عادة لا يذكرون للنقابات عمالية كانت او مهنية إلا أنها منظمات مشاغبة تنظم وتقود الاضرابات التى تعطل الانتاج وتوقف دولاب العمل وتعارض الحكومات وتستمر تطالب بزيادة أجور اعضائها. ولكن فى الحالة الفرنسية المعروفة بالسترات الصفراء لا يمكن ولو حتى الاحساس بإثبات بوجود نقابات فى الموضوع من أوله الى آخره. ليس لأن الحكومة الفرنسية سجلت هذه الحقيقة وإنما لأن ما حدث ليس من طابع ولا أسلوب عمل النقابات الفرنسية العريقة التقاليد. الذى حدث فى باريس وغيرها من المدن الفرنسية كان حالة شغب كبيرة نظمتها الجماهير عبر وسائل التواصل الاجتماعية وخرج اليها عاملون وأصحاب معاشات، نساء ورجال، يعيشون فى ضواحى المدن حيث السكن الأرخص، وينتقلون يوميا بسياراتهم للعمل فى المدن الكبيرة. ينتقلون بسياراتهم بسبب عدم توافر وسائل انتقالات عامة كافية توفر لهم تكاليف الوقود وزيادتها. ولم يكونوا متعطلين. لكن، عاملون إلا انهم غير منظمين فى نقابات. تعلم الحكومة الفرنسية ذلك جيدا. فالواضح أن الذى حدث للنقابات البريطانية تكرر للنقابات الفرنسية وفى نقابات وطنية أخرى، انسحبت عضويتها بسبب قوانين العمل الجديدة وانكماش عدد الصناعات الكبيرة الكثيفة العمالة ونزوحها الى خارج البلاد وتأثير التقنية المتسارعة التقدم التى تحل محل العمالة, كل آلة جديدة تدخل الصناعة تحل محل ستة عمال, وتوجه الدولة إلى تشجيع المشروعات المتوسطة والصغيرة التى لا تسمح النقابات بقبول ملاكها فى عضويتها لأنهم ليسوا أجراء. لذلك خرج المتذمرون الى الشوارع بلا قيادة وبلا برنامج. وبعد أن كان خروجهم للمطالبة بإلغاء الزيادة فى سعر الوقود انتقل الى رفع الأجور والمعاشات ليصل الى المطالبة باستقالة رئيس الدولة. ولكن يستمر غياب القيادة الموحدة السبب الرئيسى لتسرب العنف الى ساحة التذمر وممارسة أعمال يصعب حدوثها اذا نظمت النقابات اضرابات او اعتصامات. وقد كان التعبير الصادر من احدى المتظاهرات صحيحا عندما قالت: انهم خارج اللعبة. يمكن من متابعة الأحداث الفرنسية، الوصول إلى إحدى القيم الأساسية التى تحملها أى نقابة ديمقراطية مستقلة تملك القدرة على ضم العاملين إلى عضويتها. قيمة، تنبع من أن هذه النقابة تتحول الى مدرسة تعلم عضويتها الحوار والمناقشة والوصول الى القرار الذى يلتزم به الجميع خاصة فى حالات الاضراب او الاعتصام السلميين. وهى حالات تأتى بعد مرحلة طويلة من المفاوضة مع صاحب العمل سواء كان مستثمرا خاصا او عاما او دولة. وإذا قامت النقابات بدورها التف حولها العمال وباتوا يثقون فيها وفى قراراتها الجماعية والتزموا بها. فالنقابات ليست شرا يقف فى وجه الحكومة وإنما نجدها تتحرك أحيانا لمساعدة الدولة وأصحاب العمل فى الأزمات الحادة. وفى حالة وجود قيادة نقابية منتخبة انتخابا حرا على علم كامل بما يسميها البعض بأسرار الادارة. نجد هذه المنظمات المستقلة العمالية او المهنية تقدم حلولا جيدة لمواجهة الازمات. وقد كان أنصع نموذج لذلك أثناء تفاقم الأزمة المالية العالمية عام 2008، وكان ذلك فى المانيا. هناك تعرضت صناعة السيارات لأثار الأزمة فلجأ أصحاب الأعمال إلى فكرة التخلص من عدد من العمال لخفض المصروفات. هنا تدخلت النقابات التى وقفت بشدة ضد مشروع الفصل والتخلص من العمالة ووصلت مع الإدارة إلى حل وسط قبله العمال بعد حوار جاد مع قياداتهم، كما قبلته الإدارة. وتم توقيع اتفاق جماعى ملزم للجانبين. ماذا فعلت النقابات الالمانية؟ تفاوضت قيادات النقابة مع إداراتها وصلت الى اتفاق مؤداه عدم لجوء الإدارة إلى الفصل فى مقابل استمرار العمال فى اداء الساعات الاضافية بلا اجر حتى يتم تجاوز الازمة المالية. وطبق الاتفاق ولم يفصل عامل واحد مقابل تنازل العمال طواعية عن الأجر الاضافي. ولأنها نقابات قوية فى علاقاتها مع عضويتها وتملك القدرة على اقناع عمالها فقد نفذ الاتفاق دون آلام. إذا فالنقابات ليست لعنة وإنما تتحول الى إحدى المؤسسات الوطنية الهامة إذا ما تركت لتكون مستقلة وديمقراطية وتعمل من أجل استقطاب كل الأجراء وتنظمهم وتعلمهم اصول العمل العام الجماعي. ولكن إذا تم اضعافها أو السيطرة عليها تصبح النتيجة كما كانت فى أحداث فرنسا؟ وللأسف قد تتكرر مثل هذه الأحداث طالما استمر النظام الاقتصادى العالمى يؤثر على النقابات بالسلب وطالما لم يفكر المجتمع، وفى قلبه النقابات، فى إيجاد وسائل تنظيم هذه الاتحادات النوعية التى تجمع وتنظم عضوية اصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة بحيث يتحول تجمعهم إلى تنظيم ديمقراطى يرعى شئونهم ويتحدث باسمهم ويدير الحوارات معهم. كما تستمر هذه الأحداث تتكرر إذا ما استمر اصحاب المعاشات غير قادرين على الحصول على استحقاقاتهم التى توفر لهم حياة كريمة تتساوى وتتعادل مع كل الخدمات التى قدموها لأوطانهم ومجتمعاتهم طوال سنوات حياتهم العملية. اتذكر أن فى عام 1994 اراد جون ميجور وكان رئيس الوزراء البريطانى والعضو فى حزب المحافظين والذى جاء بعد مارجريت تاتشر أن يخفض من مصروفات نظام التأمين الصحى المعروف بكفاءته فى المملكة المتحدة. فأرسل خطابا غير معلن إلى رئيس الجهاز يطالبه بخفض الانفاق على نظام العلاج الطبيعى الذى يستفيد منه أصحاب المعاشات فى الاساس. فما كان إلا أن تم تسريب الخطاب إلى الرأى العام على يد الأطباء المنظمين فى النقابات. وانكشفت حكومة المحافظين امام الرأى العام كحكومة تسعى للنيل من حقوق المحالين الى المعاش الذين لا سند اجتماعيا لهم إلا نقاباتهم ولا سند ماليا لهم إلا أنصبتهم المعاشية. وبذلك سقط اقتراح جون ميجور. وبعد سقوط الخطاب فقد جون ميجور مقعده فى 10 داونينج ستريت ومعه حزب المحافظين فى اول انتخابات برلمانية لاحقة. يجب ألان تمر علينا أحداث السترات الصفراء الفرنسية مرور الكرام أو كأنها لم تكن. فى هذه المرة حدثت فى الشانزليزيه وتسلقت قوس النصر. إنها تعطينا الانذار لتقول إننا انتبهنا إلى الجانب المالى للنظام العالمى وأهملنا الرافد الثانى له وهو الجانب الاجتماعى الذى ينجح بالحوار ويمنع حدوث العنف والشغب. لمزيد من مقالات أمينة شفيق