انطلقنا فى المقال الماضى من توافق على أن هذه السلسلة تسعى لتكون (دليل تنبيه) معْنِيٌّ به (كل ولى أمر فى هذا الوطن)، لرسم ملامح عامة لآليات صناعة (ذئاب الإرهاب)، أولئك الذين تتم تربيتهم فى حواضن أولية سعياً لإطلاقهم فى أوطاننا لاستهداف ثباتها، ووحدة صفها ومن ثم إسقاطها، وحتى يترسخ فى الوعى ما تم الانطلاق منه فإن قطعان الذئاب، امتداد لمشروع قديم كان حاضنته الأولى (تنظيم الإخوان) والذى بدأ مع نهايات (عصر الاحتلال التقليدى لأوطاننا العربية والإسلامية)، وعقيدته الأساسية وضعها (إمام كافة الكيانات الإرهابية حسن البنا) ولخصها شعاره المتمثل فى سيفين متقاطعين وتحتهما كلمة (وأعدوا)، وكل من يقع فى شراك هذا التنظيم يتلقى منذ اللحظة الأولى أسساً تطالبه بأن (يُعِدَ) للجهاد باعتباره سبيل (التمكين)، وأن يستعد للحظة تحقيق (أسمى أمانيه) والتى هى (الموت). وتكون البداية عبر تجنيد يعرف ب (الدعوة الفردية). وحتى لا يصير الحديث عن خطر (الذئاب المنفردة) للإرهاب، مجرد رصد لمراحل تطورها، وحيث إن المقصد هو تجبيه (الوطن) بكامل مكوناته صوب مقاومة (الفزع) المستهدف إشاعته، فإن هذه الأسطر تستهدف تحديد الأسباب المهيئة للبيئة والمؤهلة لنمو حواضن (الذئاب المنفردة للإرهاب). بهدف أساسى هو إسقاط وهم (العوز الاقتصادي) عن تنامى الظاهرة، فأنَّا لكائن حى أن يكون المال هو دافعه ليفجر نفسه. لكن ذلك لا ينفى أن (العامل الاقتصادي) يمثل أحد أسباب صناعة بيئة التطرف، غير أنه يأتى بحسب رأى الكاتب فى ذيل قائمة مكونة من عشر نقاط أو لنسمها (أبواب) فى صرح الوطن يعبر إلينا منها (ذئاب الإرهاب). وأولها هو باب (الدين) المفتوح بفعل تراكمات عقود من الجمود طالت عملية الاجتهاد المرتبطة بإنتاج (فقه الواقع)، وهو ما أنتج ضبابية غلفت المشهد الدينى الوسطي، والذى يحمل لواءه (الأزهر)، ولئن كان واقع المؤسسة غير منفصل فى سلبياته عن واقع كل مؤسسات الدولة إلا إنه يمثل الثغرة الأهم التى تنفذ عبرها جراثيم التطرف والإرهاب. تراجع دور (الأزهر) مكتفياً بلعب دور (حارس) التراث، وناقل (النصوص) لا (المطوِر المجتهد)، وموظف (الدعوة) لا صاحب (الرسالة)، ، فاستولت على تركته تنظيمات (الإرهاب) على رأسها (الإخوان)، وراحت تعبث بالعقول داخلياً فى (المعاهد الكليات المساجد)، وخارجياً فى المراكز الإسلامية ومحافل الدعوة المختلفة. حتى باتت جراثيم التطرف تنتشر بدعم تنظيمى وبرعاية رسمية عبر زى أزهرى صرف. أما ثانى الأبواب، فهو باب (شيوع ثقافة الخطاب الانتحاري)، والذى يتلون بألوان متعددة (التجديد التنوير العلمانية)، وغيرها من ألوان ادعاء التحرر، عبر بث (البيزنس الإعلامى) لخطاب متطرف فى الاتجاه العكسي، فيبرر الهجوم على الدين شيوع التطرف بالدين، كما يُسَوِغ تسفيه المحجبة تكفير غير المحجبة، ويؤدى إقحام العامة فى جدل النخبة، إلى تعكير صفو الوعى بما يسمح بصيد المتطرفين فى (ماء عكر) عنوانه (الذود عن الإسلام). واختصاراً تحولت عقول الوطن المفكرة، إلى فرق تتصارع متطرفة برؤاها تسويقاً، لا إلى عقول تتواصل بناءً، فانفتح باب التفكير على خطوط إنتاج (التكفير) المؤهلة للتفجير. وثالث الأبواب التى يلج منها التطرف هو باب (المسئولية)، والذى تجردنا فيه من عقيدة البناء النامية من (مشروع بناء وطنى شامل)، فتحول كل مسئول إلى (موظف) ولا يستثنى من ذلك (الأب/الأم)، وصارت كل المهن الرسالية (الشيخ والمدرس والإخصائى الاجتماعى والطبيب ..إلخ). خاضعة لمعايير التوظف الإداري، وهو ما خلف فراغاً استثمر ملئه أصحاب العقائد الموجهة تطرفاً. والباب الرابع الذى يعبره التطرف إلى واقعنا هو (باب الوعى) الذى ساده وعى الظواهر لا وعى الحقائق، فشاعت فوضى الإعلام المحكوم بمعايير تسويقية بغض النظر عن نتائجه المشتتة والمفتتة والمورطة، وتنامت ثقافات التسطيح عبر فنون ركيكة وثقافة نخبوية متقوقعة، ليصبح الواقع نهباً لإعلام تطرف ممنهج موجه، وثقافة إرهاب محسوبة الخطو ومدعومة التسويق تنتشر فى فضاءات العقول دونما فنون تحصين أو ثقافة ممانعة. والباب الخامس من أبواب ولوج التطرف إلينا، هو باب (السمات المجتمعية المصرية الأصيلة)، والتى تراجعت تدريجياً لصالح سمات مجلوبة وتنظيمية، ومع اختفاء (الكبير)، عائلياً ومهنياً وحرفياً، بدأ (الكبير) التنظيمى يظهر جامعاً وهادياً وموجهاً ومصلحاً حتى داخل الأسرة الواحدة-، صار (رمزاً) مؤثراً، وقائداً (موجهاً)، ولمواطِن العلل فى المجتمع (مستثمراً) لصالح مشروعه وأجندته، وتشتت جهود (التكافل المجتمعي) القادر على جبر الخواطر وإغاثة الملهوف. بينما توحدت مشاريع (تكافل) التنظيمات الإرهابية لتصبح صاحبة اليد العليا إغاثياً، وبالتالى بات مال الزكاوات والصدقات فى يدها مدداً يعين المعوزين ويجندهم. وسادس الأبواب عنوانه (النشاط)، ويفتح على ساحات الأنشطة فى المدارس والجامعات ومراكز الشباب وقصور الثقافة، وجميعها شغلها (موظف) دونما رؤية حاكمة أو خطط فاعلة أو همة منفذة، فباتت طاقات بإدارتها المعطلة نهباً لراصدى التنظيمات المتطرفة، وتحولت صناعة وعى فتيانها وشبابها من علانية الدولة إلى جحور تنظيمات التطرف، حتى أصبحت محاضن للهادمين ومحطات تولد الانتحاريين. ثم يأتى سابع الأبواب، حيث تتقاطع مسئولية الدولة مع الأحزاب ليصبح عنوانه (عدم وجود تنظيمات سياسية فاعلة)، فالأحزاب منذ عقود ارتضت مع الأنظمة بحبسها داخل المقرات، وقبلت الاكتفاء بدور الكومبارس فى مسلسل واقع سياسي، الأصل أن يكون كل من فيه فاعلا، وبناء عليه صار كل صاحب طاقة فى المجتمع مخير بين بطالة حزبية مقنعة، أو فعالية تنظيمية ممنهجة موجهة. أما الباب الثامن الذى يقتحمنا عبره التطرف فهو ذلك المفتوح على دول وأجهزة أمنية، وهو باب قديم قِدَمْ علاقة حسن البنا بالانجليز والأمريكان، وقِدَمْ مشاريع الاستعمار الخارجية، وطموحات السيطرة العالمية، الأمر الذى أحال (التطرف) إلى أداة فى يد أجهزة أمنية تعتبره مسوغ التدخل المباشر وغير المباشر فى شئون أوطاننا، لاستلاب الخيرات وتطويق القدرات وفرض الإملاءات. وتاسع الأبواب عنوانه (الأوضاع الاقتصادية)، ويجب تصنيفه فى هذه المرتبة حيث إنه مجرد باب مساعد فى صناعة التطرف، ولا ينبغى تسويقه فى مرتبة قبل ذلك حتى لا يصبح الوزن النسبى له أكبر من حجمه فالتطرف عقيدة ومنهج لا مجرد دعم مالي. وآخر الأبواب يحمل لافتة (غياب برامج علاج المصابين بفيرس التطرف)، حيث اعتبر العلاج الوحيد مرهوناً بالأمن وأجهزته، الأمر الذى أحال العلاج إلى ظواهر المرض لا أصله، وحول واقع (السجون) إلى محاضن تجنيد وتلقين وتدريب، ولا مناص عن إعادة النظر فى استراتيجية التعامل مع هذا الباب، عبر تفعيل رسمى ومجتمعى شامل يتجاوز علل الأبواب السابقة. عبر هكذا تحديد لثغرات البيئة التى تنفذ منها جراثيم التطرف يمكن الانطلاق صوب صياغة مراحل اصطياد (ذئاب الإرهاب) وصولاً إلى إطلاقها، وللحديث بقية إن شاء الله. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى;