال الجليل بقوله: «... وهو يطل برأسه الشامخ ويده تشير إلى البعث والانتصار، ولا تكاد تلوح هذه اليد من بعيد من الشاطئ الآخر للنيل حتى تهزنا وتشبع فينا شعورًا بالنصر، حيث إن المثّال حوَّل أحاديث سعد وخُطبه من كلمات بشرية إلى كُتلٍ منحوتة، وانتقل بها من العبارة إلى الرمز».
وكعادة محمود مختار فإن القاعدة تتصدرها موتيفات تُكمِّل الرمز ودلالاته، والمعنى وإيحاءاته، والموتيف الأول هو تحية للزعيم فيما يصفه صبحى الشارونى. وهو تذكير حر دون إطار، يعبر عن تحية الزعيم، وهو من البرونز المثبت على الواجهة الشرقية الأساسية، بين الأعمدة الجرانيتية الشامخة لصرح التمثال. وهو موتيف يجسد مصر على هيئة امرأة فى وضع المواجهة، بينما رأسها فى الوضع الجانبى ووجهها يتطلع إلى أعلى ناحية اليمين وترتفع يديها حاملة فى كل يد سعفة النخيل لتحية الزعيم وكأنها تكلله بالغار الذى يرد حاضره إلى ماضيه، ويسقط ماضيه على حاضره فى الوقت نفسه. أما الأعمدة الجرانيتية المماثلة لأعمدة المعابد الشامخة فى طيبة (الأقصر) فإنها تعبر عن النهضة وتُسقِط الحاضر على الماضى، كما تستعيد الماضى فى الحاضر، فهى دعوة إلى استعادة المجد القديم التى عبر عنها مختار برمزية موازية فى تمثال «نهضة مصر». أعنى أنها صيغة ثانية لنهضة مصر المُعتمِدة على عراقة التراث وعلى الحاضر الناهض على أساس منه. وهذا النحت البارز فى الواجهة يُكمِّل الموضوع المعبَّر عنه بالنحت الغائر والمثبت على الجزء الأسفل فى القاعدة، فهذا الموتيف يمثل استمرارًا له. فيما يقول صبحى الشارونى الذى يمضى ملاحظًا أن التماثل بين الحاضر والماضى لا يفزع الفنان طبقًا لتقاليد الفن الغربى، لكنه يرضيه بما يجعل من إمكانات الموتيف نموذجًا لكسر الرتابة التى يسببها التماثل بين جانبى الموتيف بتشكيل الرأس فى الوضع الجانبى، بينما ضفيرة الشعر وانسياب الطرحة يؤكدان الخط المحدد لمنتصف الصرح، ويحققان فى الوقت نفسه ترديدًا لأضلاع الأعمدة، ويكمل إيقاعها الموسيقى عند تأكيد الخطوط والكتل المتجهة إلى الأعلى حيث السماء، لكى تعبر فى اتجاه النظرة عن السمو والارتفاع فيما يرى صبحى الشارونى بحق.
ونأتى إلى الموتيف الأخير الموضوع على قاعدة التمثال، وهو موتيف من النحت البارز (أى تشكيل حر بدون إطار) يعبر عن الدستور، وهو أحد ثلاثة موتيفات على الواجهات الجانبية والخلفية لصرح سعد زغلول فى القاهرة، وهى مثبَّتة بين الأعمدة الجرانيتية الشامخة، بينما على الواجهة الأمامية الموتيف الذى يعبر عن تحية الزعيم. والموتيفات الثلاث ترفع شعارات ثورة 1919، وهي: «الحرية (أو الإرادة)، والعدالة، والدستور». وكما يقول الشارونى فقد « كان محمود مختار - ذو الثقافة الفرنسية - واعيًا بأوجه الشبه بين ثورة 1919 الوطنية فى مصر والثورة الفرنسية التى قامت فى أواخر القرن الثامن عشر. وكما رفعت الثورة الفرنسية شعارات: (الحرية والإخاء والمساواة)، نادى سعد زغلول بشعارات ثلاث للثورة هي: (الإرادة والعدالة والدستور). وهى أركان الحرية وشروطها الأساسية، فحرية بلا إرادة هى حرية ممنوحة يمكن سحبها فى أى وقت، وحرية بلا عدالة هى حرية خاوية مظهرية تتمتع بها طبقة دون بقية الفئات والطبقات، وحرية بلا دستور هى حرية غير مضمونة وغير ثابتة الأركان. وقد صوَّر الفنان رمز الدستور فى مصر، (الفلاحة التى تجسِّد رمزية الوطن الأم) ترفع يمناها بالقَسَم على احترام مبادئ الدستور، بينما ترتكز بيسراها على منبر الحكم المكتوب عليه شعار: (الأمة مصدر السُّلطات). وقد التزم الفنان بالخطوط الرئيسية المُكمِّلة لإيقاع الأعمدة الشامخة، والتزم قاعدة المواجهة المميزة للفن الفرعونى، مؤكدًا الإحساس العام فى الصرح بالسمو والارتفاع والشموخ».
هذا ما يقوله صبحى الشارونى، وأُضيف إليه أن مختار لم يكن نحّاتًا زخرفيًّا بقدر ما كان كان نحّاتًا تعبيريًّا، تتحول منحوتاته إلى تمثيلات رمزية لِمَا ظل سعد زغلول يؤكده طوال حياته من أن «الأمة مصدر السلطات»، وأن «الحق فوق القوة»، وأنه لا سلطة إلا للشعب الذى يملك أن يمنح أو أن يسحب ما منحه، وأن هذا المنح أو السحب إنما هو قائم داخل الوطن بكل فئاته التى يعبر عنها دستور واحد ينصف كل مواطن ومواطنة، ولا يفرق بين أكثرية أو أقلية، فللأقلية مثل حق الأغلبية. ولذلك يوازن الحق المدنى بين الطائفة اليهودية والطائفة المسيحية والطائفة المسلمة التى تمثل الأغلبية فى الشعب المصرى. وقد أدرك دستور 1923 هذا المعنى عندما رددت مواده أصداء ثورة 1919 التى رفع شعاراتها سعد زغلول عندما أكد أن «الدين لله والوطن للجميع»، داعيًا وداعمًا لدولة مدنية، الولاء فيها للوطن يأتى أولًا وقبل كل شيء آخر، فالإيمان بالوطن ووحدته يأتى سابقًا على الإيمان بالأديان وتعددها. ولم تكن هذه عظمة سعد فحسب، وإنما كانت فيما نقله إلى عقول من أحاطوا به وأحبّوه، خصوصًا من المعجبين به والمؤمنين بأفكاره مثل محمود مختار النَّحّات الذى حاول تجسيد معنى الوطنية التى ارتبطت دلالاتها بالحضور الرمزى لسعد زغلول فى وجدان الشعب المصرى، فأحب الرجل الذى تتجسد فيه مبادئ الزعامة الوطنية والخصوصية التاريخية التى تتجاوز زمنها ومكانها إلى غيره من الأزمنة والأماكن. ولهذا كان تمثال سعد زغلول الموجود فى القاهرة يؤكد المعانى العميقة لما يقوم به الدستور من دورٍ فى تأكيد ما تقوم عليه وحدة الأمة، من قوانين وضعية تعتمد على دستور يصوغه ممثلو الشعب فى حرية وأمانة تراعى مصالح الأمة مصدر السُّلطات، وأن هذا المعنى هو حق يفوق كل حق، بعيدًا عن الاستبداد الذى كان يمارسه الملك فؤاد، وبعيدًا بالقدر نفسه عن أى استبداد يمكن أن يمارسه أى حاكم آخر يدَّعى الديموقراطية ويتمسح بالدستور، فالمعنى الأصيل للدستور هو ما يجعل الأمة مصدر السُّلطة وما يجعل قوة الشعب هى الحق الذى يفوق أية سُلطة، ومن ثم ما يجعل الحكومة كدولتها مدنية ديمقراطية حديثة.
هذا ما كان ولا يزال - ينطق به تمثالا سعد زغلول بين القاهرة والإسكندرية، وكِلا التمثالين بقاعدتيهما ترميز وطنى أو إجلال رمزى تختزنه الأمة وتجسِّده نخبتها الإبداعية التى تصوغ كل ما لا تزال تحلم به هذه الأمة من أن تكون مصر لكل المصريين بلا استثناء، فى ميثاق وطنى يقوم على الحرية بكل مستوياتها، والعدالة بكل أبعادها، والديمقراطية بكل معانيها. هكذا كانت دوافع ثورة 1919 والقيم التى أكدها قائدها وزعيمها سعد زغلول، والتى جسدتها رؤية مبدعيها وفنانيها ابتداء من سيد درويش وليس انتهاء بتوفيق الحكيم في: «عودة الروح» ونجيب محفوظ في: «أمام العرش». وهى الثورة التى قام بتأصيل مبادئها إلى حد كبير دستور 1923 الذى لا يزال إلى اليوم، رغم كل ما يمكن أن نأخذه عليه، النموذج الكاشف لمعانى الشعارات: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، «الوطن فوق الجميع»، و»الحق فوق القوة»، و»الأمة مصدر السلطات» و»الدين لله والوطن للجميع» و»وحدة الهلال مع الصليب». هذه هى المعانى التى ندين لثقافة ثورة 1919 بها والتى لا تزال تسرى فى وجداننا وعروقنا كما يسرى ماء النيل فى الوادى الذى يجمع بيننا رغم اختلاف الأديان أو العقائد أو التوجهات. وهذا هو تاريخنا الذى لا يزال يمتد فى حاضرنا، والذى يرجعنا دائمًا حاضرنا إليه عندما نستجير من هوان الحاضر بعظمة الماضى، وعندما نلوذ خياليًّا من سطوة الواقع المستبد إلى عزة الماضى الملئ بالرجال العظام والوطنيين الذين لا فارق بين زعمائهم مثل سعد زغلول، ومُبدعيهم مثل محمود مختار أو سيد درويش، أو كُتّابهم مثل طه حسين والعقاد.
السيدة صفية زغلول أثناء تشييد التمثال
لمزيد من مقالات د.جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.