انتهى العرض الموجز فى المقالين السابقين إلى أن (ساحات القتال) المفتوحة على الجبهتين العراقية والسورية أوشكت رحى معاركها على التوقف، وبحسب أحدث الإحصائيات فهناك ثلاثون ألف مقاتل متنوعو الجنسيات والأعمار بدأوا هجرة هذه الساحات عمليًا أو إجرائياً، بعد سنوات من الحياة المتكاملة الأركان فى وطن (تمكين) صنعته تنظيماتهم، وخلفت هذه السنون آثارًا فى النفوس والعقول والخبرات القتالية، كما خلفت أُسَرًا روتها عقائد الدم وغذَتْها مشاريع الفوضى والفزع، وأصبح على العالم أن يواجه مُهَدِداتٍ من نوعٍ جديد، تنظيماتها غير تقليدية الإدارة، وعناصرها مُثقَلةَ المهارة، وخِطَطُ خرابها معدة سلفًا ولا تنتظر إشارة، جُنْدُ فزعٍ مبرمجون على صناعته رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالا، ومشحونون بكفرٍ بالحياة وتكفير لمن يسعى لإعمارها، يتحركون خلايا أو فرادي، حيثُ لَقَنهم من صنعهم أن المقاتل أو الثائر المجاهد - الفرد يساوى تنظيمًا ثورياً طالما آمن بأن (إنشاء تنظيم ثورى هو واجب الوقت لكل المؤمنين بضرورة التحرر من الاستعباد والاحتلال بالوكالة)، ومن ثَمْ يقود هذا الإيمان المصنوع إلى غاية رئيسية لكل عضو هو (خوض معركة التحرير) والمقصود هنا كل أنظمة العالم عامة ولكن البداية بالأنظمة العربية والإسلامية، حيث حددتها برامج صناعة وعى (جُنْد الفَزع) كأولوية على (قتال العدو الصريح)، ونصًا يؤكد المنهج (المؤكد أن معارك اليوم هى أكثر شرفًا من المعارك التى كنا نخوضها ضد الاستعمار المباشر)، وهكذا تسطر مناهج الفزع تأريخًا جديدًا ومعايير نضالٍ مقلوبة الميزان. حين بدأتُ البحث فى عالم صناعة (جُنْد الفَزع) قادتنى الأوراق إلى ترجمة لواقعة قريبة كان بطلها أحد أبناء المصريين الهولنديين، كان الشاب نِتاج زواجٍ على أرض الغرب حيث وُلدَ وتربى وعاش إلى أن بلغ التاسعة والعشرين من عمره، وفرضت عليه ظروف عائلته أن يحضر لمصر فى إحدى المناسبات، وَجَدْتُ نفسى فى مواجهة جيل جديد من مسلمى الغرب، كان الشاب قادمًا من هولندا بجلبابٍ قصير ولحية غير مهذبة ووجه أعِرفُ ماكينةَ صناعته جيدًا، بل والتقيت العديد من أمثاله فى نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الجديد، كشف الشاب عن أن العقدين الأخيرين شهدا تطورًا هائلا فى مناهج صناعة التطرف فى الغرب، قال الشاب نصًا (التاريخ يؤكد أن مصر طيلة حياتها عدوة للإسلام!، وأن هناك مليون جندى مصرى شاركوا فى إسقاط الخلافة الإسلامية!، ولهذا على كل المسلمين أن يعيدوا فتح مصر!)، الآن ترجمت مناهج وخطط صناعة (جُنْد الفَزع) ما تعرضَ له الشاب، إنها نفس المناهج مع تغيير فى المسميات وفى ساحة الإعداد التى تحولت من العراق أو سوريا إلى أمستردام وروتردام، والمجنى عليه مجرد نموذج لأجيال جديدة تطورت مناهج كفرها بالحياة وباتت مستعدة لتتحول إلى جانية علينا ما لم نَتَنَبَّه. وبعيدًا عن محاولات المقال صدمة الوعى الجمعى بحجم التهديد الموَجه للإنسانية، يقف الإمام الأكبر شيخ الأزهر فى (مؤتمر الأخوة الإنسانية بالإمارات) ليُعلن عن تأريخٍ لبداية تطور صناعة (جُنْد الفَزع) حيث يقول الشيخ الطيب (حين دهمتنا حادثة تفجيرِ برجى التجارة فى نيويورك، دفع الإسلام والمسلمون ثمنها غاليًا، وأُخذ فيها مليار ونصف المليار مسلم بجريرة أفراد لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين، فقد استُغلَّت هذه الحادثة استغلالًا سلبيًا فى إغراء الإعلام الدولى بإظهار الإسلام فى صورة الدين المتعطش لسفك الدِّماء، وتصوير المسلمين فى صورة برابرة متوحشين اصبحوا خطرًا داهمًا على الحضارات والمجتمعات المتحضرة، وقد نجح هذا الإعلام فى بعث مشاعر الكراهية والخوف فى نفوس الغربيين من الإسلام والمسلمين، وسيطرت عليهم حالة من الرُّعب ليس من الإرهابيين فقط، بل من كل ما هو إسلامى جُملةً وتفصيلًا، إن ربط تطور صناعة الفزع باستثمار أحداث (11سبتمبر) يُقود البحث إلى طبيعة التباين فى بناء وعى (جُنْد الفَزع) القادمين من أوروبا والذين التقيتهم مطلع الألفية الحالية والشاب الهولندى الذى زار مصر فى 2017. فى خاتمة كلمته وجه الإمام الأكبر شيخ الأزهر لشباب العالم رسالة خارج السياق التقليدى فقال (إن المستقبل يبتسم لكم، وعليكم أن تتسلحوا بالأخلاق وبالعلم والمعرفة، وعليكم أن تجعلوا من وثيقة الأخوة الإنسانية دستور مبادئ لحياتكم، وضمانًا لمستقبل خال من الصراع والآلام، وميثاقًا بانيًا للخير هادمًا للشر، ونهاية للكراهية. عَلِّمُوها أبناءكم فهى امتداد لوثيقة المدينةالمنورة، ولموعظة الجبل، وهى حارسة للمشتركات الإنسانيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة، وسوف أعمل مع أخى قداسة البابا، فيما تبقَّى لنا من العُمرِ، ومع كل الرموز الدِّينيَّة من أجلِ حماية المجتمعات واستقرارها)، هكذا خطاب يُحَدِد دروع التحصين من كلِ مُهددات (جُنْد الفَزع)، إذ يرتكن على تقوية أسس البناء الإنسانى فى مواجهة كل (جُنْد الفَزع) غايتهم الهدم، وفى تقدير المُستهدِف لتحصين القادم، فإن ترجمة (وثيقة الأخوة الإنسانية) إلى مشاريع بناء إنسانيِّ متكامل يمثل أول خطوات تأمين الأوطان شعوبًا وإدارة. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى