لن تغيب بصمات وملامح التاريخ الثقافى والفكرى والإبداعى لتلك الرموز التى أسهمت بعطاءاتها الفياضة، وأقلامها السيالة وأفكارها الريادية ذات الأثر المهيب على العقول، باعتبارها بوصلة للدفع نحو الارتقاء بالواقع، بجانب كونها تمثل ميراثا حضاريا للمستقبل. هكذا كان أنطون باشا الجُمَيِّل الذى تطوف بنا الذكرى السبعون لرحيله، ويستوقفنا فيها أحد كتبه المهمة «شوقى شاعر الأمراء» الصادر عن مطبعة المعارف، والذى خط سطوره بشاعرية كاتب وإبداعية شاعر، ولغة فيلسوف وفكر ناقد. ولعل المفارقة العجيبة أن أجد هذا الكتاب ضمن المقتنيات الثمينة التى تزخر بها مكتبة والدى ويحمل غلافه إهداء رقيقا ممهورا من صاحبه «الجُمَيِّل» وهو ما يعد مبعث فخر واعتزاز متصل. ويضم الكتاب ثلاثة مباحث أدبية حول شوقي، نشر أولها فى جريدة السياسة فى أبريل 1927، وقد بدأها الجُمَيِّل بكلمات ثرية رصينة، تصوِّر دقة الحس الفنى وعبقرية الإجادة، من ثم وزنه فى عالم الشعر الحديث، فنراه يقول: ما عرفنا شاعرا صيغ له من قلائد المدح ونظم فيه من عقود الثناء، ما صيغ ونظم فى شوقي، فكل قصيدة له تنعت بالعصماء، وكل منظومة من منظوماته تعد شوقية غراء، كلماته كالدر النظيم ومعانيه الجوهر اليتيم. أما المبحث الثانى فقد نشر بجريدة الأهرام يوم وفاة شوقي، وتصدرته كلمات تحمل مرارة الأسى واليأس من خفوت أضواء الهوية الشعرية بعد شموخ لوائها، وقد جرى قلمه يخط: ما أشأم هذا الصيف على الأدب العربي، فما كفكفت مصر دموعها على حافظ حتى عادت تطلقها اليوم على شوقي، وما انتهت أندية العرب من توفية حافظ حق التأبين والرثاء حتى حمل إليها البرق نعى أمير الشعر. أما المبحث الأخير فقد كان حول شاعرية شوقى، وهو محاضرة ألقاها الجُمَيِّل فى الحفل التى أقيمت بدار الأوبرا الملكية فى ديسمبر 1932 بناء على طلب لجنة من الأدباء برئاسة وزير المعارف آنذاك، وقد أفاض فى تقريظ شوقى وشعره مستشهدا بالعديد من الروائع، مرتكزا على وترين أساسيين فى قيثارة الشعر هما الدين والوطن، منطلقا إلى غيرهما من الأوتار التى كانت عماد الشوقيات. إن مصر الآن فى مسيس الحاجة لاستحضار الكنوز المنسية من تراثها الثقافى الخالد، تلك التى لها جدارة الظهور لأنها وبعد عقود من الزمن لا تزال حاملة رؤية تنويرية تقدمية، مهما تتباين موضوعاتها وقضاياها وطرائق معالجتها، فضلا عن القيمة الذاتية لكتابها والتى تمثلت بحق فى هذا الكتاب.