المجتمع بمكوناته الكيانية، تلعب الثقافة دورا أساسيا ومؤثرًا فاعلا فى وحدته وتماسكه، كما تلعب القوانين والنظم التربوية دورًا فى انتظامه إيجابا أو سلبا، خاصة وأن الثقافة التى تمثل العادات والتقاليد وأنماط الفكر والنظم القانونية والاجتماعية والأدبية والفنية، يمكن منها القراءة الواعية للمعانى التربوية الاجتماعية والموقع الطبقى للفرد وما يريد أن يكون عليه، فضلاً عما يريد أن يحققه فى حياته. نلاحظ أن الرؤى التقليدية للعالم وكيف رسمها مثلاً سترابو فى كتابه الموسوعى الجغرافى الذى كتبه بمرحلة ما قبل الميلاد، كان قد رسم صورة للعالم كما شاهدها فى عصره، وكما تناقلتها الأجيال سواء كواقع أو كما تخيلتها، وقد تكون الصورة التى رسمتها التوراة أو غيرها، هى ما استند إليه سترابو، كما أن المسعودى فى العصور الوسطى كان قد رسم صورة للعالم، هى الصورة التى تخيلها وورثها العرب المسلمون، عما سبقهم. إلا أن الرؤى الغربية التى بدأت تبرز بعد الحروب الصليبية، بدأت تظهر فيها صورة أكثر نضجًا وجديدة للعالم. الصورة تلك بدأ الغرب يرسم منها صورة لأحلامه فى التوسع والهيمنة، هذه الأحلام التى تحولت إلى واقع وإن كان بعد حوالى الألف سنة، حيث امتدت الأذرع الأوروبية وسيطرت على مناطق واسعة من قارتى آسيا وإفريقيا. فى البدء ورث الغربيون، بتنوع مدارسهم، الصورة التقليدية (للعالم) التى رسمتها الحضارات القديمة، بما فيها تلك التى رسمها المسلمون. تنوعت الصور الجغرافية - الجغرافية تسهم فى صناعة التاريخ - التى راودت القيادات العلمية الغربية، فى السيطرة والهيمنة على العالم. وإن كان بعضها لم يلحظ، ولم يأخذ بعين الاعتبار الجغرافيات السكانية والاقتصادية، وغير ذلك من خامات مدفونة فى باطن التربة. لقد قام البحاثة، بدءًا من المدرسة الكالفينية، برسم صورة العالم كما قدمته المدارس الدينية المتنوعة، إذ لم تلحظ تلك المدارس للكون معنى، إلا المعنى التى رسمته الإرادة الإلهية. فالإله هو خالق هذا الكون، والإنسان هو وسيلة يولد ويستمر بإرادة إلهية، خاصةً أن الناس لديهم قابلية لارتكاب المعاصى والأخطاء، والسبب أنهم منغمسون فى الملذات الحسية الدنيوية، تلك النزوات التى لم يضع حدًا لها سوى الإرادة الإلهية العليا، المنزهة من كل ملذات أو رغبات دنيوية. لقد آمن الإنسان بنظرية القضاء والقدر، واعتبر الخلاص منحة إلهية. كانت تلك التعاليم المتوارثة مدخلاً للتصويب وللنهى عن الشر، كان ذلك حين وضع الأقدمون القوانين الأخلاقية لتطويع الشعوب وانتظامها فى مجتمعات. لقد استندت تلك التعاليم إلى وجود إله يقاصص المخالفين لتعاليمه. إن مجمل الأحداث التى تحدث، سواء الطبيعية منها أم البشرية، هناك قوة إلهية تقف وراءها. لكن نخب علمية جديدة بدأت تبرز وتميز بين العالم الواقعى والعالم المثالى، هذا العالم الذى يحمل ويتوارث الرؤى التقليدية، خاصة الدينية منها. - الكون صناعة إلهية - إن دوركهايم الذى ميز بين عالمى الواقع والخيال، كان قد اعتبر أن الإنسان وضع فوق العالم الطبيعى عالمه الخيالى الذى توارثه عبر ملايين السنين، هذا العالم الذى لا يوجد إلا فى الخيال الفكرى. المجتمع لا يخلق، أو يعيد بناء نفسه دون خلق مثال أو نموذج، كان هذا التطور يمر بحالة من التغير والتحول، ورغمًا عن ذلك، فإن العالم المثالى، ليس خارجًا عن العالم الواقعي؛ بل هو جزء منه. لقد ذهب دوركيم بعيدًا حينما اعتبر أن كل المعتقدات الدينية تمثل خاصية واحدة - مشتركة تتمثل فى استرضاء الآلهة، مما يعنى وجود نقيض للأشياء الواقعية والمثالية التى يفكر فيها الإنسان، والتى تميز بين ما هو مقدس، وما هو مدنس، دنيوى. فى حين أن مارسيا الياد الذى خالف دوركهايم، كان قد رأى الكون من زاوية أخرى؛ زاوية رأى فيها أن ما يتحكم بالمجتمعات البدائية والتقليدية هى فكرة القداسة التى هى انعكاس للبناء الفعلى للكون باعتباره صناعة إلهية، تمامًا كما هى، السماء اللامتناهية الأبدية التى لا يستطيع الإنسان الوصول أو السيطرة عليها. الله هو مالك السماء، حيث يسكن فى مكان ما. أما صفاته فمرتبطة بما زاد من ظواهر، فالرعد هو صوت الله، والريح هى النفس الذى يتنفسه، والعاصفة هى علامة العنف الإلهى، أما البرق فهو العقاب على من يخالف قوانينه. لقد رسم الإنسان القديم منزله، كى يحاكى منه بناء الكون، حيث أرض المنزل ذاتها هى أرض هذا الكون، أما جدرانه فمثل الاتجاهات الأربعة، والسقف ليس إلا قبة السماء الواقية والحامية له. لقد أضفى الإنسان القداسة على مسكنه. فكان معبده يحاكى منه عمل الآلهة التى شيَّدت هذا الكون. أما الفوضى وعدم النظام، فإنها المرض الذى يتمثل بالشر. أما النظام فإنه الصورة النقيضة للشر. إنه صورة الخير، وللخير والشر وجود حقيقى. - الصراع بين التقليد والعلم - أما روبرت رادفيلد، فكان قد رسم صورة عبر فيها عن خبرات وتجربة فكرية جديدة، حمل فيها الجيل الجديد رؤية أخرى للجانب المعرفى والوجدانى، وفى أنماط التفكير والاتجاهات السائدة نحو الحياة. كما عبر فيها عن علاقتنا مع الآخرين، وبالتالى، عن علاقاته وموقفه من العالم والكون. الذات، كما تصورها رادفيلد، تعتبر محور رؤى العالم. لقد ميز - رادفيلد - بين التراث الصغير، عامة الناس، الفلاحين، وبين التراث الكبير المتمثل بالطبقة المثقفة أو المفكرة، التى تحمل الفهم العقلى للواقع بما يتضمنه من معرفة ومعتقدات عن الطبيعة والإنسان. إن الدين يمثل مكانة مهمة عند رادفيلد، فعبره يمكن السيطرة على العالم وتغيير تشكُّله. وبهذا التفسير لا يمكن أن ترتبط روح الثقافة باعتبارها طريقة حياة، بالمكونات الأخلاقية والقيمية والجمالية، بل إنها التصورات (الفوقية) التى لدى الناس عن الأشياء والواقع. مع التفسيرات الجديدة للأديان التى أتى بها سبينوزا وغيره من الفلاسفة، كانت رؤى، أكثر واقعية تظهر وتنتشر مما انعكس على الرؤى التقليدية، وبالتالى على التقدم العلمى الذى أسهم بناته فى تطور التشريعات والقوانين والعقود الاجتماعية. كما أسهم هذا التطور فى رسم صورة جديدة للزمن ومكانة الإنسان فيه. بهذا التطور تقلصت الرؤى الدينية، وأصبح العلماء يعتبرون العالم نسقًا اجتماعيًا - مكانة الأسرة - العشيرة - ومن ثم الدولة المنظمة للمجتمع، الأبنية المدنية من فن وبناء عمرانى، أو موسيقى. نسبيًا، انتظمت وتكيَّفت الأفكار الدينية مع العالم الذى توجد فيه الأشياء الجميلة المرغوب فيها؛ الأرض، الثروة والصحة والصداقة والحب وصفات الرجولة والشرف والاحترام والمكانة والقوة والتفوق والأمن؛ وإن كان ذلك بشكل محدود أو شحيح. لقد أسهمت تلك الرؤى التى عرفتها حضارة القرون الوسطى - ببروز المعتقدات الفردية التى اكتسبها الإنسان وتعلمها بالتدريج - بخلق المناخات التى مهَّدت للإصلاح الدينى. لقد تجاوزت تلك الرؤى رواسب ما سبقها، فاكتنف ذلك غموضًا فى الصور وعدم التيقن من أهدافها. لقد غيرت الأبنية و الأنساق الفكرية الجديدة من الشروط التاريخية والاجتماعية للعصر الوسيط. طبقًا لذلك، حملت الأبنية الفوقية الأفكار التى عرفت آنذاك، وعن طريق الإدراك الحسى للعالم وعن طريق المخ البشرى، حيث لا توجد أفكار وتصورات بدون أساس مادى، فالإنسان جزء من الطبيعة، وغير منفصل عنها، والناس تصنع عالمها الذى تعيش فيه. هكذا بدأت تبرز تصورات للكون. الناس كائنات قادرة على التعلم، والإنسان قادر على تصحيح معرفته عن البيئة أو العالم الذى يعيش فيه. لقد أسهمت الأفكار العلمية والفلسفية، بإعطاء قيمة جوهرية للبناء الحضارى والتكيف البشرى. وبهذا التحول أخذت تنتقل وتنفصل المعارف اليومية عما هو تقليدى - دينى. العالم فى خيال المجتمعات الفلاحية لقد حدد (لاورى بالمر) ثمانية تصورات للعالم، تلك التى حملتها عقليات الجماعات التى قام بدراستها، العليا أو الغيبية، الذات والآخر، الذات والكائنات الروحية، الذات والطبيعة، الزمان والمكان. لقد ارتبطت هذه التصورات بالقوة والشدة؛ فالقوة الروحية فى المجتمعات التقليدية منشدَّة إلى الإله الأسمى، أى إلى أرقى وأشد أشكال القوة، إنها السلطة الشرعية لدى المجتمعات المتدينة، كما اعتبر (بالمر) أن الذات ليست إلا مادة للروح، ممتدة عبر تعددية ذواتات الصغرى الكبري؛ ذات الأسرة ذات الجماعة ذات الأسلاف ذات الأحياء ذات الأموات الأصدقاء - الأحفاد النسل. إن تصورات المجتمعات الزراعية عن الكون، قد تغلبت عليها الأسباب الطبيعية والغيبية. لقد ارتبطت الظواهر الطبيعية بقيم أرضية معينة، تواجه الفلاحين فى حياتهم اليومية. لقد ارتبطت التصورات المؤسسة للكون (عند القرويين) بأنماط فكرية محددة يختلف كل منها فى رموزه وأفعاله المتخفية. لقد حملت تلك الثقافة تداخلاً بين الكل والجزء، فالكل يحتوى الجزء ويمثله. وبهذا كانت اليد اليمنى مقارنة باليسرى تمثل الجسد وتحل محله. والغيب هو كل ما غاب عن الإنسان، أى ما هو فى علم الله الذى لا يخضع للحواس والتجربة الحسية، بل يكون مؤسسًا على الاعتقاد. الغيب يشمل الأرواح والجن والعفاريت، وسائر الكائنات غير المنظورة الخيرة منها والشريرة، كما يرتبط بالتصورات الدينية عن الجنة والنار. أما قيمة علم الغيب فإنها تسمو على الظاهر، فالأرض والجسد يتَّصفان بدنو قيمتيهما بالمقارنة بالمكونات غير المادية، كالروح مثلاً، حيث العناصر المادية مصيرها الفناء والزوال، بينما الروح فإنها خالدة. الأرض مخلوقة ومركبة من تراب، كذلك جسد الإنسان الذى يمثل الخاصية المادية للذات. كما أن للجسد الإنسانى بعد زمانى، فترة الحياة التى يعيشها الإنسان متحدًا مع الروح، فالجسد حيز مادى، أما الروح بما هى الجانب اللامادى والغيبى لا يعرف كنيتها أحد. الروح تضفى على الإنسان الحياة، وبانفصالها يفنى الجسد ويتلاشى. الروح تحتوى الجسد وتسيطر عليه وتمنحه الحياة، وبهذا الوصف يرى الفكر التقليدى بأن العالم مملوء بكائنات غير مرئية (الجن الملائكة كذلك القرين - الشقيقة) التى ترتبط بالشخص، وتحدد ما يحدث له فى حياته اليومية. كما أن (البركة) تتمثل فيها قوة الحياة الكامنة الذى يمنحها الله لبعض الأفراد والكائنات. فالجسد فى الفكر التقليدى الدينى، هو قوة شريرة غير خيِّرة الإنسان كون صغير. مما سبق، نجد أن المجتمعات القروية تسود فيها الرؤى الغيبية الدينية، وإلى جانبها رؤى دنيوية، تقوم على التجريب، خاصة فى المناشط الزراعية والاقتصادية وعلاقتها بالطبيعة، وغير ذلك من شروط مادية حياتية. وبهذا التفكير نجد ازدواجية، بين عالم متطور يخضع لعالم الحواس والتجربة، وعالم غيبى لا يخضع للحواس.