يوم توديع صديق العمر أسامة الباز، كنت أسير جوار الصديق د. فاروق الباز وكانت الصور والذكريات تنساب فى ذهنى، صورة هذا الإنسان الفريد الذى كان ينأى عن الأضواء، ولكنه كان الرجل ذا التأثير الأكبر فى صنع الأحداث لسنوات طويلة، وطوال عشرين عاما على الأقل ما بين أواخر حقبة السادات ومنتصف حقبة مبارك كان هو صانع الملوك The King Maker، كان له دوره فى أغلب التعيينات التى جرت بما فى ذلك رؤساء وزارات ووزراء بمن فيهم وزراء خارجية وسفراء. ●●● جمعنى مع هذا الرجل الفريد صداقة عمر تخطت أواصر الزمالة فى هذه المؤسسة العتيدة، مؤسسة الخارجية، فلقد كنا زملاء دراسة فى الابتدائية والثانوية فى مدرسة دمياط فى الأربعينيات وعندما اجتمعنا على مكتبين متجاورين فى الخارجية فى أول الستينيات، وكنت عائدا لتوى من أمريكا حيث عملت فى بعثتنا فى الأممالمتحدة بنيويورك حدثته عن هذه البلاد وألححت عليه أن يأخذ هذه المنحة التى جاءت إليه ليدرس القانون فى جامعة هارفارد، والتى كان مترددا فى أخذها، وذهب إلى أمريكا وأخذته الدراسة والسياسة تقريبا طوال عقد الستينيات ولأن السياسة لا تفارقه انتخب رئيسا لجمعية الطلبة العرب فى أمريكا، وعندما عاد ما لبث أن لمع نجمه عندما التحق بمكتب وزير الخارجية آنذاك إسماعيل فهمى، الذى عين وزيرا للخارجية فى نوفمبر 73 واستقال احتجاجا على زيارة السادات للقدس فى نوفمبر 1977. كان أسامة هو الذى ملأ الفراغ الذى نشأ آنذاك فى مؤسسة الخارجية، ثم اختاره الرئيس السادات ليكون ذراعه اليمنى فى عملية التفاوض التى بدأها بعد زيارته للقدس، وكان أسامة أحد الذين كتبوا خطابه المهم فى الكنيست وأخذ نجم أسامة يصعد ولكنه ظل دائما ينأى عن الأضواء، رغم تأثيره الكبير فيما يجرى. وعندما اغتيل السادات فى أكتوبر 1981 وظهر فراغ فى السلطة وكانت البلاد فى حالة اضطراب وقلق بسبب اعتقال الرئيس السادات لهذه الأعداد الكبيرة من الساسة والنخبة وظهور حركات ارهابية فى الصعيد تضرب فى المؤسسات الأمنية بقصد الاستيلاء على الحكم، وكان هناك فراغ فى السلطة، كان أسامة هو رجل الأزمة بوجوده إلى جوار نائب الرئيس آنذاك محمد حسنى مبارك ولعب دورا مهما فى هندسة وإيقاع الخطوات التى اتخذت حتى تمت تولية نائب الرئيس رئيسا للبلاد فى ايقاع دستورى سليم. وطوال العشرة أعوام الأولى من حكم مبارك (1982 1992) كان أسامة هو أكثر الناس تأثيرا فى إدارة دفة البلاد وخاصة فى السياسة الخارجية، ولكن هذا الدور أخذ فى الأفول فى الأعوام العشرة الأخيرة من حكم مبارك التى ظهر فيها مشروع التوريث، حتى تلاشى تأثيره تدريجيا ودون ضجيج وإن لم يصدر قرار رسمى بإلغاء أى من امتيازاته كوكيل أول بوزارة الخارجية. ●●● من بين الصور التى توالت على ذهنى ونحن نشيع أسامة إلى مثواه الأخير كانت صورته ونحن فى كامب ديفيد، كنا فى مجموعة العمل التى صاحبت محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية، أسامة ونبيل العربى وأحمد ماهر وكاتب هذه السطور، وكان أصغر المجموعة هو أحمد أبوالغيط، إلا أن أسامة كان هو الذى يعمل بشكل مباشر مع الرئيس السادات. وفى الكوخ أو الكابينة التى كانت تضمنا كنت وأسامة نقيم فى غرفة واحدة، بينما يقيم فى الغرفة الأخرى د. نبيل العربى وأحمد ماهر (وزير الخارجية فيما بعد)، وكان الرئيس كارتر هو الذى يدير بشكل فعلى عملية التفاوض، وكان يعرف أن أكثر أعضاء الوفد المصرى تأثيرا هو أسامة ويقابله فى الوفد الإسرائيلى المستشار القانونى أهارون باراك، كان كارتر كثيرا ما يتصل بشكل مباشر بكلا الرجلين ويطلب منهما أن يحضرا لمناقشته كل على حدة لمحاولة إيجاد حل لما يطرأ من مشكلات فى المفاوضات وكان أسامة يذهب ويعود بعد أن يمر على الرئيس السادات فى كابينته ليبلغه بما حدث ثم يعود ويجلس على سريره، ويسجل ما جرى من مناقشات بينه وبين الرئيس كارتر. لا أعرف أين ذهبت هذه المذكرات أو الوثائق إذ لا يوجد نظام أو تنظيم للوثائق التاريخية، وها نحن قد رأينا كيف ذهبت آلاف الوثائق واحترقت مع ما احترق فى بيت الكاتب الكبير الأستاذ هيكل فى بيته فى برقاش وكنت واثقا من أن أسامة لن يجلس يوما ليكتب مذكرات يدفع بها للنشر. بعد أن عدنا من كامب ديفيد والخارجية تستعد للتفاوض لعقد معاهدة السلام، كنا جميعا نعيش فترة قلقة وكنت آنذاك قد نقلت سفيرا فى باكستان وكانت تصلنى منه خطابات كل أسبوعين أو ثلاثة، وكان يصارحنى فيها بما يختلج فى نفسه من مخاوف وقلق خاصة عندما رأى أن الرئيس كارتر بسبب أزمة الرهائن وانعكاساتها الداخلية أصبح ضعيفا ولم يعد قادرا على أخذ مواقف قوية إزاء تعنت الإسرائيليين وخاصة بيجين فى المفاوضات وقد استمرت هذا الفترة حتى رحيل كارتر فى يناير 1981 ثم اغتيال السادات فى أكتوبر من نفس العام. طوال هذه السنين التى كان أسامة فيها لاعبا رئيسيا ومستشارا نافذا ظل دائما هو ذلك الرجل البسيط المولع بالبساطة فى كل شىء، كنت أزوره فى مكتبه عندما أحضر للقاهرة من الخارج فى مهمة أو أجازة فكان يقترح على أن نمشى فى الشارع ونذهب إلى محل التابعى الدمياطى لتناول وجبة الفول والطعمية المفضلة أو نتوقف أمام محل نجف للسندوتشات.. وهكذا، وظل يركب المترو من المعادى إلى القاهرة حتى ترك المعادى وذهب للإقامة فى القاهرة الجديدة، لم يبهره المنصب أبدا ولم يهتم أبدا بما يأتى مع المنصب من مظاهر. وفى يوم من أيام الربيع فى عام 2009 اقترحت عليه أن نذهب إلى دمياط ورأس البر فرحب بذلك وذهبنا إلى حيث التقى بأهل دمياط فى جمع كبير أقامه له محافظ دمياط آنذاك الدكتور محمد فتحى البرادعى، ثم ذهبنا إلى مدرستنا القديمة وكم كان سعيدا وهو بين الطلبة الذين أقبلوا عليه والتفوا حوله. ●●● أحتاج إلى صفحات وصفحات لأن أكتب عن هذه الشخصية الفريدة المتجردة، لم يكن هناك من دافع يحرك أسامة إلا حبه لبلده وشعبه. رحم الله أسامة وعاشت ذكراه وسيرته فى القلوب والأفئدة والعقول. جيل يذهب وجيل يجىء، حمى الله مصر وهيأ لها دائما أبناء يذودون عنها ويفتدونها بالنفس والنفيس.