تشير التقارير المتعلقة برصد مظاهر معاداة السامية فى فرنسا، إلى ازدياد هذه الظاهرة فى عام 2018 على ما قبلها، وتتراوح مظاهر هذا العداء بين التعدى اللفظى واستخدام مفردات تنتسب لقاموس معاداة السامية المترسبة فى المخزون الجمعى لدى العديد من فئات الفرنسيين، وذلك منذ قضية دريفوس وحتى الآن، وكذلك رسم الصليب المعقوف شعار النازية على بعض مقابر اليهود. ورغم تعدد مظاهر العداء للسامية كما تشير مؤشرات الرصد لهذه الظاهرة، فإن الفتيل الذى أشعل حملة مناهضة العداء للسامية فى فرنسا على المستوى الرسمى والشعبى، تمثل فى الواقعة التى حدثت للأكاديمى الفرنسى اليهودى ألان فينكيلكرو حيث قام بعض المتظاهرين من السترات الصفراء بالتعرف عليه وإلقاء بعض العبارات فى وجهه مثل الصهيونى القذر واذهب إلى إسرائيل.شارك فى هذه الحملة التى دعا إليها سكرتير الحزب الاشتراكى عشرات الأحزاب الفرنسية والجمعيات الأهلية، كما شارك أكثر من نصف عدد أعضاء الحكومة من الوزراء إلى سكرتيرى الدولة ورئيس الحكومة, فى حين أن الرئيس الفرنسى حضر العشاء الرسمى الذى يقيمه المجلس التمثيلى للمنظمات اليهودية فى فرنسا حيث صرح بأن بلاده بصدد إصدار قرار أو تشريع يعتبر أن معاداة الصهيونية من أشكال معاداة السامية. حركة السترات الصفراء المستمرة منذ النصف الثانى من نوفمبر الماضى، ترفض حتى الآن أن تكون حركة منظمة أو حزبية كما ترفض آلية التمثيل، والحد الأدنى من النظام فى صفوفها، كما أنها حتى الآن لم تستطع أن تبلور إستراتيجية جديدة سياسية بدلا من إستراتيجية كل شيء أو لا شيء، ومن ثم فإن الحركة تغلق على نفسها الباب، ويبدو غضبها عاجزا حتى الآن عن تحقيق أهدافها، وقد يفسر ذلك من ناحية انتشار اليأس والملل بين بعض أعضائها، وضعف التعبئة والحشد مقارنة بالبدايات، والأهم من ذلك التحول فى موقف الرأى العام تجاهها فبعد تأييدها أصبح يريد توقفها. يجمع الكثير من المحللين والمثقفين الفرنسيين على أن قيام بعض أصحاب السترات الصفراء بعمل معاد للسامية، لا يعنى أن هذه الحركة برمتها معادية للسامية، فهى حركة مفتوحة على مصراعيها تفتقد التنظيم والنظام والمرونة، وهى عرضة لاختراق بعض المعادين للسامية من أوساط مختلفة. الأطراف المستفيدة من التعبئة حول هذه الواقعة يجىء فى مقدمتها الرئيس الفرنسى وحكومته والطبقة السياسية المتنفذة؛ ذلك أن تهمة العداء للسامية فى فرنسا وأوروبا عموما كفيلة بإطلاق رصاصة الرحمة على أى شخصية سياسية أو حركة اجتماعية أو سياسية بصرف النظر عن حجم وطبيعة الواقعة وحدودها، وقد لاحظ الكثيرون التعمد المقصود والمغالاة فى التعبئة والحملة المناهضة لمعاداة السامية وانخراط الحكومة والرئيس فى فعاليتها، والهدف هو تحجيم هذه الحركة ووصمها أمام الرأى العام وحجب التعاطف عنها وشيطنة أصحابها، وإخراجهم من حيز التوافق الوطنى حول حظر معاداة السامية، خاصة بعد أن فشلت الحكومة فى احتواء الحركة وتداعياتها، وبعد رفض الحركة حزمة الإجراءات التى كلفت الدولة الفرنسية 10 مليارات يورو واستمرارها بوتيرة أقل فى الاحتجاج، لكنها منتظمة على مدى ما يقرب من أربعة عشر «سبتا» متتالية. من ناحية أخرى فإن الرئيس الفرنسى ومن خلال هذه الحملة سيحظى بتعاطف الجالية اليهودية فى فرنسا وفى الخارج لدعمه على الصعيد الفرنسى الداخلى والأوروبى لأنه يضيف إلى معاداة السامية معاداة الصهيونية وهو أمر يحظى برضا إسرائيل والدوائر المؤيدة لها فى مختلف البلدان. والمشكلة تكمن فى المساواة بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، فالأولى تعنى فى الإدراك العام معاداة الديانة اليهودية، بينما تعنى معاداة الصهيونية، معاداة أيديولوجية سياسية وضعية ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر وقامت بطرد الشعب الفلسطينى وارتكاب جرائم إبادة وتطهير عرقى وأقامت دولة تعترف بالفصل العنصرى كقانون أساسى للدولة. وهذا الخلط بين الأمرين من شأنه تجريم حملة BDS أى المقاطعة الشعبية لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية، وتجريم انتقاد السياسات الإسرائيلية إزاء الشعب الفلسطينى، وتصبح بذلك إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى العالم التى يمنع القانون انتقادها، ويمنحها حصانة إضافية واستثناء ويضع هذا القرار أو القانون المزمع إصداره اليهود المعادين للصهيونية أنفسهم فى عداد الذين يطبق عليهم، وبالمثل كل المثقفين اليهود الذين ينتقدون إسرائيل وسياساتها ويريدونها دولة لليهود والمسيحيين والمسلمين ويرفضون إضفاء صفة اليهودية عليها. هذا فى الوقت الذى يشير فيه أحد استطلاعات الرأى العام الفرنسى إلى أن 57% من الفرنسيين يحتفظون بصورة سيئة لإسرائيل، و69% منهم يحتفظون بصورة سيئة عن الصهيونية فى حين أن 71% يحملون إسرائيل مسئولية توقف المفاوضات. لمزيد من مقالات د. عبدالعليم محمد