الدكتور رشدى راشد هو واحد من كبار فلاسفة ومؤرخى العلم فى العالم.. عمل أستاذًا فى جامعات باريس وبرلين وطوكيو، وحصل على العديد من الأوسمة والجوائز العالمية. ولد الدكتور رشدى راشد فى القاهرة، واستقر فى باريس.. وما بين دراسته الفلسفة فى جامعة القاهرة وتدريسه تاريخ العلم فى جامعات العالم.. قصة رائعة لأحد أكبر العقول المصرية فى العصر الحديث. قرأتُ للدكتور رشدى راشد، وشاهدتُ عددًا من حواراته التليفزيونية.. وسمعتُ عنه فى دولٍ عديدة من ألمانيا إلى اليابان. وكتبتُ عنه سلسلة مقالات بعنوان مؤرخ العلم رشدى راشد.. هذا الفيلسوف من مصر. ولطالما تطّلعتُ إلى شرف لقائه.. لأستمعَ وأتعلّم. توصّلت إلى رقم الفيلسوف المصرى العالمى فى فرنسا.. وتواصلتُ معه.. ثم سعدتُ بلقائه الأيام الفائتة فى باريس. كانت السيدة زوجته كريمةً للغاية.. التواضع والودّ، والقهوة والحلوى الفرنسية.. ثم الصور التذكارية التى تفضلّت بالتقاطها لتوثيق الزيارة. وجدتُ الفيلسوف فى المكتب كما رأيته على الشاشة.. مساحة هائلة من الرقّى والمعرفة.. العالِم والإنسان فى آن. مكتبة رائعة تغطى جميع الجدران.. ومكتبا عتيقا تعلوه مخطوطات ومؤلفات بعدة لغات.. ومقعدا واحدا لضيفٍ واحد.. حيث لا تسمح الجديّة الهائلة بكثرة الاستقبال، أو فائض الكلام. أهديتُ الفيلسوف الكبير نسخةً من كتابى الجهاد ضد الجهاد وتفضّل هو بإهدائى كتابه الرصين بين الفلسفة والرياضيات.. ثمّ زاد فضلًا بالحديث عن جوانب من تاريخ العلم وفلسفة الحضارة. قام الدكتور رشدى راشد بأكبر عمل علمى فى تحقيق وشرح تاريخ العلم فى الحضارة العربية والإسلامية. وأصدر عددًا من الأعمال غير المسبوقة.. بعض الأعمال كان تحقيقًا، وبعضها كان تأليفًا، وبعضها كان إشرافًا على موسوعات بالفرنسية والألمانية. إنَّ أساس المشروع الفكرى لمؤرخ العلم المصرى العالمى رشدى راشد هو الفلسفة والرياضيات. وقد رأى أن دراسة تاريخ العلم عند العرب والمسلمين.. هو نقطة الانطلاق اللازمة نحو استعادة زمن الربيع العلمى فى حضارتنا. يرى رشدى راشد أن الحضارة العربية لم تكن فقط هى حضارة الفقه والشعر.. بل إنها كانت حضارة العلم والتكنولوجيا. فى القاهرة كان هناك بيت العلم.. وهو بمثابة أكاديمية كبري.. حيث ضمّ مكتبةً ضخمة، وعلماء بارزين.. وكان يعجّ بالاجتماعات والمنتديات العلمية الرفيعة.. كما كان هناك بيت الحكمة فى بغداد.. وهو مركز أبحاث عملاق كان يعمل فيه العالم الأشهر الحسن بن الهيثم. لقد كان ذلك بمثابة عصر الحداثة العربى والذين يستهدفون تحديث العالم العربى الآن.. هم لا يدعون إلى شيء جديد تمامًا.. بل إلى حداثة كانت حاضرةً وماجدةً ذات يوم.. ثم انقطع بها السبيل. إن الترجمة فى الحضارة العربية - حسب راشد - لم تكن للمباهاة أو ملء خزائن الخلفاء والاستعراض بالمكتبات فى القصور.. بل كانت لحاجةٍ بحثيةٍ وعلميةٍ حقيقية. قبل الخوارزمى لا يوجد علم الجبْر، ولولا عالم الجبْر المصرى أبو كامل الذى كان واحدًا من كبار علماء مصر فى عهد أحمد ابن طولون.. لما تطوّر علم الجبْر فى إيطاليا. كما أن نصف كتاب رينيه ديكارت فى الهندسة الجبرية لم يزد على ما جاء به عمر الخيام.. أول من عمل بهذا الحقل العلمي. وأمّا شرف الدين الطوسى الذى اكتشفه رشدى راشد.. فقد تجاوزَ عمر الخيام ووصلَ إلى نوعٍ من الهندسة التحليلية. واكتشف مقولاتٍ لم تكتشف إلا فى القرن السابع عشر. ولقد ساهمَ اكتشاف الحضارة العربية للرموز فى تطوير علم الرياضيات.. حيث كان الأمر - قبل ذلك - يحتاج إلى عشرات الصفحات لحلّ معادلة واحدة. لم يكن الدين - برأى راشد- سببًا فى تأخُّر العرب.. بل كان دافعًا أساسيًّا للانطلاق والتفوّق.. وحتى ابن تيمية لم يتجرأ على مهاجمة العلم.. ولم يمسّ أبدًا العلوم الطبيعية.. كما أنه لم يوجِّه أيّ نقد للعلماء. كان النقد للفلاسفة.. وكان جوهر المعركة قول الفلاسفة بقِدِم العالم. كان ابن تيمية عميقًا من الناحية الفلسفية.. لكن للأسف لم يبق منه إلّا البدع والخرافات.. والقتال. القراءة فى المشروع الفكرى للفيلسوف ومؤرخ العلم المصرى رشدى راشد متعة وفائدة بلا حدود. أبدعَ الفيلسوف خارج الأضواء، لا صحافة تكتب ولا كاميرا تتابع. كما أنه عمل خارج منظومة المال العربي.. لا ملايين ولا مليارات.. ولا مئات الموظفين أو آلاف العمال. أصبح بذاته مؤسسةً رفيعة.. واستندت المؤسسة إلى أكبر رأسمالٍ على مرّ التاريخ: رأسمال العقل. قال لى الفيلسوف الكبير إنّه يمتلك مكتبة كبري، وأنّ حجم المخطوطات والمؤلفات الموجودة على ميكروفيلم لديه ربما كانت الأكبر فى مجالها. وقد أبدى الفيلسوف رغبته فى إهدائها إلى مصر. وقد عرضتُ عليه أن أبحث الأمر مع جامعة القاهرة وجامعة الإسكندرية وكذلك مكتبة الإسكندرية.. وقد تفضّل بالموافقة على أن تكون فى أيّ من مراكز العلم فى مصر.. حتى تتاح للأجيال القادمة من العلماء والباحثين فى مصر والعالم. استوقفنى الدكتور رشدى راشد بينما أغادر مكتبه فى ذلك الحيّ الراقى فى باريس.. ثم قال لي: هل من المعقول ألّا يوجد شارع فى مصر حتى الآن يحمل اسم..، ولقد توقّعت على الفور أنه سيقول اسم رشدى راشد. ولكنَّنى فوجئتُ بالمفكِّر الكبير يقول: يحمل اسم العالم المصرى العظيم أبو كامل.. ذلك العملاق المصرى الذى تعلّمت منه أوروبا الحديثة. كم أتمنى على المؤسسات العلمية والفكرية فى بلادنا أن تبادر لتكريم هذا العقل الكبير. إنَّ تكريمه هو تكريمٌ لنا.. واحترام مشروعه هو احترامٌ لعطائنا ورموزنا. من الواجب أن نمّد أيادينا لنصافح من يمنحوننا المجد والشرف.. يجب ألا ندير وجوهَنا أوْ أنْ نرمى أبناءنا بالحجارة. تحية احترام وتقدير لواحدٍ من أكابر العلم والفكر فى بلادنا.. لواحدٍ من نجوم قوتّنا الناعمة.. إن الإضاءة الحقيقيّة ليست الحفاوة فى الصحف والمجلات، أو كثرة الوجود فى المواقع والصفحات. الإضاءة الخالدة التى تتجاوز ذلك كله هى العلم الذى أسَّسه الفيلسوف المصرى العالمي.. والقيم الوطنية الرفيعة التى لايزال يقدمها لنا كل يوم. أيها الفيلسوف الكبير.. نحن نحترمك. لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى