بقدر من الارتباك، تعاملت وسائل إعلامنا، الحكومية والخاصة، مع الجدل الذي صاحب إعدام تسعة إرهابيين. وبصيغة لا تليق، تناولت حدثًا بأهمية القمة العربية الأوروبية، التي استضافتها مدينة شرم الشيخ. وجاءت كارثة محطة رمسيس، التي أودت بحياة عشرات وأصابت آخرين، لتضاف إلى اختبارات أخرى متتالية، فشلت فيها، إلا قليلًا، أو باستثناءات. والاستثناء، كما لعلّك تعرف، يثبت القاعدة ولا ينفيها. لو تجاوزنا ووصفنا الصحفيين ومقدمي البرامج التليفزيونية، بأنهم سحرة فرعون، كما سبق أن وصفهم مرشد الجماعة الإرهابية، يمكننا أن نواصل، دون أن نتجاوز، ونقول إن حيّاتهم (جمع حيّة) صارت صيدًا سهلًا، لا لعصا موسى، وإنما لأي حية صغيرة تلقيها وسائل إعلام، تحت مستوى الشبهات، تموّلها أجهزة المخابرات التركية والقطرية وربما الإسرائيلية. الأمر الذي يستوجب وقفة هادئة مع تركتنا، تركة الإعلام، الملعونة التي تقطع الطريق أمام محاولات التحديث أو التطوير، وتجعل النجاح استثناءً يثبت الفشل أو القاعدة. و«التركة الملعونة»، هو عنوان كتاب صدر منذ أسابيع لزميلنا وصديقنا الدكتور محمد الباز، الذي يعرفه البعض مقدمًا لبرنامج 90 دقيقة على شاشة قناة المحور، ويعرفه آخرون رئيسًا لمجلسي إدارة وتحرير جريدة الدستور، ويعرفه طلاب كلية الإعلام، بجامعة القاهرة، مدرسًا في قسم الصحافة. صحفي، مقدم برامج وأكاديمي، اقترب وكتب وكشف كثيرًا مما كان مستورًا، ولم يخالف الحقيقة عندما قال إن أحدًا لا يجرؤ أن يكتب ما كتبه في هذا الكتاب. ولم يفارق الواقع عندما تعامل مع «التركة الملعونة» على أنه كتاب «الأسرار» التي لا يريد لها أحد أن تظهر للنور. وبين «التركة الملعونة» و«كتاب الأسرار»، هناك عنوان ثالث، هو «جناية الإعلاميين الكبرى» يظهر في الصفحة الثالثة أو الصفحة الأولى بعد غلاف، تضمن صورًا ل27 شخصية. ومع ذلك، ينصحك الباز، قبل أن تقرأ، بألا تشغل بالك كثيرًا بالبحث عن سر أو فضيحة، وبألا تهتم بأن تشمت أو تفرح فيمن تعتقد أنك تكرههم أو تحقد عليهم، لأن ما يتضمنه الكتاب، في رأيه، أكبر من هذا بكثير، ولأنه لا يسعى من ورائه إلى فضح أو تشهير. جنايات كثيرة ارتكبها إعلاميون، ستجدها في الكتاب، أما الجناية التي يمكن وصفها بالكبرى، في تصوري، فارتكبتها شبكات التواصل الاجتماعي، التي جَنت، مرتين، على وسائل الإعلام التقليدية: الأولى، عندما استباح الجمهور هذه الشبكات، وجعلها وسيلة لنشر ما لديه من معلومات وأخبار وتعليقات على الأحداث. أما الثانية، وهي الأكثر خطرًا وأعمق وقعًا، فكانت بتحقيق شبكات التواصل الاجتماعي لما يمكننا توصيفه ب«ديمقراطية المعرفة»، التي يري «الباز» أنها أفسدت على الإعلاميين عملهم، وأجهضت كثيرًا من تأثيرهم وقدرتهم على توجيه الرأي العام. ولأن لدينا إعلاميين يستسهلون في الأداء ولا يبذلون الجهد المطلوب منهم في إنجاز عملهم، فقد اعتمدوا على ما يتم نشره على هذه الشبكات، بل إن وسائل إعلام كثيرة ركعت أمام ما تم الترويج له على أنه إعلام موازٍ، أو ما يسمى بالقارئ الصحفي، الذي يستطيع الآن أن يصور الحدث على الأرض بكاميرا تليفونه المحمول، ويحصل على بعض المعلومات ثم يرسلها إلى المواقع الإلكترونية، وهناك مواقع خصصت رقم «واتس آب» لتلقى أعمال القُراء الصحفية. والخطأ هنا، كما يؤكد الباز، هو خطأ الإعلام، لأن الجمهور مهما حصل على معلومات وفيديوهات، يظل ما ينشره مادة خاما، لا بد أن يعمل عليها الصحفي ويستقصيها، لكن ما يحدث أن هذه المعلومات الناقصة المبتورة تصبح هي الأساس في المعالجات الإعلامية. الأكثر من ذلك، هو أنه أصبح مألوفًا أن تجد الصحفي يحصل على أخباره، من صفحات أنشأتها مجموعات من الجمهور، وبعد أن يعيد صياغتها (أو تدويرها) وينشرها على موقعه، يضع الرابط على صفحة تلك المجموعة «الجروب»، أو تلك، حتى يحظى بأكبر نسبة من القراءة، ولأن تعداد القراءات مؤشر من مؤشرات نجاح الصحفي والمواقع، تحولت هذه الصفحات (الجروبات) إلى ديكتاتوريات صغيرة، لا تقبل من أحد أن يختلف معها، بل وصل الأمر بالمسئولين عنها أن هددوا المواقع التي لا تسير على هواهم بأنهم سيقاطعونها، في حالة أقرب إلى إرهاب الإعلاميين، الذين آثر كثيرون منهم السلامة وخضعوا للابتزاز!. بهذا الشكل، تم تفتيت المنظومة كلها، ووقف الإعلاميون مكتوفي الأيدي في حالة استسلام مخزية لما يراد بهم ولهم، دون مقاومة أو محاولة لاسترداد الدور الذي يجب أن يقوموا به، وهو ما جعل التجرؤ عليهم من الجمهور أمرًا سهلًا ومعتادًا، فلا أحد يملأ مكانه إلا ما ندر، ولا أحد يمكنه أن يقود الجمهور مرة ثانية. وعليه، كان طبيعيًا أن ينصرف الجمهور إلى وسائل إعلام أخرى، يعلم أن أخبارها ملونة، وأنها تهدف إلى تقويض الوطن تقويضًا كاملًا، لكنه استسلم لها، وربما حدث هذا، كما أوضح الباز، لأن هناك حالة من التماهي بين ما تقدمه هذه القنوات وما يصل إليه الجمهور من تفسيرات وتحليلات وتفكيك للصورة، دون أن يكون هناك في الإعلام المصري مَنْ يملأ الساحة، ويرسم ملامح الصورة التي يجب أن تكون. ..وأخيرًا، قيل إن الإعلام التقليدي رفع الراية البيضاء في مواجهة شبكات التواصل الاجتماعي. ومع أن هذا صحيح بدرجة كبيرة، إلا أن محمد الباز، في كتابه «التركة الملعونة»، شرح وأوضح كيف أن الإعلام التقليدي هو الذي فشل أو هزم نفسه، دون أن تنجح أو تنتصر شبكات التواصل، لأنها هي الأخرى مصابة في مصداقيتها بشكل كامل. لمزيد من مقالات ماجد حبته