تترجم وثيقة الأخوة الإنسانية التى وقعها بابا الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الشريف، أخيرا، نهجا جديدا فى التعامل مع مثل هذا القضايا، بما يجعلها وثيقة فريدة من نوعها، وتدشن فعلا مرحلة جديدة للتعاون والتلاقى والسلام بين اتباع الأديان، ولكن تحقيق ذلك يتطلب أن تتحول بنودها إلى إجراءات وخطوات عملية، مما يستدعى بجدية ان نتساءل: ماذا بعد توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية؟. تكمن أهمية هذا السؤال فى أن القراءة المتعمقة للحدث التاريخى توضح فرادته وتميزه، فمن حيث الشكل تعد الوثيقة تتويجا لنهج المبادرة وليس رد الفعل فى التعامل مع قضية الحوار بين الأديان، حيث كان الأمر بالنسبة لقادة المؤسسات الدينية الإسلامية قبل ذلك يأتى فى إطار رد الفعل، عبر تلقى دعوة للحوار من مؤسسات غربية، بينما لم يشارك هؤلاء المدعوون فى وضع أجندة الحوار، ولكن توقيع الوثيقة يمثل تتويجا لنهج المبادرة الذى بدأ بتأسيس مركز للحوار بين الأديان بالأزهر الشريف، ثم تجلى فى المشاركة بكتابة الوثيقة، ويظهر ذلك واضحا فى لغتها التى لا تتصادم مع ثوابت الاديان السماوية وفى مقدمتها الإسلام . اذ تستهل بعبارة «بسم الله الذى خلق البشر جميعا متساوين فى الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام...يعلن الأزهر الشريف ومن حوله المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها والكنيسة الكاثوليكية ومن حولها الكاثوليك من الشرق والغرب, تبنى ثقافة الحوار دربا، والتعاون المشترك سبيلا، والتعارف المتبادل نهجا وطريقا». ومن حيث المضمون، هناك سمات أساسية تؤكد أنها تمثل مرحلة جديدة فى العلاقات بين الاديان، ومنها: أولا إنسانية التوجه، حيث تركز الوثيقة على العديد من المبادئ التى تترجم معظم القيم التى جاءت بها الأديان والمواثيق الدولية لتحقيق الاخوة بين الناس، إذ دعا من خلالها القطبان العالميّان جميع المؤمنين وغير المؤمنين إلى العيش المشترك، واحترام حُريّات الاعتقاد والتعبير والممارسة، وحَضّا البشر على تقدير التعددية والاختلاف فى الدين واللون والجنس واللغة، فتلك حكمة لمشيئة إلهية. ثانيا: هذه الوثيقة وإن كانت ليست الأولى من نوعها لكنها الأشمل، حيث شهدت السنوات الماضية، عددا من جلسات حوار الأديان. غير أن ملتقى الأخوة الإنسانية الذى صدرت عنه الوثيقة لم يقتصر على اتباع الأديان الإبراهيمية فقط وإنما شارك فيه ممثلون عن جميع الاديان والمعتقدات، كما اهتمت الوثيقة بقضايا المرأة والطفل والأسرة والمشردين ومآسى الحروب. ثالثا: مواجهة التطرف بكل اشكاله والوانه ومصادره ، فقد دعت الوثيقة إلى وقف دعم الحركات الإرهابية والمتطرفة بالمال أو بالسلاح أو التخطيط أو التبرير أو بتوفير الغطاء الإعلامى لها، واعتبار ذلك من الجرائم الدولية التى تُهدد الأمن والسلم العالميين. رابعا: أكدت مبدأ المواطنة فى مواجهة تسمية الأقليات التى تحدث فرقة وطنية ونزاعات طائفية فى أى وطن. خامسا: عالمية التوجه، لأن هذه الوثيقة لا تخاطب قادة الأديان فقط وإنما تطالب قادة العالم وصانعى السياسات الدولية، والمفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين بالعمل جدياً على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، ووقف ما يشهده العالم حالياً من حروب وصراعات وتراجع مناخى وانحدار ثقافى وأخلاقى. غير ان الأهم من كل ذلك هو ترجمة ما جاء فى الوثيقة الى أفعال، وهذا يقودنا الى الإجابة عن السؤال: ماذا بعد التوقيع؟ الحقيقة ان تطبيق بنودها حدث فور توقيع الوثيقة، وتمثل فى تدشين مشروعات دينية وفكرية بالدولة التى شهدت التوقيع، منها: تأسيس «صندوق زايد العالمى للتعايش» وتدشين مسجد الطيب وكنيسة فرنسيس بأبوظبى وبدء تشييد «بيت العائلة الإبراهيمية» بالعاصمة الإماراتية، وعلى مستوى المؤسسات الإسلامية، اعلنت جامعة الأزهر عقد ندوات للتوعية بمضمون الوثيقة، كما أعد مجلس حكماء المسلمين خطة للتعريف ببنودها. ولا شك أن جميع الاطراف وخاصة الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكية يضطلعون بمسئولية وواجبات أخرى لترجمة ما جاء فى هذه الوثيقة التاريخية، الى آليات عمل تحققق اهدافها، وخاصة مواجهة المشكلات التى يتعرض لها كثيرون بسبب معتقداتهم او عرقهم اوقوميتهم وخاصة ما يحدث فى فلسطين وبورما (مسلمو الروهينجا)، والهند، والصين وما يواجهه المهاجرون واللاجئون المسلمون فى أوروبا وأمريكا بل المقيمون منهم هناك، من تعديات من جانب اليمين المتطرف أو من تشويه وحملات عدائية من جانب بعض وسائل الإعلام، وأيضا ما يواجه بعض اتباع الاديان الأخرى من مشكلات. لمزيد من مقالات د. محمد يونس