أكثر التعريفات شيوعاً للفلسفة هو البحث عن الحقيقة. مما يعنى أن الحقيقة موجودة سلفاً لكنها مخفية أو ضائعة ووظيفة الإنسان القيام بالبحث عنها حتى يعثر عليها. ولقد سخر الفيلسوف اليونانى ديوجين من هذا المفهوم عندما حمل مصباحاً فى الظهيرة وسار يتجول به فى الأسواق مدعياً أنه يبحث عن الحقيقة. أراد أفلاطون أن يخلص مفهوم الحقيقة من هذا الغموض الذى يكتنفه وأن يقدم له تعريفاُ أكثر دقة ووضوحاً فصاغ هذا التعريف الذى صار ذائع الصيت من بعده وهو: الحقيقة هى مطابقة الفكر للواقع. ونحن جميعا حتى اليوم نتخذ هذا التعريف معياراً لكى نميز بين ما هو حقيقى وما هو غير ذلك فى كل ما نسمعه. فحين يزعم تلميذ بأن أباه رجل أعمال، ولكن رفاقا له يعرفون أن أباه فلاح بسيط، فإنهم سرعان ما يكشفون انه لا يقول الحقيقة لأن ما يقوله لا يطابق الواقع. هذا التعريف لم يسد فى مجال الحياة اليومية فحسب بل صار هو المعيار الذى يتبناه العلم وتطور الأمر إلى حد اعتبار أن العلم المجال الوحيد فى كل دروب التفكير الذى يمكنه أن ينتج حقيقة. وقد أدى ذلك إلى استبعاد الأدب والفن ونفى أى صلة لهما بالحقيقة. ويعد هذا أمراً طبيعياً ومتوقعاً، فجوهر الأدب والفن هو الخيال. والخيال يعنى خلق عالم مواز بعيد عن الواقع الذى نعيشه. ومع ذلك فيما يبدو أن للأدب قيمة بدليل أنه نشاط معتبر ومهم فى جميع الثقافات ولا توجد أمة تخلو لغتها من إنتاج التعبيرات الأدبية مثل الشعر والمسرح والرواية على تنوعها. يعزو البعض مثل الفيلسوف كانط هذه القيمة إلى أن الأدب يحقق التسلية واللعب فالأدب والفن فى نظره نشاط منزه عن الغرض، ويرى فلاسفة آخرون مثل هيجل أن الأدب تعبير بدائى عما لم تتضح معالمه فى ذهن الإنسان بعد. وكلها تفسيرات تقوم على افتراض انفصال واضح بين الأدب والحقيقة. وهذا الانفصال هو بلا شك نتيجة ضرورية لتسليمنا بصحة تعريف أفلاطون. ولكن من بين الفلاسفة من قام بمراجعة هذا التعريف وهو الفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر، فهو يرى أن تعريف أفلاطون الحقيقة قد ساد فى الفكر الغربى على مدى أكثر من ألفى عام، ونتج عنه احتكار العلم للحقيقة، ويقول هايدجر إن العلم يقدم لنا معلومات دقيقة ومضبوطة عن الموجودات الماثلة أمامنا. ولكن هذا شىء والحقيقة شىء آخر. فما نسعى إلى معرفته هو حقيقة الوجود نفسه وليس حقيقة الموجودات. فالوجود ليس مقتصرا على الحضور، وإنما يشمل الغياب والترقب والتطلع، ومن هذه الوجهة لم تعد الحقيقة هى مطابقة الفكر للواقع وأصبح للأدب صلة بالحقيقة. إذا كان الأدب يحتوى على حقيقة فكيف يمكن التوصل إليها؟ هذا السؤال هو الذى أدى إلى ازدهار مدرسة الهيرمنيوطيقا أى التأويل فى الفلسفة المعاصرة. فقد كان التعامل مع الأدب قبل ذلك مقصورا على التذوق والاستمتاع ولكن حينما أصبح مجالاً نبحث فيه عن الحقيقة أدى ذلك إلى مشاركة أكثر نشاطاً من القارئ حتى يتمكن من استخراج الحق من النص الأدبى. ومن الواضح أن هذا التصور الجديد للأدب بوصفه متضمناً الحقيقة قد ترك أثراً بالغاً فى الفلسفة المعاصرة. فالكثير من الفلاسفة المعاصرين وعلى رأسهم ديلوز ودريدا يعبرون عن أفكارهم من خلال تأويل لنصوص أدبية وليس من خلال رصد لما يجرى فى الواقع. ولقد قدم لنا هايدجر نفسه نموذجاً لهذا التأويل فى مقاله عن لوحة حذاء الفلاح التى رسمها فان جوخ والتى تصور غرفة بها سرير متواضع وكرسى من القش وحذاء مخلوع ولا يوجد بها الفلاح، ولكن منظر الحذاء المجعد المتهالك يوحى بمعان كبيرة وهى الكدح والصبر والراحة والتواضع. ونحن أحياناً نلجأ إلى الأدب لكى نعى على نحو أفضل الظواهر التى لا تستطيع المعلومات العلمية والإحصائية أن تساعدنا على فهمها. فنحن فى حيرة كبيرة أمام شخصية الإرهابى؛ ما الذى يدفع شابا فى مقتبل العمر إلى الاتجاه نحو التطرف والإرهاب؟ أحياناً نقول إن هذا يرجع لعدم وجود فرص عمل مما يجعل الأفق أمامه مسدوداً، ولكننا نجد بلاداً أخرى أكثر فقراً وليس فيها هذه الآفة، وقد يرى البعض أنها الأمية التى تجعل الشاب أسيراً لأفكار مغلوطة عن الدين، ولكننا نجد من بينهم من يحملون أرقى الشهادات، وهكذا يعجز العلم عن أن يقدم تفسيراً أحادياً لظاهرة بالغة التعقيد. هنا يمكن للأدب الذى يتسم بإمكانية الغوص فى أعماق النفس البشرية أن يقدم لنا صورة أكثر صدقاً ورحابة وإحاطة بكل الأبعاد. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث