بعيدًا عن الدراسات المُوَثَّقَة، وتقارير المراكز البحثية، وحتى شهادات العيان، وسعْيًا للاقتراب من واقع الحالة النفسية لذلك الذى قَرَّر الخروج من وطنه وأهله نحو ما يرى أنه (جهادٌ فى سبيل الله)، يَسرُد تاريخ التجربة الشخصية لكاتب هذه الأسطر ما كان فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حين كان وعى المصرى متروكًا نهبًا لفعل جراثيم التطرف الإخوانية وما نمى عنها، كانت جلسات سمر (نشر الدعوة) تجوب الأحياء والنجوع والقري، وقتها كان التليفزيون الأرضى هو الأساس، وكان الفيديو هو وسيلة المشاهدة المملوكة لتنظيمات التطرف. كان كُلُ الذى يتطلبه النشاط التنظيمى لنشر جراثيمه هو فرد له دوائره الاجتماعية ويملك مكانا يمكنه أن يسع عددًا من الجمهور المستهدف، وشريط فيديو ليبدأ صياغة الوعى عبر ما يسميه التنظيم (إيقاظ الإيمان المخدر وحشد العاطفة للتفاعل مع قضايا المسلمين)، وهكذا وَجدَ كاتب هذه السطور نفسه فى مرحلة تفتح الوعى أمام قضايا الأمة الإسلامية كما يراها الإخوان، بداية بصراع الإسلام مع المسيحية عبر مناظرات (أحمد ديدات)، ومرورًا بالقضية الفسلطينية بعيون تنظيمية (حماس)، ثم انطلاقًا من المنصة الأفغانية نحو ساحات الجهاد العالمية، التى كان قوسها مفتوحًا على الدوام ليضم ساحة جديدة، يقول لنا قادة التنظيم المعنيين بتسويق الفكرة (ضع أصبعك على أى بقعة فى خريطة العالم ستجد مسلما يراق دمه أو يُنتهك عِرضه أو تسلب أرضه)، وهكذا يبدأ الوعى الغض الحلم الامتثال لعاطفة يؤجج التنظيم توجيهها دينيا ويترجمه صاحبه عبر (عَقّدْ نية الجهاد)، ودعاء فى الصلوات (اللهم جهادًا فى سبيلك ينصر المستضعفين فى فلسطين وأفغانستان وكشمير والبوسنة والهرسك والشيشان والصومال). كان هذا قبل أن يتحول الدعاء إلى (اللهم ائذن لدينك أن يحكم ولشرعك أن يسود)، وكان هذا قبل أن يشمل الدعاء المجاهدين فى العراقوسوريا واليمن وليبيا والسودان، ويظل القوس مفتوحًا ليضم ساحات جهادٍ جديدة تتوق للسفر إليها نفوسٌ خُدرتْ بفعل عقائد تنظيمية وغُيِّبَت عن واقعها بتأثير انسحاق الأمانى المثالية بأيادٍ تنظيمية وانهزامات الأحلام البريئة تحت أقدام الاستخدام. عايشتُ عمرًا الحلُم الجهادي، وعاشرتُ من سافروا أو عادوا من ساحات الجهاد لأغراضٍ متعددة، وانقطعت أخبار آخرين بعد سفرهم وساد الصمت التنظيمى عن سِيَرِهِمْ، وكان السفر هو الحلم الذى يُداعب أمانينا حيث ساح الفداء وحياة الجهاد والرباط وراية الإسلام ترفرف تدريجيًا لتَشقَ سفينة التمكين بحر الدنيا غير عابئة بعاتى الموجات، هكذا كانت الصورة المرسومة أعلى نتيجة التقويم الهجرى الذى يوزعه قسم نشر الدعوة على الأعضاء بعدما يطبعه مركز منْ أصبح فى 2012 وزيرًا لإعلام مصر!. تظل الأسطر السابقة مهمة جدًا فى محاولة فهم أولى لنفسية وعقلية من تقول الإحصائيات أن عددهم ثلاثون ألف مقاتل على أراضى سورياوالعراق، كَوُن أرضية الوعى السابقة هى التى أعادت صياغة شخصياتهم، وأرضية التنظيم الأممى هى التى دعمت قرارهم بالنفير إلى ساح الجهاد وحولته إلى واقع، غير أن واقِعًا عالميًا جديدًا رفع شعار (الفوضى الخلاقة)، هَيَّأ ساحات الجهاد العراقية والسورية لتكون حواضن تطور لكتائب الجهاد المزعوم، لتَتَغَيَّر معها مكونات المقاتلين العقدية والنفسية وكذا لتبعياتهم فرادى أو مجموعات، فلم تعد البيعة العامة هى الأساس، وباتَ السعى للشهادة مساويًا لقرار انتحار إرادى بعدما تداعت كلُ الأحلام فى وطن التمكين الفاضل، وأصبح الانتماء الجماعى لتنظيم أو أمير أو مرشد محل شك استهدفه صُنُاعُ وعى المقاتلين حتى لا تتحمل (جماعة تنظيم أجهزة) تَبَعِيَّةْ فعاليات الخراب والتوحش الذى يقترفه المقاتلون، وهكذا تُطَوِّر قيادة تنظيمات التطرف فى القرن الحادى والعشرين ما نص عليه (حسن البنا) فى القرن العشرين حال فَضْحِ المقاتل حال فَضْحِ المقاتل (ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين)!. خلال سنوات ثمان استهداف النظام العالمى الفوضى فى العراقوسوريا، كونها محاضن انتقالية لإنتاج أجيال جديدة من (جُنّدْ الفزع) غير منتمين لأى شيء، وغير المؤمنين بأى قيمة، وغير القادرين على التعايش مع أى مجتمع إنساني، مُجرد (إنسان آلى) تم برمجته ليكون وحيدًا ومتوحدًا حول ذاتٍ مهزومة وعقيدة ذاتية دعمتها برامج إليكترونية التوجيه، ومتعايشًا مع سلاحه الذى تَدَرَّب على أن يصنعه مُدَمِرًا ويطورهُ ليكون غيرَ متوقَعا أو يُوجِدَهُ من لا شىء، وهكذا بات لدينا تِعْدَاد جديد غامض لأجيال مستقبلية من نساء حُمِّلْنَّ ببذُور الفزع وأنجبن عبر تعاشق جيناته أطفالًا مُشَوَّهى الفطرة والنظرة للحياة، بدأوا لهوهم البريء باستخدام الأسلحة. هذا الواقع الإنسانى الجديد الذى تشكل عبر عقود، بالتأكيد يفرضُ جهوزية إنسانية للإنقاذ، وليس فقط للمواجهة، فواقع التَشَوُّه الذى طال نفوس (جند الفَزَع) هيأهم ليكفروا أَوّلاً بتنظيماتهم وقياداتها، ليتحول كل جنديِّ إلى تنظيمٍ بذاته يوِجِه سلاحَه إلى مجتمعاتٍ كَفَرَ بها إدارة ومكونات. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى