بدأت الحكاية فى عهد الدكتور مؤمن، رئيس أقسام الباطنة أو رئيس جمهورية الباطنة كما كان يُفضّل أن يُنادى، وكنا مجرد كائنات بيضاء تجرى فى الطرقات فى فترة تدريب الامتياز بين وحدات الكلى والأشعة والمعامل والعمليات وسكن الأطباء الأقدم منا، وكانت مفخرة الدكتور مؤمن هى وحدة الكلى التى تولى منصبه بعد افتتاحها ولكنه هو الذى دشّن الانفتاح الذى وسّع الوحدة وأتم التعاقد مع بعض أطباء خارجيين لتشغيل الماكينات الإضافية فاشتهر بها كأنه منشئها الأصلى، لم نكن نعلم عنها شيئًا إلا بقدر ما يتيسر قراءته من تذاكر مرضى الغسيل فى الدقائق القليلة أثناء توصيلهم من الرعاية أو الباطنة إلى الوحدة وإعادتهم منها، كانت البداية عندما طلب منى الفيلسوف توصيل مريضة بدلًا منه إلى الوحدة، لم يكن يمكننى أن أرفض طلبه لأننى كنت ألتصق به طوال الفترة الأولى للتدريب ليشرح لى ما لا أعرف (وما لا أعرف كان يفوق الحصر فى الحقيقة) ولكنه لم يضِق بى فقد كان يحب الشرح العلمى أكثر من أساتذة الكلية أنفسهم، يحلل الجزئيات ويحدد العلاقات والكيفيات ويُظهر النتائج وهو متلذذ بالشرح منسجم فيه كأنه يحكى قصة عاشقين فسُمّى بالفيلسوف، كان فقط يخاف كثيرًا من مواجهة المريض نفسه فى الواقع المادى، توقعت أن طلبه هذا يريد به تفادى مشكلة ستحدث ولكنى لم أرفض، سألته فقط بلهجة عادية لماذا لا يريد مرافقة المريضة، فقال سريعًا بصوت منطفئ غير ذلك الذى اعتدته: «هتموت فى الغسيل»، شددت قامتى وابتسمت مستخفًا بالنبوءة ووجدتها فرصة مناسبة كى أتخذ مرة من نِفسى موقف الأستاذ الوقور وأسدِل على وجهى سمت العالِم الذى لا يؤثر عليه العرّافون والمتنبئون بالغيب ولا تهمّه إلا الأسباب المباشرة والأدلة القاطعة، وفى اللحظة التى ماتت فيها المريضة بالفعل أمكننى بالكاد أن أجد أن السبب المباشر هو انخفاض الضغط قبل الغسيل، على الفور تذكرت الفيلسوف الذى لا بد أنه كان يعرف السبب المباشر ووجد النتيجة المترتبة عليه بديهية فنفذت التوصية التى نقلها لى قبلا عن خبرة نائب قديم فى مواجهة مواقف مثل هذا الموقف، تلاشت فورًا شخصية الأستاذ الوقور وأصبحت فى لحظة نشّالًا على وشك الافتضاح، بخفّة لا تُحتمل سحبت إذن الدخول من ملف المريضة ودسسته فى جيبى وطِرت خارجًا من الوحدة لأؤمّن نفسى وأؤمّن النائب الذى سيضحّى به الدكتور مؤمن فى ساعة الجد، بعدها حزنت قليلًا ولكن أعجبنى كونى أتقبل المهمّات التى يتهرب منها غيرى حتى أصبحت أسعى إليها من وقت لآخر، ولا أنكر رغبة الطفل فى اللعب التى تجعله أحيانًا يُفكك ألعابه كى يرى تركيبها من الداخل ويُدمّرها كى يشاهد تحولات مصائرها باستمتاع، والامتياز أطفال المهنة والأطفال أحباب الله ولا بد لهم من الغلط، وبتكرار العملية كان ينتفخ جيبى بإذون الدخول المتراكمة فيه لحالات ماتت على الماكينة، صرت أحفظ تذكاراتها، أقسّمها إلى مجموعات، مجموعة عجائز كانت الماكينة تمتص دماءهم المرهقة فتزهق أرواحهم قبل أن ترد إليهم دمًا نظيفًا، مجموعة أخرى اضطربت شحنات دمها فى الغسيل فاختلّت نبضات قلوبهم حتى صمت إيقاعها لأن الفحوصات الروتينية لم تُجر قبله لقلة الوقت أو عدم توفر الإمكانيات، ثالثة نقلت إليهم الماكينة عدوى مميتة رفض الدكتور مؤمن بحدّة ومساعده ثم خليفته من بعده الاعتراف بأن الماكينة هى مصدرها بحدّة مماثلة وكأن القائل بهذا يخوض فى أعراض حريمهم، وعاصرت نشأة المملكة الصغيرة فى الوحدة أثناء فترة التدريب ثم بعد انتهائها واستلامى العمل كمُقيم، فمع تقدم الزمن أصبحنا جميعًا مضطرين لمداهنة أطباء وتمريض الكلى وحتى عمال الوحدة، نقول للممرضة «يا ريّسة» والممرض «يا وزير» ونمازحهم مزاحًا سمجًا عندما يسألوننا عن مريض نحضره إلى الماكينة على كرسى متحرك «عايزين له ايه فى يومكم دا؟» فنبتسم ابتسامات لا معنى لها ونقول:»هندخله للوحش» فيضحك تمريض الوحدة الذين صاروا أصحاب أعلى كعب فى المستشفى ولم تنقطع عنهم يومًا مكافآتهم المتناثرة سواء من صندوق المستشفى أو ميزانيتها التى أثقلتها مصروفات الوحدة المتربعة على رأس قائمة الأولويات منذ افتتاحها، وبينما كنت أجمع متعلقاتى وأكوام الأوراق والتذكارات من دولابى فى يوم إخلاء طرفى من المستشفى عقب انتهاء فترة عملى كمُقيم؛ أدركت أننى أخيرًا عرفت الماكينة بما يكفى، استغرق الأمر سنوات عديدة وجثثًا أكثر عددًا لكى أفهم فكرة عملها كما يفترض، وعملها كما تقوم به فى الواقع، ولكن ما أن فهمت حتى حان وقت رحيلى، ولم أجد من أقص عليه قصتها، وصار على أحد لا أعرفه أن يبدأ الأمر كله من جديد.