أنا يا أبى تلك المدينةُ الخربةُ المهجورة أقف على حافة الألسنةِ: ألسنةِ البيانو, وبخار الشاى، وقطرة المطر، والغرفة، وعمال المصنع، وعامل المقهى، والعاطلين، والأمهات، والقصيدة، والتراويح، ورمضان .. أقفُ على حواف ألسنةِ هؤلاء جميعًا يستعيروننى مذاقًا للفقد. يُفتشون فى غرف خزينهم، يعاتبون أنفسهم لماذا لم يدّخروا ولو دعاءً واحدًا منك؟! لستُ وحدى؛ فكل من وما فى المدينة.. يؤكدون أنها مهجورة! يا أبى، الأخطاءُ حولى أطفالٌ مذعورةٌ مرعوبون، متجمّدون، يا شيخُ عبد الفتاح، ماذا أقول وقد صارتْ خطايا أخطائى التى كنتُ ألهو معها خُفيةً وبعد كلّ فجرٍ تأتى أنت وتضعُ على مخدتى جنب رأسى: بطاقةَ هُويّةٍ جديدة، وصحيفةَ أحوالِ طفلٍ، وثلاثة أحلامٍ، وصباحاتٍ طازجةً. نعم، أنا استغللتُ نفوذك يا أبى، يمكنك الآن أن تشاهد ملفّاتِ قضاياى التى حُفظِتْ فى السماء إكرامًا لتأشيرتك. هكذا.. بسهولة تغادر؟! وأنت تعلمُ أنى أخاف الأرضَ والسماءَ والأسماءَ أنتَ تعلمُ أنّك كنتَ المكان والزمن أنا.. كُنْتُك. هكذا ببساطةٍ تغادر أصدَّقُك؟ أم أصدَّقُ شارعَ المحطة؟ تمامًا كما حدث فى صباحٍ من صباحات ستةٍ وسبعين أذهبُ كلَّ صباحٍ مستعارٍ بقدمىّ طفلٍ مرهقتين أفزعتهما السنوات فجأةً أنتحى جانبا كى لا يلحظَ المارةُ طفلاً تطاردُه أربعون سنة أنتظرُ لقطَةَ حين أُفْلِتُ من يدك الودودة لأجرى كالريحِ أقهقهُ – فتعرف السنواتُ مكانى – من اختلاط فزعتك بابتسامتك برحمتك وأنت تصيح فاتحًا حضنك يا «عمورة» كان كلُّ حرفٍ فى «عمورة» عند كلَّ خطأ يشبه الأمّ ولعب الأطفال يومَها .. عرَفتُ أن الركضَ والريح أقلّ براحًا ونسيمًا من حضنك، أن ابتسامتك الواسعةَ ساحة تُجيّش الجيوش فيها لتذود عن طفولتى، أن يدك الودودة ركّبت فى ذراعىّ جناحىّ الشعرِ لأحلّق كيف شئتُ.. الشارعُ يا أبى، يؤكَّد لى أن المشهد يتكرر كل يوم أصدّقُ من؟ هكذا.. دون اتفاقٍ تغادرُ؟ أنا تصوّرتُ، بل كان منطقيَّا بالنسبةِ إلىَّ أنْ أرحل أنا فهمتُ ضمنيًّا أنّك تعلمُ من فينا يفتقرُ إلى دعاء الآخر يسترهُ فى الغُسل؟ من فينا ينتظرُ صوت الآخر يؤنسُه فى القبر؟ يا رجلُ، من سيحكى لبناتى سيرتى التى تُقيم فى حسن ظنك وحدك سواك؟ صحيحٌ نحنُ لم نجلسْ، لم نتناقش، لم نتفق لكننى فهمت ذلك فماذا أغراك بالرحيل؟ حدثنى – كما اعتدنا – كصديقين الجنّة .. اصمتْ يا هذا أنا لا أسمحُ لأحدٍ غريبٍ بأن يتدخّل فى النصّ بينى وبين أبى معقولٌ .. هل ما يقوله ذلك الغرُّ ممكنٌ ؟ الجنّة! اصدقنى القول، هل هى؟ كيفَ .. ألم تستأثر بقطعةٍ من الجنّة وعلى سبيل كتمان الكرامةِ أسميتها «سعادَ»؟ كيف؟ أنا شخصيًّا رأيتك فى الجنّةِ فى مختلف الأوقاتِ مثلا.. دون تنسيقٍ للقصيدة، أو ترتيبٍ للأحداثِ رأيتك فى الجنّةِ وأنتَ تبتسمُ بكل حمولات الرّضا لأمى لمجرّد شربةِ ماءٍ من يدها، وأنت تصنعُ نفسك مجرىً وفق مزاج فيضاناتها، حتى وأنتَ تأكل جبنك القريش كانت ابتسامُتك سندًا وروايةً لكيف حيزتْ لك الدنيا بحذافيرها يا أبى، يومَ نام «أحمد» فى غرفة العمليات ست ساعاتٍ هل تذكرُ يومَها أين كنتَ؟ ماذا فعلتَ؟ هل تذكرُ كيف رأيتُك تتسامر والملائكة مطمئنًا جنب باب الغرفةِ؟ بينما الخوفُ يمارسُ ساديّته علينا مختفيًا عنك ألم تكن يومها فى الجنّة؟