لأول مرة فى العصر الحديث يشهد العالم زيارة مشتركة لأكبر مرجعيتين دينيتين فى العالمين الإسلامى والمسيحى لدولة عربية وهو ما سمى بلقاء الاخوة الإنسانية وفقا لشعار الزيارة التاريخية المشتركة لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى الإمارات.(3-5 فبراير الحالى) وتزامنت الزيارة مع تسمية الإمارات لسنة 2019 بعام التسامح، لتجسد واحدة من أعرق القيم الإسلامية والمسيحية عبر لقاء الأخوة الإنسانية الذى يجمع القطبين الدينيين الكبيرين. وأكدت هذه الزيارة الوجه الحضارى لدولة الامارات كعاصمةً عالميةً للتسامح والأخوة الإنسانية حيث يتعاش على أرضها اكثر من 200 جنسية فى سلام ووئام بما يعزز قيم التعددية وثقافة التعايش السلمى وقبول الآخر، ويوجد بها حالياً 76 كنيسة ودار عبادة للديانات والعقائد المختلفة بعضها تبرعت لها الدولة بأراضٍ لإقامتها، ومنها الكنيسة القبطية المصرية ويجاورها مسجد محمد بن زايد الذى تغير اسمه مؤخرا ليصبح مسجد مريم أم عيسى، وفى الفجيرة إحدى إمارت الدولة- قام رجل أعمال مسيحى ببناء مسجد بنفس الاسم العام الماضى ليتكامل هذا الشعور المشترك بالاخوة الإنسانية. ولا شك ان هذا اللقاء إحدى المحطات المهمة لتعزيز حوار الأديان والقيم المشتركة بينها مثل التسامح والتعايش السلمى بين كل البشر من جميع الديانات والعقائد. وتتعاظم اليوم أهمية التلاقى والحوار بين قادة العمل الدينى فى ظل تفشى الصراعات الدينية والعرقية والطائفية فى كثير من أنحاء العالم وبخاصة فى منطقتنا العربية، لأن مصائر الشعوب واحدة، ولن يتحقق السلام فعليا فى العالم دون تفاهم بين الأديان وتسامح بين البشر وأخوة بين الناس. هذه الدعوة للتلاقى والحوار والسلام بين الأديان والشعوب أصبحت ركيزة فى الخطاب الإسلامى المعتدل عبرت عنه العديد من المؤسسات والملتقيات الإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية ، ومنها الأزهر الشريف الذى أنشأ مركزًا للحوار بين الأديان، ومنتدى تعزيز السلم الذى دعا منذ تأسيسه فى أبو ظبى عام 2014، إلى البحث عن أولى عقول وتمييز لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، كما صدر عنه إعلان مراكش التاريخى عام 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنسانى فى الإسلام، ومؤتمر التواصل الحضارى الذى نظمته رابطة العالم الإسلامى، فى نيويورك العام الماضى. ينطلق هذا التركيز على خطاب الاعتدال والتسامح فى المجتمع، من منبعين، الأول أنه أصل من أصول الدين الحنيف، فالتسامح يشكل ثقافة متكاملة فى الإسلام، ووصفت الشريعة به، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة (رواه أحمد)، كما يعتبر الإسلام البشر جميعاً إخوة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)الحجرات: 13). ويسد الإسلام الباب أمام الحروب التى عرفها التاريخ بسبب الاختلاف العرقى والدينى، حيث يعترف للبشر بحقهم فى الاختلاف، و للآخرين بحقهم فى ممارسة دينهم، فأغلق الباب أمام الحروب الدينية، لأنه حدد أسباب الحرب بأنها الاعتداء وليس الكفر. وعلى عكس التطرف والتعصب الأعمى الذى طفا على سطح بعض مجتمعاتنا الإسلامية الحديثة، ظل التسامح ثابتا فى تاريخ المسلمين منذ عقود طويلة، وعلى سبيل المثال، نقل المؤرخون عن خلف بن المثنى وصفه الحلقات العلمية التى كانت تنعقد فى العهد العباسى، قائلا: شهدنا عشرةً فى البصرة يجتمعون فى مجلس لا يعرَف مِثلُهم فى الدنيا عِلماً ونباهة؛ هم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميرى الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجاشع (وهو خارجى صفري)، وبشار بن برد (وهو شعوبى خليع ماجن)، وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي)، وابن نظير المتكلم (وهو نصراني)، وعمر بن المؤيد (وهو مجوسى)، وابن سنان الحرانى الشاعر (وهو صابئي).. كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون فى جو من الود لا تكاد تعرف منه أن بينهم هذا الاختلاف الشديد فى دياناتهم ومذاهبهم!. والثانى ان هذه الدعوة للتسامح خير سلاح لمواجهة دعاوى الصدام والصراعات بين الحضارات التى أسفرت عن انتشار التطرف والكراهية، ليس فى مجتمعاتنا الشرقية فقط وإنما بالمجتمعات الغربية وهو ما يتجسد فى صعود اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية بأوروبا، التى أصبحت أكثر صخباً فى طرحها أفكارها الفاشية، وباتت تجاهر بالعداء للأجانب، وللإسلام وربطه بالإرهاب متجاهلة فى خطابها القيم الليبرالية وقيم حقوق الإنسان التى طالما بشر بها الغرب!. لمزيد من مقالات د. محمد يونس