تهتم بعض المجلات العربية بإهداء قرائها مع كل عدد كتابا من الكتب القيمة التى مضى على نشرها سنوات طويلة ولم يعد من السهل العثور عليها إلا فى أسواق الكتب القديمة، وهذه الكتب المهداة غير الكتب المدفوعة الثمن التى تصدر عن بعض المؤسسات الصحفية. ولا شك أن اختيار هذه الكتب المهداة المؤلفة والمترجمة يقتضى الكثير من التنقيب والتحرير حتى تجد فى هذا الماضى ما يتفق مع ذوق القراء المعاصرين، وهى لا تتقيد بثقافة معينة أو جنس أدبى محدد، ذلك أن كل ما تحرص علية القيمة العالية التى تملك من العمق والأهداف القومية والإنسانية ما يجعلها تقرأ فى أيامنا المعاصرة كما كانت تقرأ يوم صدورها فى ماضيها القريب أو البعيد أملا فى تفريخ شخصيات جديدة لم يلتفت إليها تاريخنا الثقافى ويمكن أن تجد إضافة للحياة الأدبية والفنية الراهنة. من هذه الكتب كتاب مجهول عنوانه «بين ثقافتين» لكاتب سودانى يدعى معاوية محمد نور مات شابا فى سن الثانية والثلاثين من عمره إذ إنه ولد فى 1909 ورحل فى 1941 فلم يتح له أن يقطع مراحل العمر أو أن يصل إلى سن النضج والكمال ويعرف بموهبته الفذة وثقافته الموسوعية التى نراها فى كتابه الذى تركه لنا ويدعو فيه إلى إحياء التراث وربط الأدب بالحياة ،والعناية بترجمة الآداب الأجنبية. وهذا الكتاب لا يقتصر على التعريف بمعنى الثقافة العربية وغيرها كاللاتينية والروسية وما تتميز به من رفعة الفن وجمال الأساليب، وإنما يشمل أيضا القضايا الأدبية والفنية المتصلة بالعلوم والأخلاق التى تغطى مطارح الفكر الانساني، وغايات الإصلاح والتسامى بالصنعة الفنية. كما يشمل الكتاب مجموعة من الصور والأقاصيص تعكس الواقع السودانى الشعبى فى المرحلة المبكرة التى كتبها فيها وكانت تفيض بالخواطر والذكريات والخيال. والأدب فى نظر هذا الكاتب الذى كان بمنزلة هبة من الحياة مستودع تاريخ العالم ينبع من الفرد ويتجه إلى الجماعة وهو مقدم على علم النفس لأنه باللمحة الواحدة فى المعنى التى تصدر من العاطفة، تفوق ما يحتاجه علم النفس من شرح طويل، دون أن يترك أثر الأدب والفن الذى لا حياة دونهما. أما الفلسفة التى لا غنى عنها فإنها تعود دائما إلى ماضيها، لأن فى كل جديد أشياء من القديم. ولكنها تخرج من هذا القديم بالجديد وبه يتضاعف الإحساس بالحياة ورحابة الفكر. ولأن القراءة تنظم التفكير فإنها شرط للنجاح فى العمل وفى التعامل مع الآخرين وعلى من يريد أن يكون أديبا أن يقرأ آداب الدنيا وليس فقط آداب المراكز العالمية. وما لا يعرفه أحد عن هذا المؤلف الذى عشق الكتب إلى حد الجنون انه توجه إلى مصر وحركة الإحياء الشعرى فى قمتها، وبجانبها تيار التجديد أو البعث الأكثر ارتباطا بالتراث العربى والثقافات الأجنبية التى أضافت قيما جديدة للشعر العربى تنتمى للعصر وتخرج به من المحلية إلى المحيط الإنساني. وفى مصر اشترك مع محمد حسين هيكل فى تكوين جماعة الأدب القومى واشترك مع محمد تيمور وتوفيق الحكيم فى جماعة العشرين التى دعت لآفاق أدبية جديدة تجمع بين أصالة الماضى وتطلعات الحاضر يعتنى فيه النقد بالتشكيل الفنى آو الجمالي، بغير نفى للابعاد الاجتماعية والنفسية التى يتضمنها. وإحياء الأدب القومى عند هذا الكاتب يأتى تاليا لحركة ترجمة الآداب العالمية التى كان يحيط بها فى الكتب والصحف والأبحاث الجامعية والتشيع بما تمنحه هذه الآداب من تفاعل حضارى نطالعه فى منهجه العلمى وقيمه الموضوعية وإجادة التعبير عنها على نحو ما نطالعه فى أدب ونقد كتاب الصف الأول فى بلادنا، الذين تدين لهم الثقافة العربية الحديثة ببعثها ودفعها.