هل تنكر أن الكثير من مدركاتنا وتصوراتنا عن الحياة باتت تتشكل هذه الأيام من خلال ما نتابعه على مواقع التواصل، ومقاطع الفيديو، على اليوتيوب والفيس بوك وجوجل وغيرها؟ وهل تستطيع أن تمارى فى أن خريطة الوعى لدى معظم شبابنا (ذكورا وإناثا) ترسمها لهم هذه المواقع وتلك الفيديوهات السريعة اللاهثة التى لا عمق فيها ولا توثيق ولا مصداقية؟ ستقول: وإيه يعني.. أليست تلك هى صحافة المواطن التى تعبر عن نبض الناس فى الشارع؟.. فما الخطر فى ذلك؟ صدق أو لا تصدق.. إن ثمة مخاطر لا حدود لها مما وصلنا إليه.. ويمكن الحديث عن ثلاثة منها.. ونترك لك التوصل إلى المزيد إن أحببت. أبرز تلك المخاطر وأولها، شيوع آفة الاجتزاء فى طرح المعلومات والحقائق ( وهو أمر لو أنك فكرت قليلا فستجده شائعا فى هذه المقاطع المصورة).. وهو ما يؤدى بالتبعية إلى الفهم المتسرع القاصر المبتسر لما يدور حولنا، على غرار مسألة ( لا تقربوا الصلاة) وننسى إكمال الآية الكريمة (وأنتم سكاري)!. وعلى سبيل المثال، لو أنك شاهدت مقطع فيديو لأحد فصولنا وقد ساده الهرج والمرج بين الطلاب، أو بينهم وبين معلمهم، فإن الفيديو لا يقول لك أصل الحكاية بالضبط، ولا أسباب الشجار، ولا الإجراءات التى اتخذتها إدارة المدرسة.. ويتم القفز على كل تلك التفاصيل وصولا إلى استنتاج ظالم جائر بأن مدارس مصر كلها تعانى نفس المشهد، ومن ثم فإن كل مدارسنا منهارة خربانة ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. فهل هذا صحيح؟ كيف ومعظم مدارسنا مازالت والحمد لله بخير، وينتظم بها التلاميذ فى طوابير، يستمعون خلالها إلى النشيد الوطني.. ويرددون تحية العلم.. ثم تبدأ العملية التعليمية فيقرأون ويكتبون ويمتحنون من خلال مدرسين (طافحين الكوتة) سعيا لتعليم هذا الجرمأ اللانهائى العدد بكل مدن مصر وقراها ومحافظاتها.. وإلا لكنت سترى كل تلاميذ البلد (أكثر من 20 مليون صبى وصبية) وقد قفزوا فوق الأسوار فأصبحوا هائمين على وجوههم فى الشوارع والطرقات.. فهل هذا فعلا ما نراه فى كل صباح؟ إن لعبة الاجتزاء هذه تجعل العقل الجمعى للمصريين يستكين إلى الكسل، فيخلص إلى معلومات وهمية غير حقيقية.. وبعد ذلك يتحول الأمر إلى ما يشبه المأساة فى بنية هذا العقل.. حيث ستعتاد هذه العقول اللهوجة والتسرع والغرق فى الشطحات وعدم البحث عن الأسباب المنطقية والنتائج.. وفى نهاية المطاف نصاب كلنا بتشوش الرؤية وهشاشة المنطق والتوهان، فنكون فريسة لغيبيات ما أنزل الله بها من سلطان. هذا هو الخطر الأول، فأما الثانى فهو أن تعميم آفة الاجتزاء سيؤدى بالضرورة إلى قصر النظر.. وأن يصبح الاجتزاء صفة غالبة على الناس فى بر مصر.. مما سيعود باليأس والإحباط والعدمية على أبناء الأمة ( أليس هذا ما نشعر به جميعا الآن؟).. إنك ساعتئذ ستركن إلى خداع النفس بأن كل شيء خلاص قد انتهي.. فتتحول إلى شخص مشلول الإرادة يمكن السيطرة عليه بسهولة .. إذ إنه طالما أنك اقتنعت بأن كل شيء صار خرابا فلماذا سترهق نفسك بالسعى الجاد لتحسين شروط حياتك؟ وآنئذ تكون ( والعياذ بالله) النهاية.. والسبب مجرد مقطع فيديو غير موثق على اليو تيوب! الخطر الثالث، وهو الأشد وطأة وتدميرا، هو أن الاجتزاء، ثم تعميم الاجتزاء، سيجعلنا يوما بعد يوم نفقد الثقة، ليس فقط فى أنفسنا وفى قدرتنا على الحراك، وإنما فقدان الثقة فى الوطن الذى نعيش فيه (ألا يشعر الكثيرون الآن بعدم الانتماء؟. وإن سألت شابا عن أقصى أمانيه فسيجيبك بأن غاية المراد من رب العباد هو الهروب من البلد فوق ظهر مركب.. حتى وإن كان الثمن حياته نفسها فى بطن أسماك البحر الجائعة؟). ألست تسمع القوم عندنا يرددون كل ليلة وكل يوم ( يا عمّ ما فيش فايدة)؟.. ومادام ما فيش فايدة فلماذا إذن أرهق نفسى بالعمل أو بذل الجهد أو السعى لتغيير شروط حياتى إلى الأفضل؟ .. وطبعا سيتجاوز الأمر مجرد التشاؤم الفردى ليتحول إلى تشاؤم جماعي.. وتكون النتيجة المترتبة على فقدان الأمل ارتفاع نسب الجريمة والطلاق والبطالة واستهداف الأطفال.. وما خفى كان أعظم.. والسبب مجرد مقطع فيديو بثه صبية معدومو الخبرة بالحياة وكل ما يملكونه حتة موبايل مزود بكاميرا. والمأساة الأعظم هى أن برامج التوك شو عندنا باتت تعتمد على تلك المقاطع المبتسرة مع أن المفروض هو العكس. سل إن شئت أى شاب عن رأيه فى البلد ولسوف تجد الإجابة السريعة المبتسرة: يا باشا.. بلد إيه وبتاع إيه.. قل يا باسط!.. وهكذا نجحت عدة فيديوهات تافهة صنعها هواة عابثون فى رسم صورة بائسة للواقع مع أنك لو فكرت قليلا لوجدت الكثير من المجتمعات - حتى المتقدمة منها - تعانى ما نعانيه وأكثر.. لكنهم هناك أكثر حصافة منا فلا يتركون عقولهم لعبة فى أيدى الصبية المبهورين بألاعيب الموبايلات. نعم.. مصر لديها مشكلات لا أول لها ولا آخر.. لكن من قال إننا نعيش على هذه الأرض فى جنة رضوان؟.. انظر حولك وفكر قليلا بصدق فى أحوالك أنت شخصيا ثم اسأل نفسك: هل فعلا أنا، ومعى بقية أفراد أسرتي، بهذا السوء الذى تروج له المواقع؟ الأمر متروك لك فاحكم بما شئت لكن بشرط أن لا تترك أحدا مهما يكن يضحك عليك أو يتولى زمام عقلك. والخلاصة أن مصر العملاقة، بتاريخها ومؤسساتها وشعبها الضارب بجذوره فى أعماق التاريخ، لا يمكن اختزالها فى مقطع فيديو.. حرام!. لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات