بالفعل فنحن أصبحنا نعيش فى مجتمع يؤمن تماما بحرية المواطن وفق مفهومه الخاص, والخاص جدا لهذه الحرية.. فقد أصبح لأى مواطن يتوسم فى نفسه درجة من الأهمية, كامل الحرية فى اختيار المخالفة التى تروق له.. بل إنه يبذل جهدا واضحا لانتقاء طبيعتها.. يحدد توقيت ارتكابها.. فهو حر يعيش فى بلد حر لا يخشى شيئا فهو على يقين بأن أحدا لن يحاسبه على ما يرتكبه من مخالفات وبخاصة إذا كان من بين المنتسبين لهؤلاء المحظوظين من فئة المسئولين أو المسنودين أو يمتلك من الأموال ما يمكنه أن يدعو به الموكل إليه تطبيق القانون على الشاي, وما أدراك ما هو الشاى فى ثقافة المصريين الحديثة!يرتكب ما يشاء من مخالفات وقتما يرغب.. لا يعنيه أن هناك قانونا يحظر ذلك أو عرفا يستنكره.. فكل هذه الأشياء قد وجدت لمن هم دونه.. لمن لا يحميه نفوذ أو يتدثر بعباءة المعارف الكبار.. أما هو فلا أحد يهزه أو يطالبه بالالتزام فهو دائما فوق أى قانون. ثقة زائدة على الحد هى التى مكنت تلك الثقافة الغريبة لأن تستغرقه تماما فيتحول إلى شخص آخر يشعر دائما أنه فوق أى حساب.. بأنه مميز عن غيره دون أن يمتلك من المؤهلات الحقيقية ما يؤهله لهذا التميز والذى يدفعه دوما لاختراق القانون ومخالفة كل الأعراف.. فكل ما يمتلكه منها هو فقط كارت شخصى فى محفظته لمسئول.. أو رقم تليفون على موبايله أو أموال كما لو كانت هذه الأشياء جواز سفره لارتكاب أى مخالفة دائما أو حتى جريمة أحيانا وبالتأكيد دون أى حق. أبسط الجرائم التى يقدم عليها ذلك الذى يتوهم أهميته عدم الالتزام بكل نظم وقواعد المرور فمن العيب أن نطالبه بالالتزام بإشارات المرور.. فاحترام أى نظام يجب ألا يكون خاضعا له.. حتى طابور سداد الفواتير أو أمام أى كاشير فى سوبر ماركت أو المنضمين إلى طابور انتظار المصعد فى أى مصلحة حكومية مجمع التحرير على سبيل المثال لا يصح الانتظام فيه.. فعندما يطالبه أحد بالانتظام سيُسمعه تعبير انت مش عارف بتتكلم مع مين!. أصحاب هذا التميز الوهمى يحلو لهم دوما استغلال امكانات الدولة ومرافقها دون أى وجه حق.. أراضى الدولة أصبحت نهباً لهم. ويكفى هنا تلك الشوارع التى أحالوها إلى جراج خاص يؤجرونه لقبضايات كل همهم انتزاع ما فى جيوب كل من ساقه قدره إلى ركن سيارته لبضع دقائق!. نهر النيل تحول إلى ملكية خاصة تجرأ عليه أصحاب المال والنفوذ فاعتدواعليه وردموا أجزاء منه ليضموها إلى قصورهم أو تلك الفيلات التى يسكنونها ويكفى هنا تلك الحملات المتكررة من جانب وزارة الرى لإزالة التعديات غير أن هذه التعديات سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه قبل الحملات.. أما الأقل شأنا من أصحاب المال والنفوذ فهؤلاء يكفيهم بضعة كراسى بلاستيكية وبراد ضخم للشاى لتتحول مساحة من كورنيش النيل أو أرصفة الكبارى التى تعلوه إلى مقهى خاص فى فصل الصيف , ويكفى المرور على كوبرى اكتوبر أو كورنيش التحرير فى القاهرة لتصدمك هذه المشاهد!. تصرفات أصحاب كورنيش النيل, فى فصل الصيف, يشابهون تماما ما يقدم عليه بعض البلطجية فى المصايف والشواطئ العامة عندما يقتطعون مساحات كبيرة من الشواطئ ليزرعوها بالشماسى والكراسى ليؤجروها لمرتادى هذه الأماكن دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها دون أن يسدد الإتاوة التى يفرضها عليه هؤلاء البلطجية. هذا من جانب أبسط الجرائم أو المخالفات التى يرتكبها المميزون دائما, لتتدرج هذه الجرائم وتتصاعد وتيرتها وفق موقع من يرتكبها.. من الاستيلاء على أراضى الدولة وإعادة تقسيمها وطرحها للبيع للمواطنين, إلى نهب الأموال العامة واعتبارها أموالا خاصة يحق له الاستيلاء عليها, أو ابتزاز طالبى الخدمة وفرض رسوم خاصة فى صورة رشاوى تبدأ بإلقائها فى درج مكتب الموظف المفتوح دائما لتلقى قيمة الشاى وتتراوح ما بين 50 أو 100 جنيه وفقا لنوعية هذه الخدمة المطلوبة, بينما تصل إلى آلاف الجنيهات إن لم تكن الملايين لأصحاب النفوذ الحقيقى من بعض الوزراء أو المحافظين ونوابهم, ويكفيك هنا أن تراجع نشاط الرقابة الإدارية الذى لا تهدأ أبدا كاميراته وأجهزة التسجيل لضبط وزير أو مساعده أو محافظ أو رئيس مدينة!. هذه المخالفات جميعها تمثل جرائم وإن لم تكن تمس أرواح المواطنين , أما تلك الجرائم التى تهدد أرواح الآمنين فهى تلك التى تتعلق بالبناء دون ترخيص، سواء على الأراضى الزراعية أو حتى على أرض يمتلكها.. عمارات شاهقة للغاية سرعان ما تسقط فوق رءوس ساكنيها لتدفنهم تحت أنقاضها دون أى ذنب , فيما يلتزم رؤساء الأحياء بالصمت طوال فترة البناء وكأن هذه العمارات قد أقيمت فجأة فى التو واللحظة لتشكل فى نهايتها مأساة إنسانية!. فيا من تتوهم بأنك صاحب نفوذ. أفق فلست ولن تكون فوق القانون أو المحاسبة. وحتى ولو كنت كذلك فهو أمر مؤقت بالتأكيد. لمزيد من مقالات عبد العظيم درويش