«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«السوربونى».. صوت الثورة فى باريس
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 03 - 2019

عندما اشتعلت الثورة فى مصر فى التاسع من مارس عام 1919 احتجاجًا على قيام سلطات الاحتلال البريطانى بالقبض على سعد زغلول وصحبه من قادة الوفد المصرى ونفيهم إلى مالطة؛ كان الشاب محمد صبرى (1894 1978) الذى اشتهر فيما بعد بالسوربونى، والذى أصبح واحدًا من أهم مؤرخى المدرسة القومية المصرية، طالبًا يدرس التاريخ فى جامعة السوربون، وكان منضمًا للجمعية المصرية بباريس، وأحد الناشطين البارزين فيها، ومن خلال نشاطه فى الجمعية المصرية، تعرف على قادة الوفد عندما فرضت الثورة على سلطات الاحتلال إطلاق سراح سعد ورفاقه وسمحت لهم بالسفر لباريس؛ وأصبح محمد صبرى وقتها سكرتيرًا لزعيم الوفد المصرى فى باريس.
...........................................................
وأثناء أحداث الثورة كتب محمد صبرى السوربونى، كتابًا صغيرًا بالفرنسية صدر فى باريس سنة 1919، بعنوان «الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة»، كان الكتاب فى الأساس يهدف إلى الدعاية للقضية المصرية وتعريف الرأى العام الأوروبى بها، كتب كتابه والأحداث مشتعلة، وزوده بمجموعة من الوثائق والصور الفوتوغرافية التى تسجل جرائم الاحتلال الإنجليزى ضد الشعب المصرى، وجاء كتابه هذا فى سياق دعم المصريين بباريس للثورة، وقد اختار مخاطبة الرأى العام الغربى بلغته، فكتب بالفرنسية، ودعم وجهة نظره - التى هى وجهة نظر قيادة الثورة فى الوقت نفسه - من خلال الوثيقة والصورة، واعتمد على ما كان ينشر فى الصحف الإنجليزية والأمريكية والفرنسية عن الثورة المصرية ليكون أكثر إقناعًا للرأى العام الغربى، كما استعان ببعض ما نشر فى الصحف التى كانت تصدر فى مصر بالفرنسية والإنجليزية وبما نشرته بعض الصحف الموالية للاحتلال الصادرة بالعربية كجريدة المقطم.
لماذا قامت الثورة؟
«بالتأكيد إن هذه الثورة واحدة من أجمل الثورات فى التاريخ؛ لقد كانت عفوية سببتها سياسة الخنق المنظم ضد شعب من أربعة عشر مليون نسمة، مجمع كله على حقه فى الاستقلال والحرية؛ هذه الكلمات القليلة «سياسة الخنق المنظم» تلخص وحدها كل الأسباب البعيدة والقريبة للثورة، وإذا كان من الضرورى أن نضع خطًا فاصلًا بين الأسباب البعيدة والقريبة فإن سنة 1914 هى هذا الخط الفاصل؛ ذلك أنها السنة التى أعلن فيها - بشكل غير شرعى الحماية البريطانية.»
بهذه الفقرة يفتتح محمد صبرى كتابه ويسترسل فى شرح الأسباب التى أدت إلى قيام الثورة، لقد كانت سياسات الاحتلال منذ اليوم الأول تثير غضب المصريين وحنقهم، ومع مرور الوقت أخذ الشعور الوطنى الرافض لوجود الاحتلال يتنامي؛ ويرى صبرى أن تنامى هذا الشعور الوطنى والسعى نحو الاستقلال التام كان أمرًا طبيعيًا؛ «لقد كانت مصر عشية الاحتلال الإنجليزى ولاية تركية لا تتمتع فحسب بحكم ذاتى تام طبقًا لوضعها السياسى الذى تحدد بموجب معاهدة لندن سنة 1840، ولكن أيضًا باستقلال ذاتى خارجى بموجب فرمانات أعلنت بعد ذلك؛ إن مصر لم تتخل أبدًا عن حقوقها التى صدقت عليها القوى الكبرى رسميًا، وناضل المصريون دائمًا من أجل حمايتها، بل واكتساب حقوق أخري؛ ولذلك قاموا بثورة 1881، لقد اعترف اللورد كرومر نفسه بأن هذه الثورة الأولى كانت وطنية تحررية؛ إلا أن ذلك لم يمنع إنجلترا أن تحتل البلاد عسكريًا بالحجة الأبدية إعادة النظام.»
لقد أعلنت بريطانيا الحماية على مصر فى 18 ديسمبر سنة 1914، وطوال سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت السياسة البريطانية فى مصر قائمة على تكميم الأفواه، وإرغام المصريين على العمل جنودًا مقاتلين أو عمالًا فى الخطوط الخلفية للحلفاء، كما قامت باستنزاف ثروات البلاد لصالح المجهود الحربى، وفرضت القيود على السوق المصرى لصالح الرأسمالية البريطانية، وأدت السياسات البريطانية إلى إفقار المصريين، ودفعت هذه السياسات معظم المصريين بمختلف طبقاتهم إلى التوحد ضدها.
وعندما لاحت فى الأفق بشائر انتهاء الحرب، وتعلقت آمال المصريين بمبادئ الرئيس الأمريكى ويلسون، وبالحصول على استقلال البلاد عبر مؤتمر الصلح؛ رفضت سلطات الاحتلال بتعالى السماح بسفر الوفد الذى يمثل الأمة إلى لندن أو باريس للتفاوض من أجل الاستقلال، بل بلغ الصلف البريطانى حد رفض السماح بسفر رئيس الوزراء إلى خارج البلاد، واستمرت الأحكام العرفية فى الرقابة على الصحف وحجب الأخبار ومنع الاجتماعات العامة.
ولم يختلف حال المصريين فى الخارج عن حال أهلهم فى الوطن فيما يتعلق بغياب المعلومات عنهم، ويقول محمد صبري: «لقد وصلت سياسة الخنق تلك إلى الدرجة التى جعلت أى مصرى فى أوروبا لا يستطيع معرفة ما الذى كان يحدث فى مصر، وبصدفة فريدة تظهر الإجماع وعفوية الشعور الوطنى، قدمت الجمعيات المصرية التى كانت قد تشكلت فى العواصم الأوروبية، وأثناء تقديم الوفد المصرى فى الداخل لاعتراضاته، الاعتراضات والمطالب الوطنية نفسها.»
كان المفجر المباشر للثورة القبض على سعد زغلول وعدد من رفاقه ونفيهم إلى مالطة يوم 8 مارس 1919؛ فعندما تسرب الخبر انفجرت الثورة فى اليوم التالى مباشرة؛ يوم 9 مارس، حيث «ترك طلاب المدارس العليا فى القاهرة مدارسهم، وقاموا بمظاهرات سلمية بهدف الاحتجاج، ولكن تم القبض على مئة وعشرة طلاب منهم.»
لكن هل أدت إجراءات سلطات الاحتلال إلى توقف الاحتجاجات؟
حدث العكس تمامًا؛ «فى العاشر من مارس خرج طلاب كل المدارس العليا والثانوية، إضافة إلى طلبة جامعة الأزهر، خرجوا يتظاهرون فى الشوارع وهم يهتفون: مصر للمصريين، وفى اليوم نفسه قرر المحامون الإضراب، وأعلن كل محام بشكل منفصل أمام القاضى أنه سيتوقف عن الدفاع عن موكله، وسجل هذا الإعلان فى المحضر الرسمى، وقام السائقون والمحصلون بترام القاهرة بالشيء نفسه ليتظاهروا، ولكن قوبلت هذه المظاهرات السلمية بنيران المدافع والرشاشات، وسقط العديد من الضحايا من الطلاب، وانتقل خبر هذا القتل الجبان من القاهرة وكأنه شرارة كهربائية ألهبت البلاد بأكملها».
شاركت فى الثورة كل طبقات الأمة وكل فئات الشعب، بدأت بالطلاب وامتدت إلى المحامين والمهنيين بمختلف مهنهم والعمال والفلاحين والتجار وعندما شكرت السلطات البريطانية موظفى الحكومة لانتظامهم فى العمل انضموا إلى الإضراب فى اليوم التالى مباشرة لرسالة الشكر، ليأكدوا أن طبقات الأمة على قلب رجل واحد، وتنوعت أساليب العمل الثورى بين المظاهرات السلمية والمنشورات إلى الإضراب عن الدراسة والعمل، تصعيدًا باستخدام أسلوب الهجمات المسلحة وقطع خطوط السكك الحديدية والتلغراف، ووصولًا إلى إعلان استقلال بعض المناطق وإدارتها إدارة ذاتية.
كذلك كانت مشاركة النساء فى المظاهرات منفردات منذ اليوم الثانى للثورة، ثم المظاهرات النسائية الكبيرة التى بدأت بمظاهرة 16 مارس؛ «هذا اليوم العظيم هو الذى وضع النساء من كل الطبقات فى المقدمة باعتبارهن محرضات على الوطنية وقائدات للرجال»؛ كانت ظاهرة المشاركة النسائية قد غابت عن حركات الاحتجاج الشعبى فى مصر منذ ما يزيد على قرن من الزمان، فأخر المشاركات النسائية الموثقة كانت تلك التى وقعت مابين دخول الحملة الفرنسية إلى مصر 1798 والثورة التى أتت بمحمد على حاكمًا للبلاد عام 1805، خرجت المرأة المصرية هذه المرة للمشاركة بقوة فى المجال العام، ولم تعد ثانية إلى الحرملك، وكان هذا الخروج ملمحًا من الملامح المميزة لثورة 1919.
ومن تلك الملامح المهمة أيضًا اكتمال مشروع المواطنة بمشاركة كل الأطياف الدينية فى مصر فى الحراك الثورى، ويستشهد السوربونى بجزء من خطاب لأحد أبرز قادة الوفد المصرى وهو ويصا واصف، كتبه فى 2 أغسطس 1919؛ يقول فيه: «كان الأقباط المسيحيون، باعتراف جريدة المورننج بوست نفسها فى 9 أبريل، أكثر ملكية من الملك، فكانوا من بين الأكثر تمسكًا بالفكرة الوطنية وأوائل من وقعوا ضحايا من أجل قضية الاستقلال؛ كان القساوسة المسيحيون يدعون من أعلى المنابر إلى حب الوطن، كذلك كان مشايخ وعلماء الأزهر فى الكنائس، وظهر على العلم الوطنى الصليب مع الهلال والنجوم الثلاث التى يحملها العلم المصري؛ كنا نرى قساوسة مسيحيين فى سيارة مزينة بالأعلام الوطنية تجوب الشوارع وعليها صورة البطريرك القبطى، رأيت أحد هؤلاء القساوسة يضع يده فى يد أحد العلماء المسلمين داعيًا الجماهير إلى حب الوطن الأم، المنظر الأكثر تأثيرًا كان ظهور أعلام يحيط فيها الهلال بالصليب وكأنه يحتضنه مع هذا الظهور كان يصيح الجمهور الثائر: تحيا مصر الوطنية عاش الوطن متحدًا.»
ولا تقتصر مشاركة الأقباط المسيحيين فى الثورة على تلك الثورة النمطية لقس يخطب على منبر مسجد، بل إن البعد الأهم كان حجم مشاركة النخبة المسيحية فى قيادة الثورة، إن أسماء مثل ويصا واصف وفخرى عبد النور وواصف غالى وسينوت حنا ومكرم عبيد، هى مجرد نماذج دالة على حجم المشاركة المسيحية فى الثورة.
كذلك كانت مشاركة اليهود المصريين واضحة، ويذكر السوربونى فى سياق سرده لمشاهد جنازات الشهداء، جنازة شهيد يهودى ضمن جنازة مجمعة للشهداء وقد حمل بعض المشيعين خلفه علمًا عليه شعارات دينية يهودية، ويقول فى وصفه للمسيرات فى سياق آخر: «كان الجمهور يصفق فى كل مرة عندما يركب قس مسيحى وحاخام يهودى وأحد علماء المسلمين جنبًا إلى جنب فى السيارة نفسها.» هذه الحالة التى عبرت عنها كثير من أغنيات سيد درويش إبان سنوات الثورة.
يشير السوربونى كذلك إلى مشاركة بعض الجاليات الأجنيبة المقيمة فى مصر فى الثورة، تضامنًا مع مطالب الشعب المصرى، خاصة اليونانيين الذين سقط منهم شهداء فى الثورة؛ وعندما ذهب وفدً من الأعيان المصريين لتعزية القنصل اليونانى، ألقى فيهم خطابًا استمر لساعة ونصف الساعة، ومما جاء فيه: «إننا نقدم هؤلاء تضحية على مذبح حريتكم».
كما أشارت بعض الصحف الأوروبية فى مصر وفقًا للسوربونى - فى سياق التأكيد على عدم تعرض الثوار بالإيذاء للأجانب المقيمين فى مصر إلى أن عددًا كبيرًا من الأوروبيين كانوا يسيرون فى المظاهرات مجاملة للمصريين.
كذلك يرصد الكتاب مشاركة الأطفال من أعمار مختلفة فى التظاهرات، وسقوط بعضً منهم شهداء، ويوثق لبعض هذه الحالات، كما يورد وصفًا تفصيليًا لبعض جنازات الأطفال؛ وفى هذه السنوات، سنوات الثورة، أصبح من عادة الأسر المصرية أن يرتدى أطفالهم ملابس تحمل شكل العلم المصرى، وأن تؤخذ لهم الصور الفوتوغرافية بهذه الملابس أو وبجوارهم العلم المصرى، ولم يقتصر هذا التقليد على الأطفال بل امتد إلى النساء، وهناك صورة شهيرة لأم المصريين ترتدى فستانًا بصورة العلم المصرى.
ويختم السوربونى هذا الجزء من كتابه بملف وثائقى عن جرائم الاحتلال البريطانى فى قمع الثورة المصرية، مركزًا على أحداث نزلة الشوبك بمديرية الجيزة، والتى شهدت فظائع مروعة لقوات الاحتلال تجاه أهالى القرية.
ومن الجدير بالذكر أن السوربونى أصدر جزءا ثانيًا من الكتاب صدر أيضًا بالفرنسية فى باريس سنة 1921، بعد انتهاء مرحلة الثورة العنيفة أكمل فيه بهدوء شرح القضية المصرية، وتتبع فيه تطورات الوضع فى مصر فى عامين، فقد كان لاستمرار الثورة لأسابيع وشهور بعد الإفراج عن الزعماء أثره فى سعى بريطانيا للدخول فى مفاوضات لتحديد شكل علاقتها بمصر، وفى هذا السياق تشكلت لجنة برئاسة ألفرد ملنر وزير المستعمرات فى الحكومة البريطانية لتحقق فى أسباب الثورة المصرية، وتضع تصورًا من خلال استطلاع رأى الساسة المصريين لشكل العلاقة بين البلدين، ومرة أخرى كانت مقاطعة المصريين للجنة تعبيرًا عن استمرار الثورة ورفض المماطلة البريطانية، حتى أضحى هذا الموقف مثلًا فى الثقافة المصرية يشير إلى حدة المقاطعة والخصام، عندما كانت توصف مقاطعة إنسان لآخر بأنها «ولا مقاطعة لجنة ملنر»؛ وفى نهاية الأمر لقد نجحت الثورة فى إلغاء الحماية رغم إقرار مؤتمر الصلح لها، ومنحت بريطانيا استقلالًا من طرف واحد لمصر، بتصريح 28 فبراير 1922، لكنه كان استقلالًا منقوصًا؛ فاستمرت مقاومة الاحتلال لسنوات وسنوات.
وقد ناقش السوربونى مشروع ملنر الذى رفضه الوفد ورفضته الأمة؛ ومثلما اعتمد فى الجزء الأول على الوثائق فقد أفرد قسمًا من الجزء الثانى من الكتاب لوثائق مشروع لجنة ملنر، وللتعديلات التى أدخلت عليها، كما يتتبع ردود الفعل فى الصحافة الأوروبية والأمريكية على المشروع.
والملاحظ على الكتاب خاصة فى جزئه الأول أن صوت المؤلف لا يظهر فيه إلا قليلًا بين الوثائق والفقرات المقتبسة من المقالات الصحفية المعاصرة للحدث والموثقة له؛ وإذا كان محمد صبرى قد سعى من خلال عمله وقت صدوره إلى التأثير فى الرأى العام الغربى واجتذابه إلى جانب القضية المصرية؛ فإن الكتاب بجزءيه أصبح وثيقة حية، وعملًا توثيقيًا من الطراز الأول جعل من صاحبه موثقًا للثورة المصرية بحق.
وقد قدم لجزءى الكتاب فى طبعته الفرنسية البروفسير أولار أحد أساتذة محمد صبري؛ وأستاذ تاريخ الثورة الفرنسية؛ وقد جاءت المقدمتان فى شكل رسالتين قصيرتين موجهتين من الأستاذ إلى تلميذه بعد أن قرأ مسودة كل جزء؛ وتضمنت الرسالتان إشادة بمنهجية صبرى فى البحث والاعتماد على الوثائق، لكن الأهم من ذلك تأكيده على استلهام الثورة المصرية لمبادئ الثورة الفرنسية؛ الأمر الذى كان يحرص عليه صبرى حرصًا شديدًا؛ فكما يقول الدكتور مجدى عبد الحافظ أحد مترجمى الكتاب فى تقديمه للجزء الأول من الكتاب: «كتاب الثورة المصرية إذن لم يكن كتابًا مدرسيًا، ولكنه كان كتابًا يحمل رسالة وطنية حاول صاحبه القيام بها فى وقت حرج، وهو الوقت الذى اندلعت فيه الثورة، ولم يخمد أوارها بعد؛ ومن ثم تصبح المهمة الأساسية التى يمكن أن يضطلع بها ليؤثر على الرأى العام فى أوروبا بشكل عام، والرأى العام الفرنسى بشكل خاص، أن يبذل جهدًا فى تقريب ما يحدث فى مصر مع قيم الثورة الفرنسية، وقيم الثقافة الفرنسية بشكل عام حتى يكسب التعاطف لقضية بلاده.» ومن هنا نجد صفحات الكتاب ملأة بالمقارنات بين أحداث الثورتين المصرية والفرنسية، وبالاستشهادات من كتابات المفكرين الفرنسيين؛ فهو يحاول أن يقدم الثورة المصرية باعتبارها امتدادًا لأفكار وقيم الثورة الفرنسية.
هذا وقد قام الدكتور مجدى عبد الحافظ والدكتور على كورخان بترجمة الجزء الأول من الكتاب إلى العربية فى سياق الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لرحيل السوربونى، وصدر الكتاب عن المشروع القومى للترجمة، عام 2003؛ وبعد طول انتظار صدرت ترجمتهما للجزء الثانى فى العام الماضى عن المركز القومى للترجمة، كما أعاد المركز نشر الجزء الأول الذى نفد منذ سنوات، ليكتمل بذلك هذا العمل المهم ونحن نحتفل بمئوية الثورة المصرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.