على باب الضمير الحق يفترش (أيوب المصري) أوجاعه ويجلس، محتضناً بقايا إنسانيته القديمة، ويرفع إلى أطلال الأسنان فى فمه قطعة من (فايش) الوطن الصلب، يقضمها، بينما ينبعث من مذياعه القديم صوت فيروز يشدو (لأجلك يا مدينة الصلاه أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن .. يا قدس، يا مدينة الصلاه أصلي)، يخشع (أيوب المصري) فى جلسته. وفى المسافات البينة لتقاطعات تعاطى أنظمة الحكم المتعاقبة مع مكونات المجتمع الدولى بآليات ضغطه المتعددة على هذه النظم، يجلس (أيوب المصري) المواطن القديم الذى وَرِّثْ خصوصيته وحقوقه البديهية، وطناً حراً، ونيلاً سارياً، وجواراً عربياً، مصرُ لهُ قلباً، ورغم معاندة (الفايش) فإن (أيوب) يتمسك بالصراع معه كآخر أمل فى البقاء، بينما ترامب الرئيس الأمريكى يقف على منصة بيته الأبيض، ليعلن أنه يعترف رسمياً بالقدس عاصمة للكيان الصهيونى الغاصب! تتابع كلمات ترامب، بينما تتناثر أحرفه على لوحة الإنسانية مُشَكِلَة مشهداً لتلال من جماجم السكان الأصليين للقارة الأمريكية، أولئك الذين اصطلح الغاصب على تسميتهم (الهنود الحمر)، ترتفع تلال الجماجم لتكون الضمير الأمريكى الحاكم للعالم، تزداد الجماجم فترتقى منصة البيت الأبيض براعى البقر الغشوم يُصَرِّح (القدس الآن أيضا هى قلب أحد أنجح الديمقراطيات فى العالم، وهذا ليس أقل أو أكثر من اعتراف بالواقع، بل هو أيضا الشيء الصحيح الذى يجب القيام به)، وهكذا تعترف شريعة المغتصب القديم بشرعية المغتصب الجديد واقعاً كدولة، ونموذجاً كديمقراطية، وإنكارُ ذلك منافٍ لما يجب على الأنظمة القيام به، ويسعل (أيوب المصري) ويعلو صوت يشبه الشخير من خيشومه وهو يصارع قطعة (فايش) وصلت لباب قصبته الهوائية بينما صوت الأغنية يتابع (سقط العدل على المداخل حين هوت مدينة القدس تراجع الحب وفى قلوب الدنيا استوطنت الحرب). باب الضمير الذى هو الحق يتسع رواده، كلهم (أيوب) فيما يختلف اللقب بحسب الانتماء إلى أحد أوطان أمتنا العربية، مائة عام فاصلة بين اعتراف (ترامب) وبين وعد اللورد (آرثر جيمس بولفور) وزير خارجية بريطانيا، الدولة التى كانت تحتل مصر وقتها، والذى تعهد فيه بوطن للصهاينة اليهود على أرض فلسطين، كان ذلك فى 2 نوفمبر 1917م، مائة عام فاصلة سرق خلالها النظام العالمى دولة قديمة وأنشأ دولة احتلال ومنحها الشرعية وخرج ترامب يوم 6 ديسمبر 2017 ليؤكد أنه الأمين على إعلان دفن الحق الفلسطينى والعربى وتعميد الكيان الغاصب كدولة عاصمتها القدس. (عيوننا إليك ترحل كل يوم)، يسافر (أيوب المصري) بعينيه إلى خريطة الوطن العربى القديم، قبل مائة عام، لم يكن متخيلاً أن تتحول طقوس الصلاة انتصاراً للوطن إلى مجرد نية لسد بعض جوع، بقضمات (فايش) متحجر تستهدف الحياة، ويطرح واقع الهزيمة سؤاله على ضمائرنا (ما الذى جرأ الغاصب الجديد على سلب أرضنا بينما نحن أحياء لا قتلى؟). وحين تسافر عيون (أيوب المصري) إلى عمق التاريخ القريب وتحديداً حين قرر (بلفور) وزير خارجية سيدة العالم وقتها (بريطانيا) أن يزور فلسطين مروراً بمصر بعدما أصدر وعده بإقامة وطن للصهاينة فيها، كان الاحتلال الانجليزى وقتها يجثم على صدر (أيوب المصري)، وكان الهدف المعلن هو (افتتاح الجامعة العبرية) بينما الهدف الأصيل هو دعم الغاصب فى جرمه، وترصد الحدث (الأهرام) عبر صفحاتها بحسب توثيق المؤرخ (يونان لبيب رزق)، حيث كانت الرحلة من مصر إلى فلسطين إلى سوريا تسير بين مباركة المحتل و إدارته وعصابات الصهاينة، بينما الشوارع فى الأقطار العربية الثلاثة تموج برفض عارم، وصل إلى حد استخدام طائرات للتحليق فوق (دمشق) على ارتفاع 150 مترا لتشتيت انتباه الشعب حتى يخرج بلفور مغادراً سوريا، ويعلق (الأهرام) على الزيارة (أججت غضب المشرقيين فى كل مكان وطأته قدم صاحب الوعد الآثم. وهو الأمر الذى ترك، بلا شك، أثراً فى ذهن اللورد بلفور). وبحسب مجريات الأحداث بعد هذه الزيارة فإن الشعوب العربية تحولت إلى هدف أصيل فى مشروع تمكين الغاصب الصهيوني، الذى كان عليه أن يواجه تمسكها بالحقوق أوطاناً وتراثاً وهوية، وأن يحول سهام استهدافه إلى كل نقاط القوة الذاتية فى المواطن، ليتم تفريغه تدريجياً من كل قيمة، وإغواؤه بفتن الدين ليبدأ الفرز تمهيداً للتفتيت ثم الاقتتال، وليتحول (الربيع العربي) إلى شتاء دامٍ تضرب عواصفه أركان الأوطان تفريقاً ولُحمَةَ الشعوب شتاتاً وتناحراً واقتتالاً ومقدرات الأمة سلباً ونهباً، وهكذا يسلبنا النظام العالمى أوطاننا بينما نتابع كشعوب ونحن بالكاد نملك القوة على مصارعة قطع (الفايش) لنحيا أملاً فى ألا يتبدد من أفق ضمائرنا صوت فيروز (الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان) .. يارب. لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى