فى كل مكان خانته المدينة دائماً، هناك رجلٌ عجوز، عجوز لدرجة أن أحداً لا يصدق أنه كان طفلاً يوماً ما، وبلا فم، بعد أن سرقت يدٌ قديمةٌ كلماته للأبد. رجلٌ عجوز، يعيش فى كل الشوارع الجانبية، الأزقة المظلمة فى الليل وفى المناطق المعتمة من النهار، يوجد فى كل نور محبَط وفى كل مكان خانته المدينة، خلف حوائط الخرابات تحت شواهد المقابر التى لا يزورها أحد وخلف صخرة البحر الكبيرة التى تخشاها العائلات، يوجد بين أشجار الحدائق الضخمة ووراء أبواب العقارات التى بلا حراس. فى أى مكان يلوذ به اثنان لكى لا يراهما الجميع، يوجد ذلك الرجل العجوز، لكى يُفسد القُبل. رجل عجوز يقطع طريق الهمسات واللعاب، كأنه بنى بيتاً أخيراً فى تلك المسافة _ التى لن يقبل أبداً أن تتقلّص _ بين شفتين. كيف تربى المدينةُ كلابها لا أحد يعرف كيف تربى المدينةُ كلابها، كيف تجعلها تقف عند الأبواب الزجاجية للفنادق، أمام واجهات محال الملابس ومطاعم الوجبات السريعة.. تتأمل البشر.. فقط تتأمل، بما يليق بكلاب تربت فى المدينة. لا تنبح فى وجه السادة. لا تطلب الطعام. لا تلاحق عشيقين فى شارع مظلم بالنباح. فى المدن الصغيرة لا تفوت الكلاب فرصة للانتقام. فى المدن الصغيرة تموت الكلاب فى الطرق وتلتهمها القطط.. لكن فى المدينة الكبيرة، الكلاب تعرف ماذا عليها أن تفعل لتعيش طويلاً. البصيرة كانت كلما نظرت فى وجه رجل، ترى عينى امرأة. تطالع حيرتهما فى الأرض الغريبة، تحت الجبهة الخطأ تتلمس زرقة الدموع المكحولة فى بكاء الرجال الذى لا لون له. تبحث عن أحمر الشفاه بين الشارب واللحية، ولا تمل تتبع سراب الضفيرة فى سراب القفا. من يُصدِّق أن كل الوجوه، كل هؤلاء الرجال، كانوا، بالكاد وعداً بأخري؟ وكم رجلاً استطاع أن يدرك أن هاتين العينين اللتين تفتشان فيه، ليستا سوى عينيه، عينيه هو، وقد أطلتا عليه أخيراً، مكحولتين، من وجه امرأة. أصابع الغد بقعة الطعام تلك، تركتها الطفولة على قميصك. بقعة الحبر أفلتتها يد النضج على القميص نفسه، وتراب شوارع لم يعد لها وجود، هبّ على الثنيات وسكن المناطق التى لا تصل إليها أدوات التنظيف. وذلك الدم المتيبس، عندما دخلت معركتك الأولى وخرجت منها خاسراً لأنك اكتفيت بدم عدوك على ملابسك وكان يجب أن يكون على ملابسه هو. نعم، ذلك الدم الذى لم يعد أكثر من ذكرى جرح، بهت ألمه وأظلم لونه، كجميع الشموس التى تولد، فقط لكى تخبرنا شيئاً عن الظلمة. ذاك الدم الناشف الذى ينتظر أن تفتته أصابع الغد، لتولد من جديد. بسبب ذلك بالذات نخشى المستقبل، ليس لأنه يقربنا من التراب كما ندّعى، بل لأنه يمنحنا فرصة جديدة لكى نبدأ، فجميعنا نعرف بشكلٍ غامض أن من يولد أكثر من مرة، يكون موته نهائياً. كل هذه الندوب وما زلت ترتدى القميص نفسه.. القميص الذى لم يكبر مثلك، لكنه لم يضق على جسدك منذ الطفولة، القميص الذى فوجئت به اليوم يتألم عندما فتقه مسمار ورأيت دماً يقطر من قماشه، فأدركت أنه، من فرط ما التصق بك، صار عريك. موت الأب لنحيا حقاً معاً، كان يجب أن أعيش كل تلك السنوات التى قطعتها أنت قبل أن أولد. كأنك، لتضمن لى الحياة من بعدك، خصمت حصتى العادلة من ماضينا المشترك. رغم ذلك، نحن معاً، فى اللحظة نفسها، عالقين فى تلك الغرفة المعطلة التى يسمونها الحاضر، وكأن السنوات محض مصعد بين طابقين. نحن معاً: رجلان أنجب أحدهما الآخر وما زال ينتظر أن يصبح، يوماً ما، فى نفس عمره. لستُ كلماتٍ، ولستُ يداً كل امرأةٍ أحبتنى، حوّلت وداعى لقصيدة. لم يُسمح لى أن أطالع إحداها، ولم أكن بحاجةٍ لذلك، لأننى كتبتُ سلفاً جميع القصائد التى لن أقرأها. كأننى يدُ الكلمات عند الوداع، تلك اليد التى لم تُخلق للمصافحة. كأننى الكلمات نفسها: الكلمات المرجأة التى تصادف رجلاً فقط، لكى تولد. لستُ كلماتٍ رغم ذلك، ولستُ يداً. أنا قلمُ جميع الأوراق الخالية: قلمٌ، تمتن كل صفحةٍ لوداعه فور أن تمتلئ. القتل لا شىء يشبه الدم مثل حديقة. رغم ذلك حكموا علىّ بالموت عندما جرّبتُ، لمرة، أن أقطف شخصاً. الطريق كانت قدماى تصغران كلما كبرت، وأحذيتى تتسع، حتى صرت أتجول فيها ولم أعد بحاجةٍ للطريق. الحياة كلما انتقلتُ إلى شقة جديدة، أرى نفس الجار. أخاف فى البداية، أستغرب، لكنه يطلب التعرف إليَّ بترحيب الغرباء بينما يمد يداً لا أعرفها، وكأننا فى تمثيلية مُحكمة من صنعه. كل مرة، نفس الشخص، لكن بحياة جديدة، بمهنة مختلفة بمزاج مغاير، بأُسرة حلَّت من العدم لتحط على كتفى حياته حياته التى تنتهى للأبد كلما تركتُ مكاناً، وحياته التى تبدأ على عجل مع كل باب جديد أفتحه، فقط ليظل جاراً لى.