فى محاولة أخيرة من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لتصحيح المسار بعد 9 أسابيع من احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، التى ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادى والسياسى فى البلاد بعد أن وصفت بالأعنف خلال السنوات الأخيرة، بدأت الأسبوع الماضى فى فرنسا جلسات الحوار الوطنى الكبير، وهو الحوار الذى اقترحه الرئيس وحكومته باعتباره الطريق الوحيد والأمثل لتحويل الغضب إلى وسيلة للبحث عن حلول للوضع القائم وهو الشعار الذى جعله ماكرون عنوانا لهذا الحوار الموسع، والذى سيسمح طبقا لرؤيته ببناء عقد جديد للدولة الفرنسية. وفى سبيل الحشد لهذه الفكرة واضفاء نوع من الزخم عليها شدد ماكرون على أنه منفتح على كل الأفكار والاقتراحات التى ستطرح، فلا توجد لديه موضوعات ممنوعة أو محظورة رغم يقينه بأن التوافق التام لن يحدث، وهو أمر طبيعى باعتبار ذلك جوهر الديموقراطية، ولكنه سيظهر فى النهاية أن الحكومة والشعب لا يخشيان الحوار وتبادل وجهات النظر. معلنا بدء الحوار من نورماندى التى توجه إليها بنفسه رغبة منه فى إظهار أن الحوار سيشمل جميع أنحاء البلاد وسيتسع للجميع للمحتجين والمهمشين والمنتمين للطبقة المتوسطة والكادحين. وفى سبيل ذلك حدد اطارا عاما للحوار وطرح أربعة محاور رئيسية هى القدرة الشرائية والضرائب والديموقراطية والبيئة ، مؤكدا أن الاقتراحات التى ستقدم ستسهم بلاشك فى التأثير على السياسات الحكومية المقبلة وستعيد هيكلة عمل الحكومة والبرلمان وستؤثر كذلك على مواقف فرنسا على الصعيدين الأوروبى والدولي. وهو ما اعتبر دلالة على أن الحكومة استوعبت أن مطالب المتظاهرين تعدت الاحتجاج على الضرائب وتخطتها إلى الرغبة فى إحداث تغييرات سياسية حقيقية فى المجتمع، رغم تلميحاته بأنه لن يتراجع عن الإصلاحات التى شملها برنامجه الانتخابى الذى فاز على أساسه فى انتخابات الرئاسة ولا عن الخطوات التى اتخذها لتشجيع الاستثمار، الأمر الذى دفع البعض للتشكيك فى نواياه من هذا الحوار. والواقع أنه منذ أن طرح ماكرون فكرة الحوار الوطنى وهناك حالة من الجدل بين مؤيد ومعارض له، خاصة فى ظل العثرات التى واجهها وأبرزها استقالة شانتال جوانو الوزيرة السابقة والمكلفة بتنظيم الحوار على خلفية الانتقادات التى وجهت لها بسبب الراتب المرتفع المخصص لها وهو ما أربك الحكومة ودفع رئيس الوزراء إدوارد فيليب للقول إن المهم هو الحوار وليس الأشخاص، كما أن آليات تنفيذ الحوار نفسه ليست سهلة وتستلزم إنشاء لجان لجمع الاقتراحات فى طول البلاد وعرضها وصولا للعمق الفرنسي، وهو ما دفع الحكومة لتخصيص مبلغ 4 ملايين يورو لإتمامه، فضلا عن أن طول الفترة المخصصة له وكونه سابقة فى فرنسا يجعل هناك نوعاً من الضبابية حوله. وهو أمر واجهته الحكومة بالتأكيد المستمر على أن الرئيس سيلتزم بمخرجات هذا الحوار وسيقوم بإجراء تغييرات حقيقية تعكس رغبات المواطنين الذين عانوا من مشكلات تسببت فى هذا الغضب العارم، مستندين فى ذلك للآليات الموضوعة لمثل هذا الحوار والمتمثلة فى فتح مقرات البلديات أمام المواطنين للنقاش حول المحاور المعلنة على أن يتم ايصال المقترحات للحكومة من خلال المسئولين الذين ستوكل إليهم مهمة حضور هذه الجلسات المقرر أن تنتهى فى منتصف مارس القادم. هذه الحالة من الجدل تبدو مبررة من وجهة نظر البعض بسبب حالة الانقسام التى يشهدها المجتمع الفرنسى منذ بدء الاحتجاجات فى نوفمبر الماضى بين المواطنين والنخبة، وبعد أن تم استبدال الصراع التقليدى بين اليمين واليسار إلى انقسام واضح بين القمة والقاع، وبالنسبة لهؤلاء فإن الحوار مجرد محاولة لترحيل المشكلات القائمة بدلا من حلها. والواقع أن التشكيك وتوجيه الانتقادات لمثل هذه الخطوة لم يتوقف منذ إعلانهاسواء من المتظاهرين أو الأحزاب على حد سواء، ولعل من أهم الانتقادات الموجهة من قبل السترات الصفراء التى أعلن عدد من رموزها أنهم سيقاطعون المناقشات، لأنها لا تعدو كونها مجرد وسيلة للتحايل على المطالب المطروحة، إن الموضوعات تبدو غير محددة وهو ما يعزز شعورهم بأن الجهد المبذول لمناقشة مشكلات اصحاب الدخول المنخفضة يعد غير كاف من قبل رئيس اعتبروه يمثل الأغنياء فقط، وأن الحوار كان يمكن أن يكون هادفا لولا أن الرئيس قال إن هناك نقاطا لا يمكن التراجع عنها ما يجعله فى النهاية بلا جدوي، وهو رأى يسود لدى قطاع واسع من المحللين الذين اعتبروا ماكرون تكنوقراط من الطراز الرفيع تبدو منتديات الأثرياء المكان المناسب له ولكنه لا يشعر بمشاكل الفقراء. هذا التشكيك من قبل المتظاهرين الذين قالوا إن الحوار سيكون فى الشارع وليس فى القاعات وعبر الانترنت فى إشارة للمنصة الإلكترونية التى يمكن للمواطنين المشاركة فى الحوار من خلالها، يقابله موقف مماثل من قبل الأحزاب السياسية. ففى الوقت الذى رحبت فيه بعض الأحزاب بالحوار مع بعض التحفظات، فقد عارضته الأحزاب الكبرى من أقصى اليمين لأقصى اليسار جملة وتفصيلا، واعتبرته مراوغة وسحابة من الدخان لحجب الحقائق وتضليل الشعب، وهو رأى اتفق عليه بعض المحللين الذين اعتبروا هذه الخطوة محاولة من ماكرون لتهدئة المتظاهرين دون تقديم وعود محددة للاستجابة إلى مطالبهم فى الإصلاح، وذهب هؤلاء للتشكيك فى أنه سيسفر عن إجراء أى تغييرات فى سياسته الداخلية. والمفارقة التى رصدها البعض أن ماكرون الذى سبق وتعهد بعد فوزه بالرئاسة بمواجهة التيارات الشعبوية يواجه حاليا تحديا واضحا من قبل هذه التيارات، وبعد أن اعتبر فوزه بمثابة علامة على وقف المد اليمينى و الشعبوي، ودليلا واضحا على التغيير الذى حدث فى الخريطة السياسية الفرنسية، كان من الأمور المثيرة لدهشة المراقبين البطء الذى شاب ردود أفعاله وهو يرى التهديد المتزايد لهذه التيارات الشعبوية، حتى بدا الأمر وكأنه لا يملك إستراتيجية واضحة للتحرك لاحتواء الأزمة. ومن ثم فإن السؤال الذى يطرح نفسه هل سيمكن هذا الحوار الرئيس ماكرون من إعادة أجندته الإصلاحية لمسارها مرة أخري؟ وهل سيكون لفشله تأثير كارثى على المدة المتبقية من رئاسته؟ خاصة أنه يعول عليه كثيرا ليس فقط لأنه يشكل منعطفا حاسما لمصيره ومصير حكومته، وإنما لأنه يشكل أيضا تحديا كبيرا لتجاوز الانتخابات الأوروبية القادمة المقرر إجراؤها فى مايو المقبل والتى تتحفز لها التيارات اليمينية والشعبوية على امتداد القارة، وقبل كل ذلك هل سيضع هذا الحوار حدا لاحتجاجات السترات الصفراء؟