كان العصر الذهبي الذي ارتفعت فيه القوة السياسية لعلماء الأزهر إلي قمتها كقيادة وطنية هو العقود الأخيرة من حكم المماليك وفترة الحملة الفرنسية وحتي صعود محمد علي إلي السلطة, كما يسجل طاهر عبد الحكيم في الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر. فقد استمرت حركات الفلاحين ضد نهب وقمع بكوات المماليك والملتزمين, ولكن بظهور حركة علماء الأزهر كقيادة سياسية وطنية اتسعت حركات الفلاحين لتأخذ طابعا فلاحيا ومدينيا. ولدي الحكام إرتكزت قوة العلماء السياسية الي قدرتهم علي كبح جماح الجماهير التي تزايدت ثوراتها وتمرداتها ضد المظالم, لكن مركزهم تعزز كلما دافعوا عن الشعب. وفسر نابليون بونابرت سبب تفضيله للتعامل مع العلماء بأنهم- ضمن أسباب أخري- كانوا يشكلون القيادة الطبيعية للمصريين, فخاطب منشوره النزعة القومية التي تجلت في قيادة العلماء, وختمه بالدعاء إلي الله أن يصلح حال الأمة المصرية; فكان أول من خاطب المصريين طوال قرون عديدة باعتبارهم أمة!! وبعد هزيمة المماليك وهروبهم وقع علي عاتق العلماء وجماهير المصريين عبء مقاومة حملة نابليون حتي اضطرت فرنسا إلي سحب قواتها من مصر. وقد قاد العلماء المقاومة ضد الحملة الفرنسية باسم الإسلام, فكانت هذه أول مرة يلعب فيها الإسلام دورا سياسيا تحريضيا قوميا في إطار حركة قومية مصرية. ويطرح عبد الحكيم السؤال المنطقي: لماذا إذن سلم العلماء السلطة لمحمد علي ولم يحتفظوا بها؟ وبينما لا يتفق مع الباحثة عفاف لطفي السيد, التي رأت أن الإجابة تكمن في أن العلماء كانوا غير معتادين معالجة أمور السلطة وكانوا يخشونها, يري الإجابة الرئيسية في أن العلماء كانوا قد تحولوا إلي أرستقراطية مالكة; يكفيهم من السلطة ذلك القدر الذي يحفظ لهم مصالحهم, ويتمثل فيما اعتادوه من قدرتهم علي عزل الولاة وفرض شروطهم علي أمراء المماليك, وهو ما تصوروا قدرتهم علي مواصلته مع محمد علي; حينما أقسم لهم علي أن يحكم بالعدل وألا يفعل شيئا إلي بعد التشاور معهم!! وقد جاءت النهاية السياسية لحركة العلماء كقيادة سياسية وطنية حين تخلص محمد علي من رأسهم عمر مكرم; وضرب الأساس الاقتصادي لقوتهم السياسية بحرمانهم من ثرواتهم الكبيرة في الأرض ومواقعهم كملتزمين ومن نظارة الأوقاف, وصفي فئة التجار وأصحاب الحرف التي شكلت القاعدة الاجتماعية لحركتهم. وهكذا, بينما كان علماء عام1805 ينصبون محمد علي في السلطة باسم الشعب لكي يحكم بشروطهم, إذا بعلماء عام1838 يمثلون النزعة الوطنية الاستقلالية; ولكن بشروط محمد علي بأن يكون حكم مصر له ولورثته. ومن خلال احتكار ملكية الأرض الزراعية والصناعة والتجارة وكل مصادر البلاد من الثروة الطبيعية أعاد محمد علي بناء الدولة المركزية الاستبدادية. ورغم إنجازات إنقلاب محمد علي الاقتصادي شاملا ثورة الري الدائم ومضاعفة الأرض المزروعة وإقامة الصناعة الآلية الكبيرة وغيرها, فقد قضي نظام الإحتكار علي جنين طبقة وسطي وطنية تجارية وصناعية. وترتب علي فرض الضرائب المرتفعة والعسف في تحصيلها واحتكار الدولة للمحاصيل والتجنيد الواسع للسخرة أن صار هروب الفلاحين من الأرض وإتلافهم للمحاصيل وإحراقهم للأجران ظواهر عامة, وتواترت تمرداتهم وانتفاضاتهم المسلحة. وقد منح محمد علي طغمة أجنبية من الأتراك والشراكسة والأرنؤود المناصب الأساسية في الجيش والإدارة وحق الانتفاع بمساحات شاسعة من الأراضي, وفتح الباب لتسلل رأس المال الأجنبي لمصر. فلم يمر ربع قرن بعد انتهاء حكمه حتي صار النشاط المالي والتجاري والصناعي في يد الرأسمالية الأجنبية; وأصبح التحرر من هذه السيطرة الاقتصادية, وما ترتب عليها من سيطرة سياسية لاحقة, الهدف الرئيسي للحركة الوطنية المصرية ابتداء من الثورة العرابية. وقد فرض جدل التاريخ نفسه في مصر; كما في كل مكان وزمان. ويسجل عبد الحكيم أن الدور العسكري السياسي الذي لعبه محمد علي باسم مصر تحت شعارات عربية في مواجهة الخلافة العثمانية بدأ يعيد لمصر ملامحها كقوة قائدة في المنطقة. وأسهم الدور السياسي الذي لعبه مع دول أوروبا ومع السلطنة العثمانية باسم مصر في استعادة معني الكيان السياسي المستقل لها. وكان إحلاله اللغة العربية محل اللغة التركية كلغة للمعاملات الرسمية إضافة الي عملية استعادة الملامح الوطنية لمصر. وأما معاهدة1840, التي أعطت أبناء محمد علي حق وراثته في حكم مصر, فقد أعادت لمصر كيانها الجغرافي السياسي المحدد. ورغم دولته الإستبدادية, فان الإحتكاك الواسع بالثقافة الغربية الحديثة سواء من خلال البعثات أو من خلال الخبراء قد فتح بابا نفذت منه الأفكار الليبرالية عن الوطن وأسلوب الحكم. وقد بدأ محمد علي الاستعانة بالمصريين في الإدارة باختيار مشايخ قري لوظيفة ناظر قسم, وفي عهد سعيد وصل بعض المصريين إلي منصب مدير مديرية, وفي عهد إسماعيل أصبحت كل الوظائف تحت منصب مدير المديرية في يد المصريين بشكل كامل, وتولي عدد منهم مناصب المدير حين استهدف مواجهة ضغوط الأتراك والشراكسة والمقرضين الأوروبيين. وقد انتمي المصريون الذين تولوا مناصب إدارية في عهدي سعيد وإسماعيل لأسر لعبت دورا في الحياة العامة في مصر فيما بعد. وقد فتح سعيد باب الترقي واسعا أمام المصريين من أبناء العمد ومشايخ القري والأعيان في الجيش إلي رتبة قائمقام, وكانوا بالأساس أبناء الفئات التي مثلت في مجلس شوري النواب, بمواقفه المناوئة لسياسات إسماعيل. وقد حاول الأخير إضعاف المعارضة الوطنية وحرمانها من إمكانية استخدام الجيش كأداة لها, فأغلق باب الترقيات أمام المصريين وأعاد تعزيز المواقع القيادية للأتراك والشراكسة بالجيش, وهو ما فاقم غضبة الضباط المصريين, الذين جاء من صفوفهم قادة الثورة العرابية. وللحديث بقية المزيد من مقالات د. طه عبد العليم