فى سُباتِ أمتنا الذى طال، ينزوى (أيوب المصري) فى ركُنِه الحميم، مُفَتِشًا عن كسرات (فايش) هاربةً من جِراب الخَزين، يَقْضمهُ بأسنانٍ تقاوم شيخوخة البدن، لتبدأ فور انتهاء جولة القضم جولات مضغ متتالية تسمح مع متابعتها بأن ترتاح الرأس على حائط الذكرى التى تنفع المؤمنين بوطن. يلف رأس (أيوب) طوق عمامته المنسوجة من قطن مصرى طويل التيلة والأمل، وتحته طوق حنِين جارف لمصر التى كانت، رسمًا على معابدها العتيقة، وتابلوهات تُجسد الرقى عبادة وإبداعًا، ومنحوتات خلدت مجد إنسانٍ يستوجب التدبر وقت الحضارة وحال الانحدار، إنها حضارة النموذج التى خلدها الفن وأمر البديع كل البشر بالتدبر فى مشهدها {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وبينما يُحقق (أيوب) انتصارًا صغيرًا بإخضاع قطع الفايش لهرس أسنانه، يبتسم يقينًا بإيمانه ويترجم لسانه الحال قولًا (الله جميل يحب الجمال ويأمر بالتأمُل فى مشهد الجمال فمن المُستفيد من أن تتحول العلامات الإسترشادية على درب الإيمان حياة إلى أصنامٍ يجب هدمها وصروح كفر يفرض الدين حربها؟). يتطَلَّعُ (أيوب) إلى كسرة (الفايش) بين أصابعه يبْتسم وهو يسألها (هل توافقين على أن الفايش أحد ميراث أجدادنا المصريين القدماء؟)، يقول ذلك وهو يُقلبها بين أصابعه محاولًا البحث عن ثغرة تمكنه من اقتطاع أكبر حصة منها وحين يجدها يوجهها نحو فمه الذى يُتمتم (بالتأكيد كان الانتصار على الفايش هو أول انتصار حققه المصرى القديم وهو يرفع أول أحجار لبناء الأهرامات)! فى جولات الصراع مع قضم قطعة (الفايش) الجديدة، كانت حلقات التاريخ المصرى تتابع مشاهدها على وعى (أيوب)، يُسْلِمه كل مشهد إلى تالٍ بصوت الراوى المصرى على ربابته يُنشد لابن عروس إيمانًا مصريًا خالصاً (أنا باوَحِّد اللى خلق الناس، خلق مسلمين ونصاري، وناس نامت على فَرش وِكْناس، وناس ع المعايش حياري)، كلُ مشاهد النهضة المصرية فى خلفيتها إبداعٌ مصرى أصيل يغذى وعى العموم بمِداد المحبة إيمان، ويُناجى أمل العامة وقت الأزمات (ولابد من يوم معلوم، ترتد فيه المظالم، أبيض على كل مظلوم، وأسود على كل ظالم)، ويحضُ على أصل النهضة والتحرر عمًلا مُنتِجًا واعيًا، ويُثرى الأمل مهما طغى المتربصون (سكت الهَوى والناموس طار، والسبع طأطأ بعينه، خليه دا النومِ أستار، لما الندل ياخد يومينه)، هكذا إذن يتصدر صوت الفن المصرى مشهد الذكرى فى حال أيوب المصرى وكل أيوب. إن أزمة (الفايش) كلما تعتق عمره، تتجاوز قدرة الأسنان على مصارعته، غير أن لأيوب المصرى أسنانًا اعتادت على مصارعة الخطوب عبر عمرها، يُمثل له الفايش تدريبًا على مقاومة أسباب الفناء والإفناء فى مواجهة كل تهديد للبقاء وللهوية حين يغدو استهدافهما على المحك ومن كل اتجاه وصولاً إلى فرض ثقافات غذائية منبتة عن ذائقتنا، ولا يجد (أيوب المصري) سبيلًا لأنس جولات صراعه مع الفايش إلا صوت الوطن الفنان، ورغم تتابع الأزمات على واقعه وقسوة الفايش المتصاعدة يظل أقسى ما يفت فى عزيمته هو تجريده من أنيس الصمود على جبهة الحياة، بعدما استحال الفن المصرى مستهدفًا بفعل اجتياح ثقافات أسياد العالم الجُدد، ومنافسة ذوى قربى يرون فى بقاء الفن المصرى عائقًا لإثبات حضورهم فى مشهد الفنون، واستخدام الإدارات المتعاقبة للإبداع باعتباره أداة إلهاء أوإخضاع، واستثمار تجار الحروب والأزمات لفنون التغيب والتسطيح والتخدير. تستعصى قضمات الفايش على أسنان (أيوب) بينما تتصاعد فى خلفيتها أصواتٌ مختلطة لتلاواتٍ قرآنية غير مستساغة الأصوات أو منضبطة الأحكام والمقامات، ولضجيج مهرجانات ترسخ للقبح ولخارج البيان والعبارات، ولدعايا وإعلانات ممجوجة الأداء وممتهنة الإشارات، ولإفيهات دراما قاسية السيناريو وسوقية الحوار، ولنجوم مراحل الأفول يتصدرون مشهد الأوجاع. يُلقى (أيوب المصري) بقطعة الفايش العصية من يده، ويقوم من ركنه المنزوى فى سبات أمتنا الذى طال، يقرر أن يستعين على لقم العيش العصية بما استعان به الأجداد، حين كانت مسدودة كل آفاق الحلم بوطن حيث المحتل يجثم على صدر مصر والحاكم الأجنبى متمكن من كرسى الحكم، وقتها كان الفايش أشد قسوة، وكان الجدب يأكل كل حقول الأمل، وكان سبات الأمة مفروضا عليها، لكنها على صوت شيخها الفنان سيد درويش قامت تُنشد (شد الحزام على وسطك غيره مايفيدك، لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك، إن كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك، أهون عليك ياحر من مدت إيدك)، إنه الفن حين لا تخضعه حسابات مُبدعيه أو تأسره مزاداتُ مُدَعيه، أو تُوَجِهُهُ أمانى مستثمريه، الفن المصرى القادر إن آمنَّا بأن صبح أمتنا شمسه وطنٌ فنان. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى