من قلب إرثنا الإسلامى ينطلق صوت الوعيِّ موصياً كل مهتمٍ بقضية الإعمار، فيقول بلسانٍ عربيٍ مبين، (إن لربكم فى أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها بغية أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها ابداً)، ومحاولة لأن يكون الإعمار هدف الأسطر، يتجاوز المستهدَفْ بالكتابة خانة الاجتهاد الديني، إلى رحابة التَدَبُّر فى مشهد الحياة، كَوّنْ (الإِعمار) هو غاية (الاستخلاف) للإنسان على الأرض. فالنفحة فى أيامنا هذه، آية من آيات الله فى خلقه، اصطلح على تسميتها بالربيع، فصلاً من فصول الحياة، يمر على أوصال أعياها البرد فتدفأ، ويطبطب بكفيه على صفحات البساتين الخجلى بفعل أعاصير الشتاء و نواته، فتورق الأشجار ويبتسم ثغر الأزهار. ويمر الربيع على أعتاب أعمارنا، فيحيلها إلى واقع تحول جديد، حيث تودع شتاء أضاف إلى رصيد الأعمار فصلاً، وخلف برداً فى الأرواح والأجساد، حتى باتت الحاجة ماسة إلى شمس ربيع تهل، لتحمل الأرواح على الحلم فى غد قادم محمول على سواعد الأمل وقطرات العرق. ويمر الربيع على خريطة أوطاننا فيذكرنا بحلم ربيع عربى أراد له المتربصون أن تصبح خريفاً يضرب أركان الأوطان، فنتساقط أوراقها وحدودها، ليتحول الربيع فى الوعى الجمعى العربى إلى كابوس، ويغدو مجرد الحلم به ذنب يستوجب الاستغفار. الربيع آية من آيات الخلق، الموجبة للتدبر فى معنى التحول من مناخ إلى مناخ، ومن حال إلى أحوال، والربط بين ذلك وبين قضايا إعمار الأوطان والبناء، وهو التدبر الذى يوصل إلى علاقة بين الفصول بما تحمل من دلالات وبين الأعمار وما تحتاج إليه على درب الحياة من إشارات، وبين الإعمار وما يعوزه من نظرات متدبرات تًعين على إدراك طبيعة المسير وحتمية التصويب حال الاعوجاجات والعثرات. الربيع دواء لأوجاع ليال باردة طالت، وبلسم لعزائم أمام قرص البرد ما لانت ولاهانت، تراجع فيه الطبيعة كل علل ما كان فى فصل المطر، وتعين كل بادرة أبت الانحناء تحت وقع قطر السحاب، ويتوضأ بضى شمس الربيع كل عصفور قاوم الريح مهما عصفت، ليؤذن فور أن ينتهى وضوءه لصلاة محبة ومناجاة وصال. الربيع حالة تهيؤ للانطلاق نحو تمام الإشراق، واستعداد لإعادة بناء ما جرفته سيول الشتاء، واستنفار لطاقات الميلاد لتبعث رسلها فى أرحام الأفكار منتجة ألوانا متنوعة من الأزهار التى تمنح رحيق الحياة لكل ساعٍ لها، طالما قرر أن يُعمل عقله فى لوحة الكون التى زينتها يد القدرة والمقدرة. والربيع بميلاده إعلان صريح بالمساواة بين الليل والنهار، أو بين الأسود والأبيض، وربما بين السعى عملاً بالنهار، والسكون مع الغروب تدبراً ومودة وإبداعاً وراحة، إنها الطبيعة حين تقرر أن تفرض المساواة راية يتبادل حملها الشمس والقمر، والعدالة قسمة بين سائر مكونات الحياة. ويتجاوز الربيع فى رسائله حدود الإنسانية ليخص مصر وأهلها برسالة (الذكري) التى لا يسأم من تكرارها ما بقيت الحياة، عسى أن تنفع الذكرى المؤمنين بمصريتهم، فالربيع كل عام يؤكد أن علاقته بمصر وأهلها علاقة الحياة بعُمَّارِها، فقبل قرابة خمسة آلاف عام كان على أرض مصر أهلها وحضارتهم، وكان أسلافنا من أواخر الأسرة الثالثة يسمون قدوم الربيع (عيد شموش)، قاصدين بذلك عيد بعث الحياة، ويحتفلون به دينيا وفنياً واجتماعياً، وترك المصرى القديم لتابعيه حتى يومنا هذا دليل قدرته الأصيلة وحضارته القابعه فى وعيه، ويتجسد ذلك فى ظاهرة سقوط أشعة الشمس عند غروبها على الواجهة الجنوبية للهرم لتكشف أشعتها الخافتة الخط الفاصل بين مثلثى الهرم ليبدو للناظرين وكأنه قد انشطر، وهى الظاهرة التى وثقها كل من البريطانى (بروكتور) والفرنسى (أندريه بوشان). وينبعث صوت شاب عمره كما قال (ولا ألف عام)، يحمل اسم (صلاح جاهين) يقول (الدنيا ربيع والجو بديع قفل لى على كل المواضيع)، وأستميحه عذراً فدنيانا التى أعلنت ربيعها، وجوها الذى يؤكد أنه بديع، يغرى بأن نفتح سائر المواضيع، مكاشفة للعوار، واستهدافاً للتقويم والبناء، فرسائل الربيع هذا العام، تبدو نقاطاً حرجة فى خطة المسير صوب الوطن المنشود، ذلك الوطن الذى يستلزم استجلاب ربيعه أن يكون لنا فى ربيع المناخ الأسوة الحسنة، لنتخذ من رسائله الفصلية إشارات سير نحو الغد المنشود. إن واقعنا يؤكد أن شتاءً قارساً يستبد بوعى أمتنا، وأن تقلبات مناخية حادة تسود فى العقل العربى عامة والمصرى على وجه التحديد، وحال استهدافنا لربيع وطنى خالص علينا أن نواجه ذواتنا بما كان فى الشتاء، لنقوم ما انقلب من أحوال بفعل ريح تجهيل واستبداد وفساد عاصفة، ولنجبر كسر بادرات الحلم بربيع وطنى قادر على تجاوز عثراتها وما علاها من ركام عصور ولت، إن استعادة ربيع الأوطان مسئولية جماعية يستوى فيها الراعى والرعية. لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى