يعدو إليها فى خريف بعيد وسط الطبيعة البكر الساحرة، فتتوغل فيه حقول الندى وغابات المطر الناعم. هناك مساقط للرءوس وأخرى للأفئدة، وهذه القرية صارت هى مسقط الفؤاد بالنسبة له. فى حضن السهول والفضاء الرحب مبسوط المدى والهواء الطلق، قرر الكاتب والفيلسوف الفرنسي-الجزائرى ألبير كامو أن يشترى بيته فى سبتمبر 1958، فى قرية «لورمارين» الواقعة جنوبفرنسا ذات الطابع الريفى. رجلاً بسيطاً رافضاً التكلّف. متّسقاً مع نفسه، يتعجب كامو أن «الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى يرفض أن يكون على طبيعته»! ................................. لقد اختار أن يعيش حياته فى جو الريف الهادئ، بعيدا عن باريس التى يسكنها أولئك المثقفون الذين قللوا إلى حد كبير من مؤلف «الغريب»، وأطلقوا ضده حربا ضروسا عقب حصوله على جائزة نوبل فى وقت مبكر من حياته المهنية!.. لم يكترث بخصومه، إيمانا منه بأنه «ليس أحقر من احترام مبنى على الخوف»، وفضّل أن يقضى حياته وسط حقول الخزامى والروزمارى. لم يكن كامو الذى ولد فى مدينة مندوفى بالجزائر 7 نوفمبر 1913، ونشأ فى بيئة شديدة الفقر، يتصور أنه فى يوم ما سوف يمتلك بيتاً! لكنه حقق ذلك الحلم من الأموال التى حصل عليها من جائزة نوبل عن روايته «الغريب». إحساسه بالألفة جعله يقوم بترتيب البيت بنفسه فى كل التفاصيل: الستائر والأسرة، الأطباق والأكواب، اللوحات والأثاث.. صمم كل شيء مع الحرفيين والفنانين المختصين فى مجال الديكور. تبهرك إطلالة البيت الخارجية الرائعة بلونه الوردّى ومصاريعه ذات اللون البنى التى تشعر معها بالراحة فى التنفس والجمال. بالنسبة لكامو، كان البحر خلف الجبال، ومن وراء البحر، كانت هناك الجزائر. لازالت ابنته الأديبة كاترين تعيش فى هذا البيت إلى اليوم، إدراكا منها بأن والدها «كان يجد هنا ضوء وألوان موطنه الجزائر». وحده، لم يكن يتبع خطاه غير ظلّه وابنتاه التوأم «كاترين» و»جين» حيث مر بتجارب زواج فاشلة جعلته يصف مؤسسة الزواج بأنها «غير طبيعية». فقد تزوج من سيمونى هاى عام 1934، وكانت مدمنة للمورفين، فما لبث الزواج أن انتهى نتيجة للخيانات من الجانبين. بعدها، تزوج ثانيةً من فرانسين فاورى عام 1940، وكانت عازفة بيانو وعالمة رياضيات. لكنه ظلّ يمازح أصدقاءه بأنه لم يُخلق للزواج حتى بعدما أنجبت له التوأم. تسافر فى الليل الذكريات، ويظلّ كامو وحده للصقيع وللشتاء.. يرافقه كأس، وأطياف، وجرح زمان. وقت للحلم يا للطريق الضيّق الصاعد بين ربوتين والذى ينتهى بكنيسة ضخمة تقع إلى جوار المنزل! الطريق، الذى صار يحمل اسم «ألبير كامو» بعد وفاته، يفوح منه رائحة أشجار الياسمين والليلاك بمختلف ألوانه. كل يوم، فى وقت مبكر جداً، يتناول كامو القهوة ثم يمارس رياضة السير لمسافات على طريق «كافايون» الذى يمر بقلعة لورمارين الرابضة بدلال وشموخ فى هذا الريف المتواضع. فى رحلته هذه تعانق عينيه حقول الخزامى الرائعة فيُنبت عطرها فى قلبه المهموم ألف خميلة. ما إن يلوح له شجر البرتقال، يلمح بالوهم طيف الجزائر «عطره المفقود». لازالت رائحة الأرض فى قلبه، وبشذى البرتقال يتعطّر حلم العودة لها ثانية. كيف له أن ينسى وطن طفولته وشبابه! فيها التحق بالحزب الشيوعى الفرنسى عام 1934 وشارك فى نشاطات شيوعية جزائرية تنادى بالاستقلال كان كامو يتصور إمكانية حصول حكم ذاتى فى الجزائر، أو حتى حصول العرب على فيدرالية خاصة بهم، لكنه لم يتصور فكرة الاستقلال التام! لم يمنعه رأيه هذا من مساعدة السجناء الجزائريين - سرا- والذين كانوا يواجهون عقوبة الإعدام فى السجون الفرنسية فى الجزائر.. «لسنا ننشد عالما لا يُقتل فيه أحد، بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل». لقد أيد كامو الثورة الجزائرية فى سياق نضاله من أجل العدل والمساواة، كان ينظر إلى الجزائر كأمة عرب وأمازيغ وفرنسيين ويهود، وواحدة من الأمم التعددية فى حوض المتوسط، بحر الحضارات. فى المساء، فى شرفة المنزل الدائرية التى يتسلق لها شجر السرو الشاهق، كان كاتب «الغريب» يأسر ضيوفه بالروايات التى يقصها عليهم.. وفقا له، «الرواية ليست إلّا فلسفة فى هيئة صور». بعد رحيل الضيوف وانقضاء السهرة، كانت الظلمة تمتدّ إلى الأفق من حوله. ليعود وحيدا، يوقد شمعة الذكرى وينثر الصور على مكتبه الذى ظلّ على حاله لليوم لم يتغير منذ وفاته، بما يحمل من أقلام من الطراز القديم، محبرة، بوصلة، صور صفراء.. هى صور طفولته ومراهقته بلا أب، فقد مات والده فى الحرب العالمية الأولى.. وصور والدته الإسبانية، تلك المرأة التى تحملت المسئولية كاملة بعد وفاة زوجها حيث كانت تنظف البيوت لتكسب قوت يومها، تاركة تربية أولادها لأمها. لم تكن أمه تسمع تقريباً، وبالطبع لا تقرأ ولا تكتب. لم تكن تفهم ما يقوله محدثها إلّا عند الإمعان فى حركات شفتيه. كم هى مفارقة عجيبة ومدهشة! صاحب اللغة الفريدة لم يسمع لغة أبيه وأمه!.. فى فترة التكوين «كان عليه أن يتعلّم وحيداً ويكبر وحيداً.. ويجد وحده أخلاقياته وحقيقته، ثم كان عليه أن يولد كإنسان كى يحقق ولادته الأمس بنظر الآخرين»، هذا ما أشار إليه كامو فى كتابه «الرجل الأول»، وكأنه يتحدث عن نفسه فى هذه السطور! فوق مكتبه تتناثر أيضاّ صور مدرسته الابتدائية، والثانوية.. وصور له بملابس حارس المرمى. فقد كان كامو رياضيا عاشقاً لكرة القدم وكان يلعب ضمن فريق الجامعة بالجزائر، إلى أن أصيب بمرض السل، فتوقف عن اللعب. أسعد أوقاته كانت تلك التى يذهب فيها إلى استاد لورمارين أو يتحدث خلالها فى شأن كرة القدم. لذلك لم يكن غريبا عند وفاته أن يحمل نعشه فى جنازته لاعبو كرة قدم فريق القرية. بقلب مكلوم وعين تدمع، حملوه إلى مثواه الأخير، على بعد خطوات بسيطة من القلعة حيث مقبرته المغطاة بالغار وإكليل الجبل. خلف غابات المطر عادة كان يتوجّه كامو إلى مقهى «أورومو».. فيها يجد متنفسه بصحبة جريدته. يختار زاوية ليشرب فيها قهوة ويقرأ ما جدّ من أخبار. على مدار حياته، لم ينشغل بقيم كما انشغل بالحقيقة والحرية «أحببت أن أعيد الكاتب إلى مكانته الحقيقية، بلا أية ألقاب، سوى تلك التى يتشاركها مع زملائه فى النضال.. يكتب أعماله بلا خجل ولا غرور، وعلى مرأى ومسمع من الجميع». تتدافع الذكريات والصور أمام عينيه، ويظلّ أقربها إلى نفسه انخراطه فى المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألمانى، وإصداره مع رفاقه نشرة «كومبا» (الكفاح) التى تعبر عن المقاومة الشعبية والتى ما لبثت بعد تحرير باريس أن تحولت إلى صحيفة يومية اشترك فى تحريرها جان بول سارتر. «لا أبغض العالم الذى أعيش فيه ولكن أشعر بأننى متضامن مع الذين يتعذبون فيه.. إن مهمتى ليست أن أغير العالم فأنا لم أعط من الفضائل ما يسمح لى ببلوغ هذه الغاية، ولكننى أحاول أن أدافع عن بعض القيم التى بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها ويصبح الإنسان غير جدير بالاحترام». لا شك أن مسرحياته ورواياته قدمت فلسفته فى الوجود والحب والموت والثورة والمقاومة والحرية. وتقوم فلسفته على كتابين هما «أسطورة سيزيف» و«المتمرد»، أو بالأحرى على فكرتين رئيسيتين هما العبثية والتمرد. فقد اتخذ من أسطورة سيزيف رمزا لوضع الإنسان فى الوجود: كان سيزيف هذا الفتى الإغريقى قدّر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح.. فيضطر إلى إصعادها من جديد، وهكذا للأبد. يرى كامو فى «سيزيف» الإنسان الذى قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقُدّرت عليه الحياة بلا طائل، فيلجأ إلى الفرار. يا كثبان الوادى غابت الشمس وقد آن الرحيل.. لا تقولى كاتبا لم يحتمل وحشة الوحدة وظلماء الأفول!.. فرّ كامو من دنياه -على غير رغبته- يوم الإثنين 4 يناير 1960، حين استقل سيارة ماركة فاسيل فيجا كانت تجرى على الطريق بين سون وفونتانبلو.. يركب بها مع صديقه ميشيل جاليمار (صاحب دار النشر جاليمار)، وزوجته جانين، وابنته آن. اصطدمت السيارة بحاجز، فانقلبت وتدحرجت على الأرض العشبية على جانب الطريق. مات كامو على الفور. وفى حقيبته السوداء كتاب «العلم المرح» لنيتشة، ونسخة فرنسية من نص «عطيل»، ومخطوطة غير مكتملة من 144 صفحة، والتى عرفت فيما بعد بكتابه «الرجل الأول». من سخرية الاقدار، كان كامو قد علّق فى اوائل حياته الأدبية، إن اكثر موت عبثياً يمكن تخيله هو الموت فى حادث سيارة! وكأن الوقت حوله مثل وجه الموت ينتظر.. يحاصر رحلته.. يختال فى روحه وينصهر! فقد عثر فى جيب معطفه على تذكرة قطار غير مستخدمة، من المحتمل أن يكون قد اعتزم السفر بالقطار، لكنه قرر الذهاب بالسيارة بدلاً من ذلك.. لتنتهى حياته فى ذاك اليوم. رحل الأديب الذى يقال عنه إنه «جاء مبكراً ورحل مبكراً».. دون أن ينتهى الجدل حول أفكاره ومواقفه.