رئيس مصلحة الجمارك: «التسهيلات الجمركية» تدفع حركة التجارة وتعزز تنافسية الاقتصاد    شعبة الذهب: 2.17% ارتفاعا فى سعر الذهب عيار 21 بمصر خلال أسبوع    خليل الحية: حماس متمسكة باتفاق غزة وترفض كل أشكال الوصاية والانتداب    ارتفاع حصيلة العدوان على قطاع غزة إلى 70,663 شهيدا و171,139 مصابا    مدرب الأردن: سندافع عن حلم التأهل إلى نهائي كأس العرب 2025 رغم الغيابات    تشكيل منتخب مصر للناشئين مواليد 2009 أمام اليابان وديا    فرق الطوارئ بمرسى مطروح تتعامل مع تجمعات المياه بالمناطق بالمتأثرة بالأمطار.. صور    التعليم: تكثيف نشر كاميرات المراقبة بمجموعة مدارس النيل المصرية الدولية    تأجيل محاكمة سائق قتل شخصا بسبب خلافات بينهما بشبرا الخيمة ليناير المقبل    سعد الصغير ينتقد غياب المطربين عن عزاء أحمد صلاح: مهنتنا مناظر أمام الكاميرات    رئيس الوزراء يُتابع استعدادات المرحلة الثانية للتأمين الصحي الشامل    حزب الغد يتقدم بمقترح لتعديل قوانين الانتخابات الأربعة لرئيس مجلس الشيوخ    نقيب الزراعيين يطالب بتخصيص عام 2026 للزراعة والأمن الغذائى    بدء المؤتمر الصحفي لإعلان نتيجة قبول دفعة جديدة بكلية الشرطة 2026    محافظ أسوان يتابع جهود مكافحة مرض السعار ويوجه بتكثيف حملات حماية المواطنين    وزير التعليم يكلف «جبريل» بإدارة تطوير المناهج.. وأكرم مساعدًا لشؤون المبادرات الرئاسية    موعد مباراة ريال مدريد و ديبورتيفو ألافيس في الدوري الإسباني    كاميرات المراقبة أظهرت برائته.. محمد صبحي يخرج عن صمته في أزمة سائق سيارته    فيلم «اصحى يا نايم» ينافس بقوة في مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير    بعد فيديو محمد صلاح.. أحمد السقا: أموت وأدخل النار أهون من اللي حصل فيا    جون سينا يعلن اعتزال المصارعة الحرة WWE بعد مسيرة استمرت 23 عامًا .. فيديو    وكيل صحة سوهاج ينفي وجود عدوى فيروسية بالمحافظة    السفير محمود كارم: التقرير السنوي لحالة حقوق الإنسان يأتي في ظرف إقليمي بالغ التعقيد    لماذا زار طلاب جامعة بني سويف شركة النصر للكيماويات الوسيطة؟    موعد مباراة بايرن ميونخ وماينز في الدوري الألماني.. والقنوات الناقلة    "صحح مفاهيمك".. "أوقاف الفيوم" تنظم ندوة توعوية حول التعصب الرياضي    الإعلام الإسرائيلي يربط حادث إطلاق النار في سيدني بمعاداة السامية    عبلة سلامة تتصدر التريند بحلقة عمرو يوسف وتوجه رسالة للجمهور    الناشرة فاطمة البودي ضيفة برنامج كلام في الثقافة على قناة الوثائقية.. اليوم    ألمانيا.. إحباط هجوم إرهابي على سوق عيد الميلاد واعتقال 5 أشخاص    إعلان نتائج لجان الحصر السكنى بعدد من المحافظات وفقا لقانون الإيجار القديم    الصحة: لا توصيات بإغلاق المدارس.. و3 أسباب وراء الشعور بشدة أعراض الإنفلونزا هذا العام    "الغرف التجارية": الشراكة المصرية القطرية نموذج للتكامل الاقتصادي    وزارة التضامن تقر قيد 5 جمعيات في محافظتي الإسكندرية والقاهرة    فليك: بيدري لاعب مذهل.. ولا أفكر في المنافسين    «متحف الطفل» يستضيف معرضًا فنيًا عن رحلة العائلة المقدسة في مصر    "الفني للمسرح" يحصد أربع جوائز عن عرض "يمين في أول شمال" بمهرجان المنيا الدولي للمسرح    حكم الوضوء بماء المطر وفضيلته.. الإفتاء تجيب    امين الفتوى يجيب أبونا مقاطعنا واحتا مقاطعينه.. ما حكم الشرع؟    أرتيتا: إصابة وايت غير مطمئنة.. وخاطرنا بمشاركة ساليبا    ضم الأبناء والزوجة للبطاقة التموينية إلكترونيًا.. خطوة بسيطة لتوسيع الدعم    وزير الكهرباء: التكنولوجيا الحديثة والتقنيات الجديدة دعامة رئيسية لاستقرار وكفاءة الشبكة الكهربائية    مصطفى مدبولي: صحة المواطن تحظى بأولوية قصوى لدى الحكومة    نظر محاكمة 86 متهما بقضية خلية النزهة اليوم    السيطرة على حريق نشب بسيارة نقل ثقيل أعلى الطريق الدائري ببهتيم القليوبية    جوتيريش يحذر: استهداف قوات حفظ السلام في جنوب كردفان قد يُصنَّف جريمة حرب    الرياضية: جناح النصر لا يحتاج جراحة    استمرار لقاءات رئيس شركة الصرف الصحي للاستماع لشكاوى العاملين ومقترحاتهم    لماذا لم يعلن "يمامة" ترشحه على رئاسة حزب الوفد حتى الآن؟    الداخلية تنفى وجود تجمعات بعدد من المحافظات.. وتؤكد: فبركة إخوانية بصور قديمة    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 14ديسمبر 2025 فى المنيا    وزيرا خارجية مصر ومالي يبحثان تطورات الأوضاع في منطقة الساحل    الصحة: تقديم 19.2 مليون خدمة طبية بالمنشآت الطبية في محافظة القاهرة    اليوم..«الداخلية» تعلن نتيجة دفعة جديدة لكلية الشرطة    الشرطة الأمريكية تفتش جامعة براون بعد مقتل 2 وإصابة 8 في إطلاق نار    إسلام عيسى: على ماهر أفضل من حلمى طولان ولو كان مدربا للمنتخب لتغيرت النتائج    مواقيت الصلاه اليوم السبت 13ديسمبر 2025 فى المنيا    محافظ الغربية يهنئ أبناء المحافظة الفائزين في الدورة الثانية والثلاثين للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات الباز: نبوءة الجد ل"أسامة" بأنه سيكون له شأن كبير
نشر في الوطن يوم 05 - 05 - 2015

بكل المقاييس، سواء كانت مهنية أو إنسانية، لم يكن أسامة الباز رجلاً عادياً، ويمكنك وضعه بمنتهى الثقة والتقدير فى خانة «العظماء»، فالمؤكد أن تلك الخانة حصل عليها الكثيرون ب«صخب وضوضاء وأضواء»، أما هذا الرجل فدخلها ب«هدوء ووطنية وأفكار» سبق بها (مع السادات) عصره، وظل على إنسانيته وبساطته وبُعده عن الأضواء حتى آخر يوم فى حياته، وإلى اليوم لا تكاد تُلقى اسم «أسامة الباز» على سمع أى مواطن عادى فى الشارع، أياً كانت انتماءاته وتوجهاته السياسية، إلا وتجد رد فعله تجاهه تقديراً واحتراماً، لم يسبقه إليهما غيره، وهذا أمر نادر الحدوث فى بلدنا هذه الأيام.
دعك من تلك المقدمة الثابت معناها وفحواها، وتعالَ نبحث معاً عن «صندوق الأسرار» الذى كان يمتلكه الدكتور أسامة الباز، فالرجل عمل مستشاراً سياسياً للرئيس الراحل أنور السادات فى مرحلة عصيبة للغاية من عمر مصر، قبل أن يكلفه الأخير بتولى مهمة على قدر هائل من الأهمية، وهى إعداد محمد حسنى مبارك من جميع الوجوه، ليصبح جاهزاً حين يشاء القدر لتولِّى حكم مصر، وهو ما حدث بالفعل، ليستمر «الباز» فى منصبه كمستشار سياسى للرئيس.. «مبارك» هذه المرة.
السؤال: تُرى ما حجم وقيمة «صندوق الأسرار» الذى يمتلكه رجل بهذه القيمة وتلك المكانة؟ والإجابة: مؤكد أن الحجم والقيمة يفوقان كل التوقعات. من هنا، دخلت «الوطن» فى رحلة بحث مضنية، للحصول على ما يمكن الحصول عليه من صندوق أسرار أسامة الباز، خاصة أن الرجل أصيب فى السنوات الأخيرة بمرض منعه من القدرة على جمع مذكراته الممتدة من قريته فى «طوخ»، مروراً بالدراسة فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى العودة والعمل فى سلك القضاء، وحتى الالتحاق بالعمل فى القصر الرئاسى بالتزامن مع الحرب «المصرية - الإسرائيلية» ومفاوضات «كامب ديفيد»، حتى تولِّى ملف القضية الفلسطينية.
إذن، مسألة الحصول ولو على جزء من صندوق أسراره مسألة صعبة، غير أن «الوطن» تمكنت من الحصول حصرياً على الوثائق والمذكرات التى كانت تحتفظ بها زوجته، بالإضافة إلى الكتابات والتدوينات التى كان يعلق بها على الأحداث، وتروى 30 سنة من فترة عمله بالرئاسة. تلك المذكرات رصدتها لنا زوجته الإعلامية الكبيرة أميمة تمام.
فى البداية، تحفظت السيدة بشدة، فالمسألة لها أبعاد عديدة يختلط فيها «الشخصى» ب«الأمن القومى»، وهى تدرك -قبل غيرها- أن زوجها الراحل كان بجعبته الكثير والكثير، وما زالت تحتفظ به فى مكتبته التى تشغل مساحة دورين من فيلته بالتجمع الخامس. فى المكتبة أوراق ومستندات تحمل على وجهها كلمات من نوعية «سرى» و«سرى للغاية»، بالإضافة إلى حكايات تمتد على مدار 17 عاماً من الزواج، وهى الأعوام التى كانت شاهدة على الكثير والكثير من فترة حكم الرئيس «مبارك»: قضايا.. أزمات.. اختلافات وخلافات مع النظام.. ومعلومات تكفى للحكم -بموضوعية- على نظام ما زلنا نبحث عن فهمه من أجل الحكم عليه.
محاولات عديدة ومتكررة أجريناها مع السيدة أميمة تمام للحصول على الأوراق والمستندات وحق النشر، قبل أن توافق بطلبين «أو شرطين»: الحفاظ على الأمن القومى، وصورة زوجها النبيلة التى طالما صنعها وحافظ عليها على مدار سنوات عمره. إذن، قد حصلت «الوطن» على الموافقة أخيراً، ودخلت إلى صندوق أسرار أسامة الباز، لنجد مئات الآلاف من الأوراق والمستندات المهمة، دخلنا فى «عملية فرز» مضنية فى الأوراق التى كان يتلقاها منذ التحاقه بالعمل السياسى والدبلوماسى، وحتى ما بعد اندلاع ثورة «25 يناير».
بخطه المنمق الدقيق، كتب «الباز» عشرات التعليقات والتأشيرات، وراء كل مستند قضية ووجهة نظر وحقائق يكشف عنها لأول مرة، تريد عناوين لتلك القضايا التى سنثيرها فى الحلقات القادمة من «صندوق الأسرار»؟ إليك بعضاً منها: كيف كان يعد «مبارك» سياسياً لتولى الحكم؟ وماذا كان يدور بينهما حول الخطابات التى كان يكتبها للأخير والنصائح التى وجهها له اتقاء ل«غضبة الشارع» قبل ثورة 25 يناير بسنوات، وإلى أى مدى وصل الصراع فى القضية «الفلسطينية - الإسرائيلية» وتدخلات الأطراف المختلفة فيها وفى المقدمة منها التدخلات الإيرانية؟ ومن بين أوراق «صندوق الأسرار»، نقرأ معاً الوثائق المهمة التى احتفظ بها أمير قطر آنذاك، وطبيعة تحذيرات الأمن ل«صائب عريقات»، وقائمة المتهمين بتسريب محضر اجتماع على قدر كبير من الأهمية، ونظرته إلى «عمر سليمان»، وطبيعة مفاوضاته مع الإسرائيليين، وكيف كانوا يكرهونه ويحترمونه فى نفس الوقت، وغيرها من الأسرار والتفاصيل التى نكشف عنها النقاب لأول مرة.
وفى الحلقة الأولى من «أسامة الباز.. صندوق الأسرار»، تلقى «الوطن» الضوء على الجانب الإنسانى وطبيعة نشأة أسامة الباز، وهو الجانب الذى يأتى على لسان السيدة أميمة تمام، فنرى أن جده توقع له «مكانة رفيعة»، وأوصى أمه برعايته رعاية خاصة، ورحلته التعليمية من دروس والده «الأزهرى» لتعليمه -وإخوته- النحو وقواعد اللغة، مروراً بالدراسة فى كلية الحقوق، ثم دراسته العليا فى الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى قصة زواجه من أميمة تمام التى بدأت -كما تواصل الحكى- بلقاء تليفزيونى فى برنامج «صباح الخير»، ثم حضور لقاء ثقافى انتهى ب«زلزال إعلان الزواج»، كما وصفته هى.
ما سننشره هنا هو كل ما يمكن نشره قانوناً -بعض الأوراق لا يمكن لأحد تحمل تبعات نشرها القانونية والأمنية سوى الباز نفسه وبالتالى ستظل فى مكانها حتى إشعار آخر- أو بمعنى أدق هى المادة الخام التى جمعها أسامة الباز عبر سنوات طويلة فى الدبلوماسية المصرية شارك خلالها فى صنع القرار، بل كان فاعله وصانعه فى أحيان كثيرة، وكان محركه ومحوره، وامتلك علاقات ومساحات اتصال فى الداخل والخارج مع القوى الفاعلة فى العالم ومحركى التاريخ لم تتوافر لغيره، بعض الأوراق كتبها الباز بخط يده وبعضها الآخر أشبه بيوميات، وأخرى كانت ملحوظات كتبها خلال لقاءات جمعته برؤساء ووزراء وزعماء، وعلى الهوامش تجد نقاطاً كتبها لاجتماعات مع قيادات الحزب الوطنى فى لقاءات خاصة كتب عليها «جمال»، فضلاً عن عشرات ال«بلوك نوت» التى كتب فى كل منها بضع صفحات عن محاضرات يشارك فيها وأسئلة طرحها الجمهور عليه، ومشاركات قديمة له فى مفاوضات ودروس فى التفاوض، تلك التى كانت تحمل خبراته التى أراد أن ينقلها لمن بعده. الأوراق التى تحمل سرى للغاية والتى تضرب طولاً وعرضاً فى التاريخ، من حكم السادات حتى ما بعد ثورة يناير 2011، والتقارير الاستخباراتية عن الأوضاع فى الداخل والخارج والأوراق التى ترسل من مكاتبنا الخارجية وسفاراتنا فى المناطق الملتهبة، والأوراق الخاصة بالملف الفلسطينى، خاصة فى أوقات الاشتباك التى التبست فيها المواقف، تكشف جزءاً مهماً من تاريخ مصر الحديث، كما تكشف أيضاً فى أجزاء منها بدايات دخول تركيا فى المنطقة فى أوراق رسمية وتقارير تتحدث وترصد دخولها طرفاً فى المعادلة، وكيف وضعت أول أقدامها فى الملف الفلسطينى، أما عن إيران فحدث ولا حرج، لا تبدأ بالأوراق السرية القادمة من مكتب رعاية المصالح واللقاءات الخاصة التى كانت تجرى فى قلب إيران ولا تنتهى بالتحذيرات التى جاءت من تل أبيب فى أعقاب ثورة 25 يناير، ما بين أيدينا هو كنز حقيقى لأوراق كانت ستشكل مجلدات خاصة تحمل اسم وبصمة الرجل القوى فى الدبلوماسية المصرية، رجل اقترب من السادات فى فترة غيرت مجرى تاريخ الشرق الأوسط، وأوكل له مهام أقلها صياغة فكر وخيال نائبه حسنى مبارك، وتأهيله لتولى رئاسة الجمهورية فيما بعد، ليقترن اسمه بقمة هرم السلطة مع صعود مبارك إلى سدة الحكم، ناصحاً أميناً ومعلماً ومرشداً محافظاً على خطوط فاصلة بين اقترابه من الرئيس واقترانه بالشارع، الذى كان يعرف دبيب قدمه فى حوارى السيدة زينب ومطاعم الحسين وجنبات مسجد السيدة نفيسة، وعربات مترو الأنفاق التى كان يرتادها دون حراسة، ليستمع إلى الناس ويحتوى مشاكلهم ويضع فى حقيبته أو جاكيت البدلة أوراقهم التى تحمل أوجاعاً بسيطة لحلها، الأمر الذى مكنه من قلوب البسطاء ووجدوه ابن بلد مثلهم لا متعالياً أو متكلفاً، فضلاً عن علاقاته الواسعة بالوسط الثقافى والفنى وارتباطه الوثيق بأصحاب الفكر حتى لو اختلفت التوجهات، لذا لم يكن غريباً أن نشاهد فى أوراقه الخاصة أجندات مواعيده التى كان يكتبها بخط يده وتحوى مواعيد افتتاح معارض فنون تشكيلية وحفلات وندوات يشارك فيها كمستمع ومشاهد ليستفيد من تنوع الأفكار.
ربما لهذه الأسباب ظل مبارك فى الحكم طيلة سنين طويلة، لا يعرف القلق باباً إلى عرشه، هذا القلق الذى ظهر مع إبعاده عن المشهد فى 2005 وهو العام الذى شهد للمصادفة ظهور حركات التغيير فى مصر مع إعلان حركة كفاية. وقتها لم يكن أسامة الباز بجانب مبارك لينصحه، كان الأمر بيد من تسبب فى إبعاد «عقل النظام» عن قصر الحكم، الغريب أن الأوراق التى بين أيدينا تواريخ بعضها يعود إلى فترة ما بعد إبعاد أسامة الباز عن المشهد، كانت تصله ويضع خطوطاً بأقلام ملونة تحت سطور غاية فى الأهمية، لو كانت خطوط الاتصالات مفتوحة مع مبارك وقتها لتغيرت بوصلة الأحداث، أو على الأقل لتأخر مؤشرها عن الحركة.
من هنا تكمن أهمية الأوراق التى وضعها الباز أمامه استعداداً لكتابة مذكراته، لكن المرض لم يمهل ذاكرته ليبدأ فيها قبل أن يعاجله بمشهد النهاية الذى جاء قبل أن يمنح الرجل خبراته للأجيال المقبلة فى كتاب، وقبل أن يضع أوراقه الخاصة فى مكانها الصحيح فى المذكرات،
هنا نعرض الأوراق التى تشبه الألغام فى مناطق منها، سنحاول تفكيك بعضها، ونؤجل «التعامل» مع البعض الآخر، حتى تسمح قوانين الوثائق بالنشر، التى يلاحظ منها أن الباز بدأ بالفعل فى ترتيبها ووضع بعضها فى ملفات خاصة، فيما ترك مئات منها بغير ملفات، لكنه كتب عليها ملحوظات، ليستخدمها فيما بعد فى موضعها الذى حدده لها، وهو يحكى عن تجاربه وخبراته والمواقف التى حدثت وشارك فيها، فى موضوعات الصراع العربى الإسرائيلى، والمفاوضات التى جرت، وإيران وملفها النووى، والعراق واليمن والسعودية، ولبنان والصراعات الطائفية والمذهبية، وكيف أدارت مصر الأزمات التى حدثت داخلها، وقطر وصعودها ودورها فى لبنان وعلاقاتها ب«حماس» وتركيا، وقصة ظهور أردوغان فى المشهد وكيف بدأ، وعلاقة تركيا بإسرائيل والوساطة التى قام بها أردوغان بين دمشق وتل أبيب، فضلاً عن واشنطن التى كانت شريكاً فى كل التفاصيل وجزءاً لا يتجزأ من لعبة الأحداث التى حركت العالم، بالإضافة إلى الملف الليبى حتى بعد رحيل القذافى، التى تكشف بدورها أن الباز ظل على علاقة وثيقة بالأحداث حتى رحيل مبارك، بعكس ما هو شائع، فالاختفاء والإبعاد عن المشهد لم يمنع الوثائق والأوراق من الوصول إلى مكتبه حتى المرة الأخيرة التى ذهب إليه بعد 11 فبراير لينقذ ما يمكن إنقاذه من أوراق.
الملف الأكبر فى أوراق أسامة الباز هو ما يتعلق بفلسطين، الملف الذى قضى فيه سنوات عمره، مفاوضاً ولاعباً أساسياً، الملف تضخمت أوراقه لتضم أوراقاً بعضها بروتوكولية -برقيات معلومات أو ملخصات لما تناولته وسائل الإعلام- وبعضها الآخر غاية فى الأهمية، وبين «البروتوكول» و«المهم»، تجد أوراقاً كُتب عليها «سرى» و«سرى جداً» و«عاجل للأهمية» و«فورى» تحتوى معلومات استخباراتية فى موضوع ما أو مقابلة خاصة تكشف معلومة جديدة.
ولمع اسم «الباز» فى الحياة السياسية المصرية طوال العقود الثلاثة الماضية بمستوييها الرسمى والشعبى، وكانت قوة شخصيته سبباً فى إزالة الاغتراب والحواجز بينه والكثيرين، لا سيما أن خطابه الإصلاحى بدا أمام معظم النخب المصرية متطوراً عن شخصيات متعددة قريبة من نظام الحكم. لذلك كان السؤال الحاضر الغائب: لماذا لم ترَ رؤاه لأهمية الإصلاح والتغيير طريقها للتطبيق طوال السنوات الماضية؟!
وعلى الرغم من تأثيره البالغ فى مجال عمله، فإن «الباز» ظل مخلصاً للاشتراطات غير المعلنة لطبيعة منصبه، لذلك، فإنه على قدر إسهاماته فى مجال الفكر السياسى، ظل الأكثر صمتاً على ترسانة المعلومات والأسرار التى يحملها فى ذاكرته. واستطاعت «الوطن» اختراق ذلك الحصن المنيع حول أسرار الرجل، من خلال زوجته الإعلامية أميمة تمام، وسننشر، على عدة حلقات، ما يمكن أن تسمح به قيود العمل الدبلوماسى من أسرار وتفاصيل عن حياة الرجل.
نبدأ من ملف الحياة الشخصية والمهنية ل«أسامة الباز» والذى نحكيه على لسان أميمة تمام:
فى يوم من أيام يوليو الحارة فى قرية طوخ بالقليوبية عام 1931، ولدت الأم ابنها الثانى من الشيخ السيد الباز، وفرح أهل المنزل بقدوم الولد، وقرر الوالد الشيخ أن اسمه سيكون «أسامة». وبعد عامه الرابع، تنبأ الجد أن «أسامة» سيكون له شأن كبير، بالمقارنة بباقى أشقائه، فسألته الأم: «لماذا؟»، ولم يجب الجد، لكنه شدد عليها أن تهتم به، ومنذ تلك اللحظة والأم لا تنسى نصيحة الجد.
كان اهتمام الأسرة بالتعليم أكثر من أى شىء آخر، ولأن والده رجل أزهرى، فقد حرص على تعليمه القرآن الكريم واللغة العربية بشكل سليم، وكان الأب كل يوم يجمع الأبناء ليعلمهم قواعد النحو، ولفت انتباهه أن «أسامة» كان أكثرهم ذكاءً، ذكاء يسبق سنه بمراحل كثيرة، لم يكن طفلاً مثل باقى الأطفال المهتمين باللعب فقط، بل كان يفضل القراءة، ويبحث عن المعرفة.
مرَّ «أسامة» بالمراحل التعليمية المعتادة، حتى انتهى من البكالوريا، وقتها قرر أن يلتحق بكلية الحقوق، وهى كلية القادة والقامة، ولأن شغفه بالقانون أهّله لكى يكون من المتفوقين بالكلية، حصل على ليسانس الحقوق فى 1954، وقرر أن يكمل دراسته العليا فى الولايات المتحدة، وقتها مرض الأب، وكان «أسامة» يعمل وكيل نيابة، ومن الصعب أن يترك الأسرة ويسافر فى هذه المحنة، فقرر أن يؤجل سفره لمرافقة الأب ورعايته، لم يكن يتركه أبداً.
ورغم تعلقه الشديد بوالدته، فقد كانت للأب مكانة خاصة لدى «أسامة»، فهو معلمه الأول، كان يعتز دائماً بأن والده من شيوخ الأزهر، وأنه سبب إتقانه اللغة العربية الفصحى، والخط العربى، وفى كثير من الأحيان كان «أسامة» يتذكر والده وهو يجمع أبناءه ويعطيهم دروساً فى القيم والأخلاق والدين، لم ينسَ حتى نهاية العمر الدعاء الذى علمه إياه، خاصة فى أحلك المواقف والمصاعب: «اللهم اكفنى شر حب المال»، كان الأب يجعلهم يكررون الدعاء، وهكذا ظل راسخاً فى ذاكرته مدى العمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.