فى الأسبوع الماضى تناولت السير الذاتية والمذكرات الشخصية وطرحت سؤالا عما إذا كان يمكن اعتبارها وثيقة تاريخية ومصدرا لاستقاء المعلومات حول مكان وزمان أحداث بعينها، رغم ما قد يشوب هذه الكتابات من شبهة مبالغة أو تحوير أو إخفاء حقائق لا يريد صاحبها إفشاءها لسبب ما وكيفية تناول الباحثين لها. وللوصول للإجابة اخترت نموذجين لقراءات فى مذكرات رواد المسرح فى أوائل القرن الماضي، فأشرت للدراسة القيمة التى قدمتها الناقدة المسرحية الكبيرة د. نهاد صليحة فى كتابها «المرأة بين الفن والعشق» وللورقة البحثية التى قدمتها د. سامية حبيب فى الدورة الحالية لمهرجان المسرح العربى بعنوان «قراءة فى مذكرات وذكريات الرائدات فى النصف الأول من القرن العشرين». وقبل أن استطرد فى استعراض ما كشفت عنه دراسة د. صليحة عن وضعية المرأة فى الحقل المسرحى فى أوائل القرن الماضى من خلال دراستها لمذكرات فاطمة سرى لابد أن أشير إلى رحلة البحث الصعبة التى قطعتها الباحثة للتثبت من صحة ما جاء فى المذكرات وإكمال قصة ليلى ابنة فاطمة سرى إلى أن عرفت أنها ماتت وتركت ولدا لا يعرف شيئا عما حدث!!. فعندما وصلت صليحة إلى بيت الأسرة العريقة،أُغلق الباب فى وجهها!! وبعد عناء وجدت ضالتها فى النحات الراحل عبد البديع عبد الحى الذى تبنت هدى شعراوى موهبته حين كان يعمل لديها طباخا، فاستكملت بقية خيوط القصة منه، لتكتشف أن فاطمة سرى لم تحضر زواج ابنتها، حيث ظلت العائلة تعتبر زواج محمد شعراوى من مطربة عارا. وتؤكد د. نهاد صليحة أن فاطمة سرى لم تكتب هذه المذكرات بنفسها ولكنها روت وقائعها لكاتب خفى فصاغها نصا، لأنها لم تنل حظا من التعليم يؤهلها لكتابة مثل هذا النص. وتستشهد صليحة بما كتبته مجلة المسرح عن فاطمة سرى بتاريخ 27 نوفمبر 1927 مرجحة أن يكون جزءاً من حملة إعلامية صاحبت عودتها إلى الغناء بعد انقطاع دام عامين، إذ توالت بعد ذلك حوارات المجلة معها. وترى د. نهاد صليحة أن المال لم يكن الدافع الحقيقى وراء استماتة فاطمة سرى فى إثبات بنوة ابنتها ليلى لمحمد شعراوى فى قضية استمرت خمس سنوات كاملة أمام المحاكم، فترجع الأمر لنظرة المجتمع الدونية للفن، والتى لم تسلم منها صاحبة المذكرات فاطمة سرى نفسها، فتجسدت حالة «شيزوفرينيا» مجتمعية تركت أثرها على نفس العاملين فى الفن وتعمقت بعد تجربة سفر فاطمة إلى الخارج وحيدة لتلد ابنتها بعيدا عن الوطن، وهو الموقف الذى كشف عنه توفيق الحكيم فى رسالة لأحد أصدقائه. وتعترف فاطمة سرى فى حوار أجرته معها مجلة روز اليوسف بأنها تود أن تظل ابنتها بعيدة عن المسرح والتخت، وإذا لم تستطع فعل ذلك فلا مفر من أن تكسب عيشها على التخت بين الأنوار والنظرات والأقاويل، حتى إن الصحفى كاتب الحوار اختار له عنوان: حفيدة شعراوى باشا تشتغل مطربة، وكأنه يعلن عن فضيحة!!. وهكذا ومن خلال قراءة واعية لمذكرات فاطمة سرى فى سياقها الاجتماعى والثقافى ومتابعة أحاديث مطربة المسرح للمجلات الفنية والبحث بأسلوب المحقق الصحفى تحولت السطور المنسية لوثيقة تؤرخ لوضعية المسرح المصرى والعاملين فيه خاصة من صاحبات التاء المربوطة، بل وأن تطرح مزيدا من التساؤلات حول رؤية المجتمع للفن فى بدايات القرن الماضى واعتباره فعلا يستوجب الاعتذار ويقلل من شأن المرأة ويستوجب العقاب الذى لحق بفاطمة سرى عندما اضطرت للتخلى عن ابنتها، وعن سبب ندرة عدد الكاتبات المسرحيات رغم أن زينب فواز قدمت فى أوائل القرن العشرين مسرحية شعرية بعنوان «الهوى والوفاء» وأن عائشة التيمورية كتبت للمسرح نصوصا لكنها اختفت مع الأسف، وتوظيف المرأة فى أدوار ثانوية، يبدو أنها كانت سببا لاختيار منيرة المهدية ومن بعدها فاطمة رشدى لأداء أدوار الرجال ومجالا لقراءات أخرى لمذكرات رائدات الفن المصرى. .. وللحديث بقية لمزيد من مقالات سناء صليحة