يعد كامو، وفقاً لمواقفه، فيلسوفا من نوع خاص، فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان، كما أنه عرف الصحفي " الناقد" بأنه " مؤرخ يوم بيوم الاثنين، 4 يناير 1960. كانت السيارة ماركة فاسيل فيجا تجري علي الطريق بين سون وفونتانبلو، يركب بها ألبير كامو، وميشيل جاليمار( صاحب دار النشر الأشهر جاليمار وصديق كامو)، وزوجته جانين، وابنته آن. اصطدمت السيارة بحاجز، فانقلبت وتدحرجت علي الأرض العشبية علي جانب الطريق. مات كامو علي الفور. وفي حقيبته السوداء كتاب العلم المرح لنيتشة، ونسخة فرنسية من نص " عطيل" ومخطوطة غير مكتملة من 144 صفحة، والتي عرفت فيما بعد بالرجل الأول. في هذا اليوم لم يكن كامو يبلغ من العمر سوي 46 عاماً! كم ننسي إلي أي حد مات كامو شاباً! إذ يري الكثيرون أن مسيرة أخري كانت تنتظر الكاتب والفيلسوف، مسيرة عنوانها "صاحب نوبل في الآداب". وآخرون تمنوا لو شهد كامو استقلال الجزائر(1962)، ليروا ما سيكون عليه رد فعله، خاصة وهو المعروف بموقفه الجدلي من تلك القضية. وربما انبري الصحفيون والمتابعون للساحة الثقافية في تصور تعليق كامو عند رفض صديقه اللدود سارتر تسلم جائزة نوبل(1964)، متعللاً بأسباب سياسية وأيديولوجية، فيما يعلم الخبثاء أن رفضه لم يأت إلا اعتراضاً علي منح الجائزة لمنافسه الأهم، قبل ترشحه لها بسبع سنوات كاملة. كان ينقصه الكثير ليشهده. ولكن انتهت حياته في ذاك اليوم، دون أن ينتهي الجدل حول أفكاره ومواقفه، جدل يتراوح بين القبول والرفض، وبين سماحة التأويل وعنف الإتهام. لم ينشغل كامو بقيم كما انشغل بالحقيقة والحرية، ويقول موجزاً مكانة الكاتب : "أحببت أن أعيد الكاتب إلي مكانته الحقيقية، بلا أية ألقاب، سوي تلك التي يتشاركها مع زملائه في النضال، مغلوب علي أمره وعنيد، غير عادل ومفتون بالعدالة، يكتب أعماله بلا خجل ولا غرور، وعلي مرأي ومسمع من الجميع"، هذا التعبير البليغ القصير ينضم إلي باقي كتابات كامو وتوصيفاته للإنسان والتاريخ والحرب والحق والحب والصداقة، مانحاً للقراء متعة مقابلة الذات واكتشافها عبر لغة فريدة ومختلفة، تتسم بالتجسد من فرط وضوحها، وحروف نابضة بتثمين حقيقي للحياة، واحتفاء دائم بها. بضدها تتمايز الأشياء... هذا التثمين والاحتفاء بالحياة، له ما يفسره؛ إذ أن درب الكاتب لم يكن ممهداً علي أي مستوي من مستويات الحياة. فألبير كامو ولد في 7 نوفمبر 1913، في مدينة " موندوفي" القريبة من مدينة عنبة الحالية في الجزائر الفرنسية، محافظة القسطنطينة، أبوه هو لوسيان أوجستان كامو، الذي ولد هو الآخر في الجزائر، وينحدر من عائلة تنتمي للفرنسيين الأول الذين استوطنوا الجزائر، المستعمرة الفرنسية آنذاك، وأمه هي كاترين سينتي. مات أبوه في معركة مارن في بريطانيا، تاركاً الأم بلا مورد ومعها طفلاها (لوسيان، وألبير). لتعود الأم إلي بيت والدتها وتعيش مع طفليها في غرفة من غرف المنزل مع الجدة والخال. إذن لم يعرف كامو عن أبيه سوي بعض الصور وحكاية ذات دلالة تتلخص في شعور الأب بالقرف أمام مشاهد الإعدام التي كانت تنفذ في الحرب. لم تكن الأم تسمع تقريباً، وبالطبع لا تقرأ ولا تكتب. ولم تكن تفهم ما يقوله محدثها إلا عند الإمعان في حركات شفتيه. وعن ذلك كتب كامو: "كانت هناك امرأة، أضحت فقيرة بسبب موت زوجها، تاركاً إياها مع طفليها. عاشت عند والدتها، التي كانت فقيرة هي الأخري، مع أخ لها، عامل. كانت تعمل لتكسب قوت يومها، كانت تنظف البيوت، تاركة تربية أولادها لأمها . القاسية، والمتكبرة، والمسيطرة، والتي ربتهم بقسوة شديدة". الأم.. يزخر تاريخ الأدب بنماذج الأمهات. ولكن ما من أم تشبه الأخري. إلا أننا مع كامو نتوقف أمام نمط خاص؛ ونموذج فريد. فأم الكاتب الكبير لم تكن تكتب. وصاحب اللغة الفريدة، لم يسمع لغة أمه! حيث تقتصر مفرداتها علي عدد يسير من الكلمات والذي لا تستخدمه إلا في أشد حالات الإحتياج للنطق! كما أنها لم تكن تسمع تقريباً! وظل الإبن لا يعرف ما إذا كانت هذه الحالة قد إنتابتها بسبب مرض التيفود الذي عانت منه في مراهقتها، أم أن صدمة خبر وفاة الزوج (في 11 أكتوبر1914، في بريطانيا أثناء الحرب،) هي التي سببت لها هذا الثقل اللغوي. كما يروي أنه حين شاهد صورتها وهي تمسك بصورته وتنظر إليها بحنان، هب صارخاً : " إذن فهي تحبني... نعم تحبني." . كانت علاقته بأمه شديدة الخصوصية، إذ لم تنطو علي تبادل لغوي، ولكن انطوت علي الكثير من الحنان والعطف الذي يشعر به ابن إزاء أم محدودة الإمكانيات ( مادية، وجسدية، وذهنية) ومسئولة عن نفسها وعن ابنيها، وبين أم رأت في الابن الواعد ما يمكن أن يعوضها عن فقد الزوج وعن سنوات الألم ، دون أن تمتلك الوسيلة للتعبير له عما يدور بنفسها. وعنها قال كامو : " أمي... هي أكثر قضية آمنت بها في الوجود." كما يذكر أنه حين كان يستيقظ من النوم ولا يجدها في المنزل، كان يخرج إلي الشرفة ويبحث عنها بعينين متلهفتين عبر الشرفات المحيطة، عله يجدها تعمل في إحدي بيوت الجيران، وإذا وجدها تابعها في صمت إلي أن تعود. في خدمة الحقيقة والحرية... أحياناً ما يعرّف الفيلسوف، تعريفا أوليا، علي أنه من يصنّع المفاهيم ويوفقها مع بعضها البعض، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التعبير، فإننا لا نستطيع أن ننكر عن كامو هذه المهمة وهذا الإنشغال والموهبة، بل، والتقنية. ولنتأمل مثالاً واحداً دالاً: مثال" التاريخانية"، والذي كان محور كتابه الإنسان المتمرد، وعن سؤال ما " التاريخانية"؟ أجاب كامو: "هي الحالة الذهنية لأولئك الذين يستجيبون للتاريخ. أو بالأحري: هو سلوك تلك الفئة الخاصة جداً من العبيد الذين يرون في التاريخ سيداً لهم، ويعتبرونه التجسيد للمطلق والقانون. بل هي الميتافيزيقيا، ضمنية كانت أو صريحة، التي تعد مصدراً للحلول، الممنوحة لعالم أصبحت فيه "العلامات" "أهدافا"، وتبدل فيه مفهوم " فيما وراء" ب" فيما بعد"؛ ولا يُعتّد بالقيم فيه إلا حين تنتصر". حياة نكتبها... وكتب نحياها... يعد كامو، وفقاً لمواقفه، فيلسوفا من نوع خاص، فقد اعتبر منذ أيامه الأولي كصحفي أن الصحافة عمل فلسفي مكتمل الأركان، كما أنه عرف الصحفي " الناقد" بأنه " مؤرخ يوم بيوم" حيث " ينبغي أن يكون همه الأول هو الحقيقة". وهو فيلسوف يري في الكتابة الروائية، الطريق الملكي، لتقديم الفلسفة، فكتب في عام 1936، في الجزء الأول من يومياته: " في هذه الحالة، لا نفكر إلا من خلال الصورة، إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فإكتب روايات." ثم أضاف في عام 1938 "الرواية ليست إلا فلسفة في هيئة صور". ثم في الجزء الخامس من يومياته: " أنا لست سوي فنان: والفنان بداخلي هو الفيلسوف؛ وذلك لسبب واحد بسيط وهو أنني أفكر وفقاً للكلمات، وليس وفقاً للأفكار"... إذن هو فيلسوف فنان. بل ، وفيلسوف لم يفصل يوماً حياته الشخصية عن مغامراته الفكرية، ودائماً ما مارس اللعبة المزدوجة لحياة يكتبها، وكتب يحياها. هذا النوع من الفلاسفة هو نوع يبتكر سلوكاً وأسلوباً في الوقت الذي يؤلف فيه عملاً أدبياً. الغريب... هي أول رواية منشورة لألبير كامو، (1942)، والتي مثّلت حدثاً أدبياً حال ظهورها. وتعد من أهم كلاسيكيات الأدب العالمي، قُرئت في العالم أجمع، وتُرجمت إلي كل اللغات تقريباً، بل وأحياناً ما ترجمت أكثر من مرة إلي نفس اللغة (لها أربع ترجمات إلي العربية، علي سبيل المثال) وتتنافس هي وروايته الطاعون (1947) علي لقب "أفضل أعماله الروائية" إذ ينقسم القراء بين هاتين الروايتين. فأنصار الطاعون، يرون أنها تقدم طاقة إيجابية للقراء، نص يموج بالتفاؤل والأمل، فيما يري أنصار الغريب أنها الأولي باللقب لما أحدثته من صدمة فكرية حين قدم كامو اللامبالاة الناعمة، وسوء الفهم المستقر في قلب الحالة الإنسانية، وفي العلاقة بين الإنسان وواقعه، من خلال بطل الرواية الذي يشعر أنه غريب عن العالم المحيط به، ثم يجد نفسه قاتلاً بالصدفة،علي إثر سلسلة من " الظروف" ، ويستمر في الشعور اللامبالاة حيال قضيته ومصيره. فلا يختار المستقبل علي حساب الحاضر، ولا يحتفي بالمشاعر بل بالحواس. " اليوم ماتت أمي. أو ربما أمس، لا أعرف" دشّنت تلك العبارة اللامبالية والصادمة في آن، مشروعاً أدبياً وفكرياً أكثر إتساعاً مما تمثله رواية الغريب في مجملها، هذا المشروع الذي وعي له كامو مبكراً جداً ، بل وقسمه إلي مراحل كما أوجز هو شارحاً من خلال كلمته في ستوكهولم حين تسلم جائزة نوبل للآداب ديسمبر 1957 : " كانت لدي خطة محددة حين بدأت الكتابة: أردت أولاً أن أعبر عن العدمية. من خلال ثلاثة أشكال؛ روائي: الغريب، ومسرحي : كاليجولا، وفكري: اسطورة سيزيف. كما أنني بشرت بالإيجابية من خلال ثلاثة صور أيضاً : روائي: الطاعون. ومسرحي: العادلون. وفكري: الإنسان المتمرد. ثم أدخلت علي الخطة مرحلة ثالثة تدور حول موضوع الحب." ولكنه هو الموضوع الذي عاشه أكثر مما استطاع التعبير عنه، إذ لم يمتلك الوقت الكافي بعد هذه الليلة لإستكمال مشروعه الفكري. تعبر الغريب عن كاتب متمكن من بنية السرد، وكتابة ذات شكل وأسلوب خاص وفريد؛ ويلاحظ النقاد أن فنه قد نضج من خلال الإنغماس في تأملاته الإنسانية والفلسفية، بل ومن خلال حياته اليومية، ومن اقترابه من معاصريه نساء ورجالاً، ومن قراءاته المستمرة للنقد الأدبي. ومع تصفح أوراق كامو ومذكراته نجد بعض تفاصيل رواية " الغريب" (1942) مكتوبة في يومياته في ربيع 1938 ، فمثلاً ، في أعقاب زيارة قام بها لحماة أخيه لوسيان في دار المسنين الموجودة في مارنجو (وهي نفس الدار التي تحدث عنها في روايته ذاكراً موت أمه فيها)، فكتب في نوفمبر 1938 "اليوم ماتت أمي" علي الرغم من أنه لم يكن قد شرع في كتابة الرواية نهائياً، والتي بدأ كتابتها في ديسمبر 1939. كما أفضي لفرانسين فور، التي تزوجها فيما بعد، بأنه بعد أن بدأ في كتابة الرواية، توقف، وأنه يتقدم أكثر في كتابه الفكري: أسطورة سيزيف معللاً : " أنه أكثر نضجاً بداخلي من الرواية". ولم تبدأ الخطة الفعلية لكتابة الغريب إلا فيما بين يناير ومارس 1940، بين الجزائر ووهران، إلا أنه انطلق في كتابتها بعد انتقاله للعيش في باريس والعودة للعمل الصحفي هناك. كتب في مايو 1940 في خطابه إلي فرانسين فور: " لقد أنهيت الرواية لتوي. ولكن عملي لم ينته، بلا شك. فمازال أمامي بعض التفاصيل التي سأراجعها ، وأخري سأضيفها، وأخري سأعيد كتابتها. ولكن المهم أنني انتهيت، وأنني خططت آخر عبارة... إنني أحملها منذ سنتين، وتأكدت من خلال الطريقة التي كتبتها بها، أنها كانت محفورة بداخلي." وفي إحدي فقرات مذكراته نجد عبارته الرنانه، التي كتبها في 21 فبراير 1941: " أنهيت سيزيف، اكتملت ثلاثية العبث، إذن، تبدأ الحرية."