الدولار ب50.6 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الأربعاء 7-5-2025    باكستان: أسقطنا طائرتين عسكريتين للهند وألحقنا بها خسائر جسيمة    ترامب: لا خطط لزيارة إسرائيل الأسبوع المقبل.. وربما أزورها مستقبلًا    أول زيارة له.. الرئيس السوري يلتقي ماكرون اليوم في باريس    طارق يحيى ينتقد تصرفات زيزو ويصفها ب "السقطة الكبرى".. ويهاجم اتحاد الكرة بسبب التخبط في إدارة المباريات    إريك جارسيا يلمح لتكرار "الجدل التحكيمي" في مواجهة إنتر: نعرف ما حدث مع هذا الحكم من قبل    ملف يلا كورة.. الزمالك يشكو الأهلي.. مصير بيسيرو.. وإنتر إلى نهائي الأبطال    فيديو خطف طفل داخل «توك توك» يشعل السوشيال ميديا    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    مستقبل وطن يطالب بإعادة النظر في مشروع قانون الإيجار القديم للوحدات السكنية    "اصطفاف معدات مياه الفيوم" ضمن التدريب العملي «صقر 149» لمجابهة الأزمات.. صور    متحدث الأوقاف": لا خلاف مع الأزهر بشأن قانون تنظيم الفتوى    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    تصعيد خطير يدفع "PIA" لتعليق رحلاتها الجوية وتحويل المسارات    التلفزيون الباكستاني: القوات الجوية أسقطت مقاتلتين هنديتين    ترامب يعلّق على التصعيد بين الهند وباكستان: "أمر مؤسف.. وآمل أن ينتهي سريعًا"    الهند: شن هجمات جوية ضد مسلحين داخل باكستان    وزير الدفاع الباكستاني: الهند استهدفت مواقع مدنية وليست معسكرات للمسلحين    «كل يوم مادة لمدة أسبوع».. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة الجيزة    المؤتمر العاشر ل"المرأة العربية" يختتم أعماله بإعلان رؤية موحدة لحماية النساء من العنف السيبراني    عاجل.. الذهب يقفز في مصر 185 جنيهًا بسبب التوترات الجيوسياسية    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    سيد عبد الحفيظ يتوقع قرار لجنة التظلمات بشأن مباراة القمة.. ورد مثير من أحمد سليمان    شريف عامر: الإفراج عن طلاب مصريين محتجزين بقرغيزستان    حبس المتهمين بخطف شخص بالزاوية الحمراء    السيطرة على حريق توك توك أعلى محور عمرو بن العاص بالجيزة    قرار هام في واقعة التعدي على نجل حسام عاشور    ضبط المتهمين بالنصب على ذو الهمم منتحلين صفة خدمة العملاء    ارتفاع مستمر في الحرارة.. حالة الطقس المتوقعة بالمحافظات من الأربعاء إلى الاثنين    موعد إجازة نصف العام الدراسي القادم 24 يناير 2026 ومدتها أسبوعان.. تفاصيل خطة التعليم الجديدة    سحب 45 عينة وقود من محطات البنزين في محافظة دمياط    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    مهرجان المركز الكاثوليكي.. الواقع حاضر وكذلك السينما    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    ألم الفك عند الاستيقاظ.. قد يكوت مؤشر على هذه الحالة    استشاري يكشف أفضل نوع أوانٍ للمقبلين على الزواج ويعدد مخاطر الألومنيوم    سعر السكر والزيت والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    بعد نهاية الجولة الرابعة.. جدول ترتيب المجموعة الأولى بكأس أمم أفريقيا للشباب    3 أبراج «أعصابهم حديد».. هادئون جدًا يتصرفون كالقادة ويتحملون الضغوط كالجبال    بدون مكياج.. هدى المفتي تتألق في أحدث ظهور (صور)    نشرة التوك شو| الرقابة المالية تحذر من "مستريح الذهب".. والحكومة تعد بمراعاة الجميع في قانون الإيجار القديم    لحظات حاسمة لكن الاندفاع له عواقب.. حظ برج القوس اليوم 7 مايو    كندة علوش: الأمومة جعلتني نسخة جديدة.. وتعلمت الصبر والنظر للحياة بعين مختلفة    سيصلك معلومات حاسمة.. توقعات برج الحمل اليوم 7 مايو    معادلا رونالدو.. رافينيا يحقق رقما قياسيا تاريخيا في دوري أبطال أوروبا    رحيل زيزو يتسبب في خسارة فادحة للزمالك أمام الأهلي وبيراميدز.. ما القصة؟    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    طريقة عمل الرز بلبن، ألذ وأرخص تحلية    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر: الشريعة الإسلامية لم تأتِ لتكليف الناس بما لا يطيقون    وزير الأوقاف: المسلمون والمسيحيون في مصر تجمعهم أواصر قوية على أساس من الوحدة الوطنية    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسامة الباز.. صانع الملوك الذى ركب المترو!
نشر في الصباح يوم 25 - 09 - 2013

قصة المفاوض العنيد فى كامب ديفيد الذى فاوض كارتر.. وترك السادات ليشاهد أفلام فريد الأطرش
دخل أسامة فلك السلطة من باب النائب العام.. واختاره السادات لكتابة خطاب الكنيست. قبل أن يصبح المستشار السياسى لمبارك
فى القاهرة عشق الفول والطعمية عند التابعى ونجف.. وفى بوسطن اختار حلقات البصل وكوب اللبن
امتلك سيارة غير مكيفة وثلاثة مكاتب أحدها فى الرئاسة تتكدس فيها الحقائب والصناديق المملوءة بالملفات
عشق الأقلام التى تكتب كالحرير.. وكان يحتفظ فى مكتبه بزجاجات كولونيا (555)
سكن فى المعادى ثم انتقل إلى القاهرة الجديدة.. وتزوج ثلاث نساء بينهن نبيلة عبيد
فى مصر، معادلة شبه مستحيلة اسمها: النفوذ مع الولع بالبساطة.
لكن أسامة الباز نجح فى حل المعادلة ببراعة ربما لاحقت ككابوس من جاءوا إلى السلطة بعده.
فقد احتفظ الباز بصورته اللامعة كمفاوض سياسى عتيد، ولاعب رئيسى ومستشار نافذ، مع تمسكه بصفة التواضع التى منحته مكانة فريدة فى قلوب كثيرين.
ولأنه كان «نقطة تلاق» بين مختلف التيارات والأنظمة المختلفة، فقد اجتمعت مصر والعرب فى سرادق عزائه. مئات السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين والوزراء الحاليين والسابقين، وآلاف المواطنين العاديين من مختلف الفئات الاجتماعية والشرائح الاقتصادية، كانوا هناك فى وداع مايسترو السياسة الخارجية المصرية ورجل الدولة بكل ما يعنيه هذا الوصف.
كنت تراه يمشى منفردًا دون حراسة، مستقلاً المواصلات العامة، ومن بينها مترو الأنفاق، أثناء تحركه من منزله فى المعادى – قبل أن يتركه ويذهب للإقامة فى القاهرة الجديدة- إلى مقر عمله بالقرب من ميدان التحرير. تجده فى المترو مسندًا ظهره على الباب الخلفى، دون أن يكترث به أحد، وهو ما يريده بالفعل. تلهو أصابعه بتذكرة مترو بيضاء، تشير إلى أنه يحمل اشتراكًا فى مترو الأنفاق. شخصية ودودة تحب أن تكون وسط الناس؛ لأنه واحدٌ منهم.
المترو كان اختيار رجل عملى، يعرف أن المترو يمكن أن يقطع هذه المسافة فى نحو عشر دقائق، فى حين تقطعها السيارة فى ساعة ونصف الساعة، وهو أمرٌ لا يطيقه، خاصة إذا كانت سيارته متواضعة وغير مكيفة، ويمكن أن تتمرد عليه من الحر.
درج الناس على رؤيته فى كل مكان دون أى حراسة، وكان يمكن أن تشاهد هذا الدبلوماسى رفيع الشأن والفقيه القانونى عابرًا ميدان التحرير ليشترى بنفسه شيئًا، أو قاطعًا الشوارع المحيطة به أو أمام مبنى جامعة الدول العربية، أو مارًا فوق كوبرى قصر النيل، وأحيانًا يقطع الطريق ليلتقط سيارة أجرة. وربما تندهش وأنت تراه واقفًا فى الطابور لقطع تذكرة سينما فى وسط البلد، أو وهو يتناول وجبة الفول والطعمية المفضلة لديه أمام محل التابعى الدمياطى أو محل نجف للسندوتشات.
وربما تجد صانع الملوك فى عهدىّ السادات ومبارك أمام كشك لبيع الصحف والمجلات وهو ينتقى بعضها للقراءة، أو تشاهده مصطحبًا طفلته مريم لشراء أدواتها المدرسية من مكتبة «فوليوم» بنفس الشارع الذى يسكن فيه. وببساطة أيضًا ستشاهد نفس الرجل، مساء، جالسًا فى هدوء شديد على مقهى أو فى جاليرى أو ندوة فكرية وثقافية يستمع أكثر مما يتكلم.
كان اسمه يكفيه، وأعماله تحميه.
رآه جيرانه أكثر من مرة يقوم بدفع سيارته لنهاية الشارع مع حارسه عندما تعطلت وفشل فى إصلاحها، وكان يجلس بشكل شبه يومى فى مقهى «سيلانترو» فى المعادى، ويتناول فيه القهوة وأحيانًا يأتى إليه بعض أصدقائه.
رغم عمله فى قلب المطبخ السياسى، وقربه من الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ودوائر صنع القرار فى نظامه، لم تظهر عليه أعراض مئات المسئولين الكبار والصغار الذين ساهم فى وصولهم إلى مناصبهم.. ومن هذه الأعراض الغطرسة والتعالى والكلام من طرف الأنف. اتسم على الدوام بترفع نادر عن المناصب ومواقع السلطة، مارسه بصفاء نفس ظل ملازمًا له حتى وافاه الأجل.
لم يكن الباز، الذى رحل فى 14 سبتمبر 2013، يدخل صالة كبار الزوار فى المطار، ولم يألف ركوب سيارة فخمة فى حياته اليومية، بل إنه لم يكن يحب أن يُطلَق عليه أو ينادى بالألقاب التى تطلق على نظرائه ويفضل مناداته بالدكتور أسامة فقط. حتى الذين عرفوه خلال دراساته العليا فى بوسطن يروون كيف أن العاملين فى المطعم الذى يرتاده بانتظام كانوا يعرفون ما يطلبه أسامة كل يوم؛ كوب من اللبن وحلقات من البصل. هكذا عاش أسامة فترة غير قصيرة ينفق على دراسته مقيمًا فى شقة صغيرة متواضعة يشاركه فيها شاب أمريكى يدرس هو الآخر فى جامعة هارفارد، مترفعًا عن أن يطلب لنفسه شيئًا ربما لا يكون له حق فيه.
ويحكى البعض عن دقته واهتمامه بالتفاصيل الصغيرة فى عمله، حتى أنه كان يحوِّل عادةً بخطه العربى والإنجليزى الجميل، الملاحظات والتحليلات والخطط والسيناريوهات المحتملة إلى رسم بيانى واضح المعالم. والحقيقة أن القلم والورقة كانا من أهم ما فى حياته، وكم كان يسعد كثيرًا إذا قدم إليه أحدٌ مجموعة من الأقلام تكتب كالحرير.
وأسامة الباز، المولود فى 1931، بقرية طوخ الأقلام، بمركز السنبلاوين، فى محافظة الدقهلية، هو «الألفة والنابغة فى العائلة»، كما قال لى ذات يوم شقيقه عالم الجيولوجيا الكبير د. فاروق الباز. درس أسامة فى مدرسة دمياط فى الأربعينيات، حيث تزامل مع السفير عبد الرؤوف الريدى فى الابتدائية والثانوية؛ ثم تخرج فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة، ونال الدكتوراه فى القانون من جامعة هارفارد الأمريكية فى 1961. فى الولايات المتحدة، أخذته الدراسة والسياسة تقريبًا طوال عقد الستينيات. ولأن السياسة لا تفارقه، فقد انتُخِبَ رئيسًا لجمعية الطلبة العرب فى أمريكا.
قبل ذلك، دخل أسامة فلك السلطة من باب النائب العام فى 1953، ثم صعد سلم العمل السياسى بتعيينه بوزارة الخارجية سكرتيرًا ثانيًا، عام 1958، ليصبح أصغر من حصل على درجة سفير فى العام 1975، حتى وصل إلى منصب وكيل أول وزارة الخارجية، وكان مديرًا لمكتب إسماعيل فهمى، الذى عُيِّن وزيرًا للخارجية فى نوفمبر 1973 واستقال احتجاجًا على زيارة السادات للقدس فى نوفمبر 1977.
سيرته المهنية تتضمن محطات مهمة تعطى نبذة عن دور الرجل ومكانته، فقد كان أحد مستشارى مركز الدراسات الإسرائيلية والفلسطينية بمؤسسة الأهرام ومديرًا لمكتب الأمين الأول للجنة المركزية للشئون الخارجية ثم مقررًا للجنة الشئون الخارجية المنبثقة من اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى ومديرًا للمعهد الدبلوماسى ومديرًا لمكتب نائب رئيس الجمهورية ثم مديرًا لمكتب رئيس الجمهورية للشئون السياسية، علاوة على منصبه كوكيل أول وزارة الخارجية.
كان أسامة الباز طوال عقود هو الذى يملأ الفراغ الموجود فى مؤسسة الخارجية والدبلوماسية المصرية.
اهتمام الرجل بالتثقيف السياسى والدبلوماسى للعاملين فى الخارجية كان جليًا؛ إذ استقدم لتلاميذه فى معهد الدراسات الدبلوماسية بوزارة الخارجية كوكبة من كبار الفقهاء والمفكرين وأساتذة الجامعات من أمثال جورج أبى صعب وتحسين بشير ود. عبد الوهاب المسيرى ويحيى العزبى، إلى جانب أسماء لامعة فى سماء الوطن من طراز د. لويس عوض وأحمد بهاء الدين وغيرهما.
حتى سنوات قليلة مضت كانت لأسامة الباز ثلاثة مكاتب؛ الأول فى الدور الأول من وزارة الخارجية، وكان يتردد عليه أحيانًا، والثانى فى رئاسة الجمهورية، وقد انقطع عنه منذ بواكير الألفية الثالثة، والثالث فى ميدان التحرير بالقرب من المعهد الدبلوماسى الذى شارك فى تأسيسه هو والسفير محمد التابعى.. بل إن مكتبه الثالث المفضل لديه كان قبل أكثر من ثلاثة عقود قاعة محاضرات المعهد الدبلوماسى قبل أن ينفرد بمبناه القريب منه.. وربما لا يعرف بعض الدبلوماسيين أن معهدهم بدأ فى مكان بعيد كان إسطبلات خيل من قبل.
بالنسبة لكثيرين، كان مكتب أسامة الباز يبدو قديمًا.. قطعة من التاريخ.. يضم صالونين، وجهاز تليفزيون وريسيفر للدش، ولوحات تشكيلية لصيادين يسعون للرزق، إضافة إلى صور شخصية له ولزوجته مذيعة التليفزيون أميمة تمام، وابنه الأكبر باسل، وصغيرته مريم. قد تستوقفك فى مكتبه صناديق كرتون يضع فيها أوراقه، وحقائب مختلفة لا حصر لها. ولا يفاجأ الذين يعرفونه عن قرب بوجود قمصان جاهزة للاستعمال، وكتب، وعلب فيتامين (سى)، ونظارات طبية، وزجاجات كولونيا أصبح من الصعب العثور عليها.. ماركة (555).
شغل د. أسامة الباز أهم المناصب فى الدولة، وكان فى واجهة السلطة، وربما هو أحد من القلائل الذين عملوا مع عبدالناصر والسادات ومبارك. كان دومًا العقل المفكر للسياسة الخارجية المصرية، لكنه لم يرغب أبدًا أن يكون وزيرها، فقط كان يقدم نفسه بصوته الرخيم أنه وكيل أول وزارة الخارجية المصرية. لم يكن راغبًا فى تقديم نفسه فى منصب يلتصق بكلمة الرئيس. كان يريد أن يعمل بحرية ويعيش كذلك أيضًا بعيدًا عن بريق السلطة والتزاماتها، وحسب تعبير د. محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية فى زمن كامب ديڤيد، فإن أسامة الباز هو سلطة فى الظل تعرف جيدًا كيف تهرب من الأضواء.
مشوار النجاح بدأ فى عهد جمال عبدالناصر.
ظهر الباز مرات مع عبدالناصر فى اجتماعات عدة تناقش شئون الأمن القومى. وفى عام 1971 كان مسئول العلاقات الخارجية فى منظمة الشباب التى كوّنها ناصر لتكوين جيل وصفه بأنه «على موعد مع القدر».
تقارب الباز مع الرئيس السادات، حتى أن الأخير اختاره ليكون ذراعه اليمنى فى عملية التفاوض التى بدأها بعد زيارته للقدس، وطلب منه كتابة الجزء القانونى من خطابه الشهير الذى ألقاه فى الكنيست الإسرائيلى. شارك عميد الدبلوماسية المصرية فى مفاوضات كامب ديفيد، وصياغة معاهدة السلام فى 1979، وتولى مسئولية الملف الفلسطينى- الإسرائيلى فترة طويلة.
ويصف د. بطرس غالى أعضاء الوفد المصرى فى كامب ديفيد بعبارة دالة وموجزة يقول فيها: «وكان محمد كامل متوترًا، وحسن التهامى حالمًا، بينما أسامة الباز يشع بالذكاء والطاقة».
كان الباز صقر المفاوضين المصريين فى كامب ديفيد؛ إذ أرهق المفاوضين الإسرائيليين بالتدقيق فى كل تفصيلة وفاصلة، كما بلغ الأمر حد أن كاد الباز يمسك بخناق د. بطرس غالى أثناء الجدل حول بعض مسائل الاتفاق. مع ذلك، فقد أرجع غالى الفضل فيما أحرزه المفاوض المصرى من نجاح إلى القدرات الفنية والقانونية لشخص واحد هو أسامة الباز.
كان الرئيس الأمريكى جيمى كارتر يعرف أن أكثر أعضاء الوفد المصرى تأثيرًا فى مفاوضات كامب ديفيد هو أسامة ويقابله فى الوفد الإسرائيلى المستشار القانونى أهارون باراك، وكان كارتر كثيرًا ما يتصل بشكل مباشر بكلا الرجلين ويطلب منهما أن يحضرا لمناقشته كل على حدة لمحاولة إيجاد حل لما يطرأ من مشكلات فى المفاوضات. وكان أسامة يذهب ويعود بعد أن يمر على الرئيس السادات فى كابينته ليبلغه بما حدث ثم يعود ويجلس على سريره، ويسجل ما جرى من مناقشات بينه وبين كارتر.
ويحكى البروفسور ويليام كوانت، المسئول عن الشرق الأوسط فى مجلس الأمن القومى الأمريكى، وأحد المشاركين فى اجتماعات كامب ديفيد، أن مشهد الرئيس كارتر وأسامة الباز حاملين القواميس وكتب القانون الدولى والاتفاقات والمعاهدات، كان مشهدًا معتادًا فى هذه الأوقات التاريخية. حمل الرجل أعباء اللحظة كلها من ناحية المعلومات والقانون الدولى والخبرة فى الصياغة، فى حين كان السادات كان يقضى معظم أمسياته فى كامب ديفيد، وهو يدخن غليونه ويشاهد أفلام فريد الأطرش، حسب أسامة الباز نفسه.
كتب الرئيس الأمريكى جيمى كارتر بعد ذلك، وبريزنسكى مستشاره للأمن القومى وسايروس فانس وزير الخارجية عن المفارقة ما بين الوفد الإسرائيلى والوفد المصرى، بين فريق إسرائيلى كامل، ورئيس وحيد مع خبير سياسى وقانونى واحد تم تنصيبه لحظة المواجهة بعد أن قرر وزير الخارجية الاستقالة. ثابر أسامة فى مهمته، حيث شارك فى صياغة جميع الوثائق الخاصة بالمفاوضات، وأرهق الإسرائيليين بملاحظاته ومراجعاته، لينال بعدها وسام الجمهورية من الطبقة الأولى.
كان أسامة هو رجل الأزمة بوجوده إلى جوار نائب الرئيس آنذاك حسنى مبارك؛ ومع الرحيل الدامى للسادات فى أكتوبر 1981، لعب الباز دورًا مهمًا فى هندسة وإيقاع الخطوات التى اتخذت حتى تمت تولية نائب الرئيس رئيسًا للبلاد فى إيقاع دستورى سليم.
وطوال الأعوام العشرة الأولى من حُكم مبارك (1982 1992) كان أسامة هو أكثر الناس تأثيرًا فى إدارة دفة البلاد وخاصة فى السياسة الخارجية، حتى أن كثيرين وصفوه بأنه كاتم أسرار منظومة مبارك الرئاسية لسنوات طويلة. استقرت مهمة كتابة الخطابات السياسية فى عهد مبارك عند مستشاره السياسى أسامة الباز.
لكن هذا الدور أخذ فى الأفول فى الأعوام العشرة الأخيرة من حُكم مبارك التى ظهر فيها مشروع التوريث، حتى تلاشى تأثيره تدريجيًا ودون ضجيج، وإن لم يصدر قرار رسمى بإلغاء أى من امتيازاته كوكيل أول بوزارة الخارجية.
اختار الباز طوعًا الابتعاد عن المسرح السياسى قبل نحو عقد من رحيل مبارك عن سُدة الحُكم، ولم يظهر بعد ذلك إلا نادرًا فى تصريحات مقتضبة. وربط محللون بين هذا الغياب وظهور الملامح الأولى لمشروع توريث الحكم، ما أكده فى حواره مع جريدة «المصرى اليوم» فى 2012، بقوله: «لم أكن وراء ملف التوريث، بل كان أحد الأسباب الرئيسية فى ابتعادى عن مؤسسة الرئاسة. ولا أنكر أننى كُلفت من قبل مبارك بتعليم نجله جمال السياسة، ولم أكن من الداعمين لتوليه رئاسة الجمهورية»، فيما عرف بملف التوريث آنذاك.
خرج الباز من السلطة حين تحوَّل من مستشار يصنع السياسات إلى مستشار لا يستشار. وروى الباز لمحمد سلماوى ذات مرة كيف سُحبت منه مسئولية كتابة الخطابات السياسية لمبارك بالتدريج، إلى أن وصل لمرحلة كان يكتب فيها الخطاب ليجد الرئيس يلقى خطابًا آخر كتبه ابنه.
من تناولوا أسامة الباز، لم يذكروا أن بدايات خروجه من دائرة مبارك تزامنت مع موقفه المسئول من السودان بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال مبارك فى أديس أبابا فى يونيو 1995. يومها دق صفوت الشريف طبول الحرب بعد تدهور العلاقات، لكن الباز قال إنه لا يمكن لمصر أن تنال من سودانى واحد والأزمة لا بدَّ من تناولها عبر القنوات السياسية والمنظمة الدولية لو اقتضى الأمر. وصرح مبارك لجهاد الخازن فى جريدة «الحياة» بأن هذا المسئول تكلم من تلقاء نفسه وستتم محاسبته. بعدها بدأ نجم أسامة الباز كمستشار سياسى لمبارك رحلة الأفول.
منذ أن اختفى الباز عن الساحة بدأ مسلسل انهيار النظام. ربما كانت مصادفة، لكننا لم نر منذ ابتعاده مسئولاً واحدًا له نصف القبول الذى كان يحظى به.
كان الفارق مذهلاً فى الكفاءة بين جيل يمثله أسامة الباز، وجيل يمثله جمال مبارك وأحمد عز، فكان السقوط المدوى لنظام مبارك على يد ثورة 25 يناير.
ورغم عمله مستشارًا سياسيًا للرئيس الأسبق، لأكثر من 20 عامًا، ورغم أنه كان يُعد خازن أسراره، فإن ذلك لم يمنعه من المشاركة فى ثورة 25 يناير، بميدان التحرير، ضد مبارك. أشاد الباز بشباب الثورة قائلاً: «الأولاد اللى عملوها جدعان، وأنا شايف إنها هتنجح رغم كل العقبات التى ستواجهها».
كان بإمكان مبارك تجنب هذه النهاية المدوية لو أنه استمع إلى نصيحة مستشاره السياسى السابق د. أسامة الباز، الذى قال إن مبارك «كان بإمكانه أن يتجنب ما حدث لو استمع لنصيحتى فى بداية سنة 2002، عندما طالبته بعدم خوض انتخابات الرئاسة 2005 وأن يبدأ بنقل السلطة بشكل تدريجى، وألا يعيد ترشيح نفسه مرة أخرى وأن يعطى الفرصة لجيل آخر يكون تحت إشرافنا حتى نتأكد من أنه يسير فى المسار الصحيح، لكنه للأسف استمع لأشخاص كثيرين لهم مصالح فى بقائه فى السلطة، هؤلاء الأشخاص للأسف لم ينقلوا له الأوضاع على حقيقتها وكانوا يزيفون الحقائق، وهو ما تسبب فيما آلت إليه الأمور».
الباز قال عن مبارك إنه ترك الملفات الداخلية فى أيدى الأجهزة الأمنية، على الرغم من كونها ملفات سياسية، كما ترك الملفات الخارجية دون اهتمام، بشكل تسبب فى تقزيم مصر وضياع دورها الريادى. وانتقد أسامة الباز أسلوب مبارك وعدم استماعه إلى آراء ونصائح مستشاريه، مؤكدًا أنه كان لا يسمع إلا صوت نفسه، ولا يقبل بالرأى الذى يخالف هواه، لكنه لم ينس أن يؤكد أن مبارك تغير فى منتصف فترة حكمه، وتحول من رئيس يتمتع بالكياسة والعدالة والقدرة على الإنصات إلى رئيس لا يسمع ولا يرى إلا نفسه، يتحكم فيه ابنه ويقدم التنازلات للجميع من أجل ضمان توريثه كرسى الرئاسة.
أسامة الباز واحد من الشخصيات التى دار حولها انقسام فى الشارع المصرى، فهو فى نظر البعض الرجل الذى ساهم فى إعطاء الدولة المصرية فرصة إلى المستقبل متجاوزًا فى ذلك كثيرًا من أقرانه ومعاونيه ونخبة مصرية كاملة.
غير أن فريقًا آخر رأى أنه كان مثل المحامى الضليع الذى يدافع عن موكله سواء كان مخطئًا أو مصيبًا، ومن ذلك تبريره استمرار بقاء مبارك فى سدة الحكم فى حديث تليفزيونى عام 2007، بالقول إن «الرئيس يريد أن يقول إنه لن يتخلى عن واجبه، فهو مقاتل ولا ينظر إلى الأمر على أنه شو».
وربما لازم التناقض أسامة الباز فى عدد من تصريحاته عن السياسة الداخلية، خاصة لدى تناوله مسائل كتعديل الدستور وتخلى مبارك عن السلطة. بل إن الباز ذهب فى أوائل مارس 2005 إلى أن قانون الطوارئ لا يمثل قيدًا على ممارسة المواطن العادى لحقوقه السياسية. ويقول منتقدوه إنه أحد مُنظرى حالة «اللا قمع.. واللا حرية» التى عاشتها مصر فى عهد مبارك، وإنه مع بقائه قريبًا من السلطة فإنه لم يعمل على تغيير الأوضاع السياسية بشكل جدى، ما يشير – حسب تقديرهم- إلى اقتناعه بأن أى إصلاح يجب خروجه من كنف وآليات ووسائل النظام نفسه.
ويأخذ عليه هؤلاء أن اجتهاداته فى بعض قضايا الإصلاح فضفاضة وحمّآلة أوجه يمكن تفسيرها بطرق متباينة، وفى هذه الحدود يمكن القول أنه مع الإصلاح وضد التغيير. أما فى نظر أوساط أخرى فإنه يعتبر من المطالبين بالإصلاح والتغيير فى الوقت نفسه. ومع أنه من الذين رفضوا فكرة تعديل الدستور أو بعض مواده ورأى تأجيلها، فقد وصف تعديل المادة (76) من دستور 1971 بأنها الأبرز والأهم فى مسيرة الإصلاح السياسى.
ومن الجائز القول إن إخلاصه للرئيس مبارك أوقعه فى بعض المطبات، ففى الخامس من نوفمبر 2002 قال إن الرئيس مبارك «لن يرشح نفسه فى انتخابات الرئاسة القادمة». وأكد الباز ترحيبه بتوسيع المشاركة السياسية وعدم حصرها فى عدد محدود، وأشار إلى أن الرئيس لا يفكر فى توريث الحكم لابنه. وفى اليوم التالى (6 نوفمبر 2002) قال بعبارة التوائية «إن الرئيس مبارك لا ينوى تمديد حكمه مدى الحياة»، وأوضح أنه من المبكر جدًا قول ما إن كان سيخوض الانتخابات، ونفى قيام الرئيس بتهيئة جمال لتسلم السلطة، قائلاً إن جمال بالذات لا يعد نفسه لتسلم السلطة أو أى شىء من هذا القبيل.
غير أن هناك روايات رائجة لم ينكرها الباز، تقول إنه أحد أساتذة جمال مبارك، وفى مقدمة الذين حاولوا تهيئة جمال مبارك وتربيته سياسيًا وتعريفه بدهاليز الحكم، تمهيدًا لتوليه السلطة بعد والده.
كان أسامة الباز هو عقل الدبلوماسية المصرية والرقم الصعب فى جميع معادلات السياسة المصرية لما يقرب من 35 عامًا (1970- 2005)، فحتى بعد أن غادر مناصبه الرسمية كان دائمًا هناك لحظة اتخاذ القرارات، المشكلة أن الرجل ظل صامتًا طوال عمره، ولم يفتح يومًا خزانة الأسرار التى يمتلكها، وهى مليئة بالكثير، خاصة فى ملف العلاقات المصرية - الفلسطينية – الإسرائيلية.
سأله الكاتب الصحفى عادل حمودة يومًا: لقد عاصرت ثلاثة رؤساء فى مصر واقتربت من خبايا قضايا مصيرية فى السياسة الداخلية والخارجية.. هل حان الوقت كى تكتب مذكراتك؟.
رد الباز بالقول: «لن أكتب مذكراتى.. فمن يكتب مذكراته يظهر نفسه فى صورة البطل دائمًا.. ويجد لنفسه الأعذار لو تعرض للفشل فى مواقف معينة.. ولم يحدث فى يوم من الأيام أن سجلت يومياتى خوفًا من أن تقع فى يد أحد فتفقد سريتها.. أو يساء استعمالها.. كما أن كثيرًا من الممارسات التى عشتها فقدت صلاحيتها.. ما كان يصلح من ربع قرن لم يعد يصلح الآن.. لكننى أفكر فى كتابة خبراتى فى كتيبات تساعد الناس على العمل فى مجالات معينة، خاصة مجال الدبلوماسية.. مثل كيفية المفاوضات، وكيفية تأهيل الدبلوماسيين للنجاح فى عملهم، وكيفية قيام الدبلوماسيين بالاتصالات فى الدول التى يعملون فيها، والتحركات الجماعية الإقليمية من أجل قضية معينة، والاستفادة منها. ولن تكون هذه الخبرات مجرد كتابات نظرية، لكنها ستدعم بأمثلة مأخوذة من المواقف العملية. إننى سأكتب خبراتى لا مذكراتى. إننى عندما دخلت الخارجية لم أجد من المفاوضين المصريين البارزين سوى الدكتور محمود فوزى، بعد ذلك زاد العدد لكن بنسبة ضعيفة.. مثل إسماعيل فهمي.. وكمال حسن علي.. وبطرس غالى.. ونبيل العربى، ولا يزال العدد فى مجال التفاوض ضعيفًا، لذلك سأنشر ما أعرفه عنه على الناس جميعًا لتتجاوز الاستفادة حدود الدبلوماسيين».
ألّف الباز كتاب «مصر والقرن الحادى والعشرون»، وأصيب فى أيامه الأخيرة بمرض الزهايمر، ما جعله يبتعد عن الحياة السياسية. كان داهية السياسة الأمريكية هنرى كيسنجر يصغى للباز إذا تكلم، ومع ذلك سقط أسامة الباز فى كمين سارق نور العقول، مرض العصر الزهايمر.
على المستوى الشخصى، تزوج أسامة الباز أكثر من مرة، منها زواجه من السفيرة مها فهمى، أم ابنه باسل، وكذلك تزوج من المذيعة أميمة تمام. وبعد ثورة 25 يناير، أعلنت الممثلة نبيلة عبيد أنها كانت متزوجة بأسامة الباز لمدة 9 سنوات إلى أن وقع الطلاق، وأن الزواج كان سريًا.
رحل د. أسامة، لكن إرثه السياسى ونموذجه الإنسانى سيظلان فى الذاكرة الجمعية المصرية لفترة طويلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.