30 دائرة ملغاة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب بسبب أحكام قضائية.. تعرف عليها    بعد واقعة التعدي.. مدرسة الإسكندرية للغات تعلن خطة شاملة لتعزيز الأمان داخل المنشأة    وزير الخارجية يؤكد على ضرورة تكاتف أبناء الوطن لدعم الاقتصاد الوطني    ارتفاع أسعار الفراخ اليوم بعد موجة هبوط طويلة    وزير الخارجية يشدد على ضرورة تمويل «الأونروا»: «دورها لا يمكن الاستغناء عنه»    وزير الخارجية يستعرض رؤية مصر الشاملة تجاه المتغيرات الجيوسياسية بالشرق الأوسط    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات سريلانكا إلى 410 قتلى و1.5 مليون متضرر    «الاحتلال الإسرائيلي» يفجر منزل أسير بنابلس ويقتحم بلدة برام الله    كأس العرب.. موعد مباراة مصر والكويت والقنوات الناقلة    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام فولهام.. موقف مرموش    ننشر أسماء المصابين في حادث تصادم ميكروباص وميني باص بالطريق الزراعي بطوخ    الفيشاوي وجميلة عوض يعودان للرومانسية في فيلمهما الجديد «حين يكتب الحب»    3 قرارات جديدة لوزارة التضامن لإزالة تعديات على أملاك بنك ناصر الاجتماعى    «وزير الري»: الدولة المصرية تبذل جهودًا كبيرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة    وزارة التضامن تقر قيد 4 جمعيات في محافظتي أسوان والقاهرة    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025    راقصا أمام أنصاره.. مادورو يمد غصن زيتون لواشنطن    قوات الاحتلال تتوغل فى ريف القنيطرة بسوريا وتفجر سرية عسكرية مهجورة    واشنطن لا ترى ضرورة لحضور روبيو اجتماع وزراء خارجية الناتو    وسط موجة من عمليات الخطف الجماعى.. استقالة وزير الدفاع النيجيرى    بسبب الشبورة المائية وأعمال الصيانة، ارتفاع تأخيرات القطارات على خط بورسعيد    وزير الزراعة ومحافظ الوادي الجديد يبحثان تعزيز الاستثمار في مجال الإنتاج الحيواني    مشاهدة مجانية.. القنوات الناقلة لكأس العرب 2025 ومباراة مصر والكويت    محامي رمضان صبحي: الأهلي وبيراميدز لم يتواصلا معي.. وهاني أبوريدة عرض المساعدة    سيد منير حكمًا لمواجهة بيراميدز وكهرباء الإسماعيلية    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025    5 ديسمبر، موعد محاكمة 3 عاطلين بتهمة حيازة أسلحة نارية وبيضاء في الأزبكية    أمطار متفاوتة الشدة.. الأرصاد تكشف تقاصيل طقس اليوم    في اليوم الخامس من البحث.. العثور على جثمان الشاب الغارق في بحر سنتريس بالمنوفية    المطاردة الأخيرة.. الداخلية تنهى أسطورة بؤر السلاح والمخدرات.. مقتل 4 عناصر شديدة الخطورة.. استشهاد شرطى وإصابة ضابط فى ليلة الرصاص.. تحريز ترسانة مخدرات بقيمة 91 مليون جنيه.. صور    سعر الريال السعودى مقابل الجنيه اليوم الثلاثاء 212-2025    صحتك في خطوتك| فوائد المشي لإنقاص الوزن    وزير الصحة يبحث مع محافظ البحيرة إنجاز المشروعات الصحية والتوسع في الخدمات    أمينة عرفى ومحمد زكريا يضمنان الصدارة المصرية لتصنيف ناشئى الاسكواش    من أوجاع الحرب إلى أفراح كأس العرب.. فلسطين تنتصر وغزة تحتفل.. فيديو    بدء تصويت الجالية المصرية في الأردن لليوم الثاني بالمرحلة الأولى    محافظ البحر الأحمر ووزيرا الثقافة والعمل يفتتحون قصر ثقافة الغردقة وتشغيله للسائحين لأول مرة    طقس اليوم: معتدل نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 23    حدث تاريخي في كأس العرب 2025، أول إيقاف لمدة دقيقتين في كرة القدم (فيديو)    البديل الألماني يطرد عضوا من كتلة محلية بعد إلقائه خطابا بأسلوب يشبه أسلوب هتلر    الحكم بحبس المخرج الإيراني جعفر بناهي لمدة عام    أدعية الفجر.. اللهم اكتب لنا رزقًا يغنينا عن سؤال غيرك    ما حكم الصلاة في البيوت حال المطر؟ .. الإفتاء تجيب    أصل الحكاية | «تابوت عاشيت» تحفة جنائزية من الدولة الوسطى تكشف ملامح الفن الملكي المبكر    المخرج أحمد فؤاد: افتتاحية مسرحية أم كلثوم بالذكاء الاصطناعي.. والغناء كله كان لايف    أصل الحكاية | أوزير وعقيدة التجدد.. رمز الخصوبة في الفن الجنائزي المصري    سر جوف الليل... لماذا يكون الدعاء فيه مستجاب؟    رئيس قضايا الدولة يؤكد تعزيز العمل القانوني والقضائي العربي المشترك | صور    لغز مقتل قاضي الرمل: هل انتحر حقاً المستشار سمير بدر أم أُسدل الستار على ضغوط خفية؟    لغز صاحب "القناع الأسود" في قضية مدرسة سيدز الدولية وجهود أمنية مكثفة لضبطه    كيف تكشف المحتوى الصحي المضلل علي منصات السوشيال ميديا؟    بالأدلة العلمية.. الزجاجات البلاستيك لا تسبب السرطان والصحة تؤكد سلامة المياه المعبأة    أول ظهور لأرملة الراحل إسماعيل الليثى بعد تحطم سيارتها على تليفزيون اليوم السابع    تقرير الطب الشرعي يفجر مفاجآت: تورط 7 متهمين في تحرش بأطفال مدرسة سيدز    جيمي فاردي يسقط بولونيا على ملعبه في الدوري الإيطالي    أقوى 5 أعشاب طبيعية لرفع المناعة عند الأطفال    موعد صلاة العشاء.... مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 1ديسمبر 2025 فى المنيا    انطلاق المؤتمر التحضيري للمسابقة العالمية للقرآن الكريم بحضور وزير الأوقاف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ينشر لأول مرة..
خطاب إحسان عبد القدوس إلى توفيق الحكيم يكشف عن أسرار أزمته مع البرلمان

يعترف إحسان عبد القدوس بأن أدبه جر عليه ويلات لا تقل قسوة عن الويلات السياسية، ويحكي بألم شديد أنه اضطر ذات يوم أن يكتب رسالة طويلة إلى جمال عبدالناصر يدفع فيها عن نفسه الاتهامات المزيفة التي كان يهمس بها البعض للرئيس حول الإباحية في قصصه، وقد نقل إليه مسئول كبير أن الرئيس معجب به غاية الإعجاب، وأنه يحرص علي مشاهدة أعماله السينمائية، ولكنه يريد أن يعرف منه مباشرة أسرار الضجة حول إحدي رواياته، البنات والصيف، وقد كتب إحسان رسالته إلي الرئيس الذي كان يتدخل بنفسه لمنع الأذى عن إحسان حين كتب لا أ نام والبنات والصيف، حتي كانت أزمته الكبرى بسبب أنف وثلاث عيون التي طالب نائب مجلس الأمة بمنع صاحبها من الكتابة ومنع قصصه من الإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، بل وصل الأمر إلي نيابة الآداب، لولا تدخل عبدالناصر الذي أنقذ إحسان كما أنقذ نظامه هو نفسه من الفضيحة، ولا تنتهى المشكلات أو بحسب إحسان: إذا حكيت ما فعلته بي كل قصة كتبتها، لن ننتهى.. كل قصة كانت لها مشكلة.. أولى المشكلات هى الإسقاط الذى يمارسه بعض الكبار، فهذا يقول إنني أقصده، وتلك تقول إنني أقصدها.. والحقيقة أنني لم أكن أقصد أحدا بالذات، وعندما كنت أنفي في الصفحة الأولى أى أصل واقعى لشخصيات الرواية، كنت صادقا، لأن الكثيرين اتهموني بأنني أنقل حياتهم الخاصة والعامة إلي الورق، ولكن العبرة أنهم كانوا يرون أنفسهم في المرآة.. والعبرة أيضا أنني كنت أرى أعماق المجتمع وأكتب عنها بصدق، فيظن الجميع أننى أقصدهم شخصيا.
......................................
وأطلقوا على قصصى «أدب الفراش».. ولم تنج تقريبا سوى رواية «فى بيتنا رجل» من هذا الاتهام، ومع ذلك فلم تفلت من براثن البيروقراطية «الفاضلة»!، وفى رواية «أنف وثلاث عيون» كان هناك شخص يريد منى «خدمة» لم أستطع القيام بها، فذهب إلى النائب عبد الصمد الذى لم يقرأ الرواية أصلا وألهب مشاعره ضدى فقدم الاستجواب، وانتهت الجلسة بأن من لا يرغب فى أدب إحسان فليتقدم ببلاغ إلى النائب العام، وفعلا تقدم شخص لا أعرفه، من الواضح أنه أبلغ النيابة مدفوعا من الشخص إياه الذى يكرهنى، وطلبنى وكيل النيابة وأخذ منى «كلمتين عالماشى» وسمح لى بالذهاب.
ونتوقف أمام أزمة «أنف وثلاث عيون» باعتبارها الأزمة الأدبية الكبرى التى واجهت إحسان وآلمته ألما شديدا، كما توضح رسالته التى كتبها إلى توفيق الحكيم،كنوع من الاعتذار له بعد أن كان قد اتهمه أنه تخلى عنه يوم أن قامت القيامة فى مجلس الأمة ضد قصته «أنف وثلاث عيون» وقُدم بشأنها استجواب بدعوى أنها تخدش الحياء العام، فى الوقت نفسه الذى نجد فيه إحسان عبدالقدوس نفسه فى رسالته إلى توفيق الحكيم يتحدث فيها إليه بمحبة ومودة إلى درجة أن يقول بالنص «ولم أجد أحداً قريباً منى لأكتب له، إلا أنت... شكراً لتحملك أزمتى»، ويجد الكاتب أو الناقد نفسه حائراً، من يصدق: إحسان عبدالقدوس الذى يتهم توفيق الحكيم بالتخلى عنه فى قضيته أو أزمته، فى حديث صحفى له بعد وفاة الحكيم بنحو خمسة أشهر، أم نصدق تلك الرسالة الوثيقة التى كتبها بخطه وأرسلها بإرادته إلى الحكيم فى أثناء أزمته، ليس لنا إلا أن ننشر الرأيين المختلفين لإحسان عبدالقدوس الذى فى أحدهما يتهم الحكيم وفى الآخر يبرئه.
ما ذنبى؟
يقول إحسان عبدالقدوس فى حديث الاتهام: «حين قُدم السؤال إلى مجلس الأمة طلبت عقد لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكان من أعضائها توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومعظم كبار الأدباء، وقد أحضرت لهم القصة وقلت لهم: أريد رأيكم سواء بالموافقة أو بالرفض.. وقال لى توفيق الحكيم: إننى قرأت القصة وليس فيها شىء يمس أو يخدش الحياء، بل هى قمة من قمم الإبداع الأدبى. وامتدح القصة مدحا غير طبيعى، فقلت له بعد أن انتهى من كلمته:
تسمح تعطينى ورقة بهذا المعنى. فإذا بتوفيق الحكيم يقول لى: لا.. لا أستطيع أن أفعل ذلك.
فقلت له: لماذا؟
قال: إحنا ليست لدينا أوامر؟
قلت له: أوامر إيه؟ هذه آراء شخصية.
فقال لى: لا نستطيع أن نعطى لك هذه الورقة لأننى لا أعرف رأيهم إيه.
وكان يعنى بذلك الحكومة، ولم يكتب توفيق الحكيم الورقة».
ويضيف إحسان عبدالقدوس مستكملا حكاية فصول القضية على الطرف الآخر فى مجلس الأمة: «أنور السادات كان وقتها رئيس مجلس الأمة، وقبل أن يقدم السؤال اتصل بى وقال لى: يا إحسان أنا مُقدم إليّ «استجواب عن قصة «أنف وثلاث عيون»، وأنا سوف أقدمه.
قلت له: لماذا..هذا موضوع أدبى، وإن هناك دوافع شخصية من بعض معارفى حاولوا إيذائى،وقد استغلوا عبدالصمد محمد عبدالصمد، والحكومة ليست لها مصلحة، كل مصلحتها كانت أن تثير موضوعا لتسلية الشعب.
ولكن أنور السادات أصر على عرض الموضوع، وقال لى عبدالقادر حاتم (الذى كان وزيرا للثقافة والإعلام): أنا سوف أرد على هذا السؤال. وقرأ لى الرد، وأضفت له جملة أو جملتين تمت إضافتهما بالفعل، وقد فوجئت بعد ذلك بأن عبدالصمد جاء لزيارتى فى مكتبى حين رأى أن الأمور لم تكن فى مصلحته، وقال لى: الواقع أننى لم أقرأ القصة مطلقاً، أنا سمعت الناس بتتكلم»، ولعل ذلك ما يشير إليه إحسان عبدالقدوس فى رسالته إلى الحكيم حين يقول «وربما كتبت قصة هذا الرجل الذى وقف فى مجلس الأمة يحاول تحطيمى، وإذا كتبتها فسيبدو وجه مصر بشعاً.. غاية البشاعة.. فى مرآة الأدب».
وتعبّر مثل هذه الكلمات العنيفة من إحسان عبدالقدوس عن أزمته التى هى فى الحقيقة أزمة الفن والإبداع وأزمة الفنانين والمبدعين فى مصر أو فى العالم الثالث بشكل عام، حيث تصبح رؤية المبدع فى خطر إذا خرج عن المألوف أو المعتاد.. أو حاول أن يرضى نزعة الفن بداخله بكل ما تحمل من جنون الفنان، وهو الخيط الرفيع بينه وبين آحاد الناس.
إن رسالة إحسان عبدالقدوس إلى توفيق الحكيم تضبط لنا لحظة مهمة فى حياة إحسان وهو يصارع أزمته ووحدته إلى درجة نال منه فيها اليأس حداً فكر فيه أن يخلد إلى الراحة، ولكنه راح يراجع نفسه وكأنه يفكر بصوت مسموع، وقد اختار توفيق الحكيم كى يشركه معه، معلنا له أنه أبدا لن يستطيع أن يتخلى عن ساحة المعركة لإيمانه بأفكاره أو ما يعتقد أنه صحيح فى اتجاهاته الفنية التى لا ترضى البعض.
وهنا يطرح إحسان سؤالا مهما: هل يكتب ليرضى هؤلاء الذين لا يرضون، أم يكتب ليرضى نفسه؟
أو بمعنى آخر هل يكتب بإحساسه أم فى حدود المواصفات التى يتطلبها الناس، كمواصفات البدلة التى يطلبها أحدهم من الترزى، أو مواصفات عمارة يطلبها المالك، وهنا يصل إحسان إلى السؤال الأهم فى القضية التى يطرحها: هل الفنان يملك المجتمع أم المجتمع يملك الفنان؟ ثم يحكى قصة رسالة بعثها إلى الرئيس عبدالناصر يثير فيها أزمة الفنان مع المجتمع.
غير أن الأخطر فى أزمة إحسان عبدالقدوس الذى أبى الخضوع والاستسلام، أن بعض أدباء عصره قد آثروا السلامة إرضاء للجمهور أو بعض الناس، ويذكر أمثلة لذلك، منها يوسف السباعى الذى نصحه أن يفعل مثله، إلا أن إحسان شعر بأنه إن فعل فكأنه يتنازل عن حريته وإذا تنازل عنها فكأنه فقد روحه، أو فقد ذلك القبس الذى يشعرنا باللذة والمتعة ونحن نطالع عملا أدبيا رائعا، تلك الروعة التى لا يمكن أن نشعر بها إلا إذا كان المبدع حرا وهو يكتب إرضاء لنفسه أولا، ثم بعد ذلك ليرضى الناس أو لا يرضون لا يهم.
وتثير أزمة إحسان أيضا قضية أولئك الذين يفتون فى أمور الفن والإبداع دون أن تكون لهم علاقة بالفن أو الإبداع،أو كما وصفهم إحسان بأنهم «دجالون هدفهم الهدم لا البناء».
نصل إلى نص رسالة إحسان عبدالقدوس بعد أن ألممنا بخطوطها الرئيسية، لنستمتع بها كأنها مقال كتبه إحسان، وهو كذلك بالفعل، لولا أنه أراد أن يخص به توفيق الحكيم، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة البراءة التى تنفى اتهام إحسان للحكيم كما أسلفنا، وهو ما سوف نتمهل عنده بعد أن نقرأ رسالة إحسان عبدالقدوس المؤرخة فى 7/6/64 التى يقول فيها:
الأستاذ توفيق الحكيم
أستاذى
أكتب إليك لأعتذر، ولو أنى لا أدرى ما أعتذر عنه. كل ما هنالك أنى شعرت بأنى أثقلت عليك وعلى زملائى أعضاء لجنة القصة عندما جئت إليكم أحمل همى، وأحاول أن ألقى بمتاعبى إليكم، والواقع أنى لم أحضر اجتماع اللجنة نتيجة تفكير، ولا نتيجة خطة للعمل، ولكنى حضرت بدافع أزمة نفسية أعانيها، وشعور جارف بالوحدة.. كنت أشعر أنى وحيد.. وحيد إلى حد الخوف.. وقد قال شوبنهاور «إن الرجل القوى هو الرجل الوحيد»، وقد مر عليّ وقت طويل كنت فيه قويا فى وحدتى، واستطعت أن أخوض كثيرا من المعارك السياسية والأدبية وأنا وحيد، لا أنتمى لحزب، ولا أنتمى لزعيم، ولا أنتمى لهيئة، ولكن أنتمى لفكرة.. وكنت أنصر الفكرة، وأنتصر بالفكرة.. ولكن لا أدرى ما حدث لى.. ربما تعبت من كثرة التحديات التى خضتها.. وربما وصلت إلى السن التى أصبح من حقى فيها أن أترك عبء التحدى لجيل بعدى، وأستريح أنا.
ولكن هل أستريح على حساب الفكر، وعلى حساب الإيمان، وعلى حساب انطلاقى الفنى.
ليست هذه راحة.. إنه جبن.. خوف.. ولن أستريح أبدا إذا شعرت بأنى جبان، أو أنى خائف.
وهذه هى أزمتى.
أزمة بين الإيمان، وما يأخذه هذا الإيمان من أعصاب صاحبه وراحته.
وأنا أؤمن بما أكتب.. وأؤمن باتجاهى فى القصة وهو ليس اتجاها واحدا، ولكنها عدة اتجاهات متساوية فى سيطرتها عليّ، تنطلق بلا افتعال وبلا تعمد.. كأنفاس.. ولا أستطيع أن أتنازل عن واحدة منها، وإلا تنازلت عنها جميعا وأقلعت عن الكتابة.
فهل هذا ضعف منى..
هل من واجبى أن أسيطر على اتجاهاتى الفنية، حتى أرضى بعض الناس، وأريح نفسى من كلامهم.. وبمعنى آخر.. أريد أن أسأل:
هل الفنان يسيطر على الفن.
أم أن الفن يسيطر على الفنان.
هل الفن هو تعبئة إحساس الفنان بالمجتمع فى انطلاقة فنية.
أم هو أشبه بعملية هندسية.. تبقى فى حدود المواصفات التى يتطلبها صاحب الملك.. كالترزى يفصل البدلة حسب طلب الزبون.. الترزى فنان.. والمهندس فنان.. ولكن الترزى له زبون يملى عليه إرادته.. والمهندس يبنى لصاحب الملك.. ولكن أنا هل لى زبون.. هل لى صاحب ملك يملك فنى ويخضعه لإرادته.. بل إنى أتساءل:
هل الفنان يملك المجتمع
أم المجتمع يملك الفنان؟!
لقد كتبت مرة رسالة للرئيس جمال عبدالناصر قلت له فيها إن الأدب هو مرآة المجتمع، والناس عندما ينظرون فى المرآة يرون البثور فى وجوههم، فبدلا من أن يثوروا على البثور ويبدأوا علاجها يثورون على المرآة ويحاولون تحطيمها.. وكذلك عندما يقرأون قصصى، فبدل أن يثوروا على أنفسهم، وعلى المجتمع الذى يعيشون فيه، يثورون عليّ أنا.. على الفنان على المرآة..هل هذا صحيح؟».
لا أدرى
ولا أحاول أن أدرى
إن كل ما أحاوله الآن هو أن أخرج بجواب على سؤال ينتابنى فى حالة ضعفى:
ما ذنبى؟
نعم.. ما ذنبى لأحمل كل هذا العبء، ما ذنبى لأتلقى كل هذه الطعنات؟
والأمر سهل
إن يوسف السباعى أقلع عن الكتابة فى هذا الاتجاه الفنى عندما أحس أنه قد يثير حوله ضجة؟
وأنت يا أستاذى وضعت حجرا ضخما فى أساس البناء عندما كتبت «الرباط المقدس» ثم تركته، ورحت تبنى فى اتجاه آخر.. ربما لأنك أيضا أردت أن تتجنب الضجة.
فلماذا لا أفعل مثلكما؟
يوسف السباعى ينصحنى أن أفعل. ولكنى لا أستطيع.. لا أستطيع أبدا.. إن مجرد إحساسى بأن أتجنب اتجاها معينا نفاقا أو إرضاء لبعض الناس.. يشل قلمى.. يجعلنى أكره نفسى، وأكره قلمى، وأكره الدنيا كلها.. والكراهية هى سُمى.. إنى لا أستطيع أبدا أن أكره.. وقد قلت لك أن لى أكثر من اتجاه فى القصة، ولكن محاولة كبت واحد من هذه الاتجاهات سيقضى عليها كلها.. لأنها كلها تنطلق من قاعدة واحدة.. هى حرية الفنان.
وليس هذا هو مجال الحديث عن اتجاهاتى فى القصة، التى لم يحاول أحد حتى الآن أن يدرسها أو يفسرها، أو يأخذها مأخذ الجد.. بل إننى أحس أنه ليس دورى ولا من واجبى أن أتحدث عن اتجاهاتى فى القصة، إنى أكتب القصة، وبعد ذلك لا شأن لى بها.. إن القصة بعد أن تنتهى تصبح مخلوقا كاملا ليس لها صاحب، ولكن من حق الأطباء أن يقولوا رأيهم فيها إذا كانت مخلوقا مريضا.. والذين قالوا رأيهم فى قصصى ليسوا أطباء.. ولكنهم دجالون.
وبعد..
لماذا كتبت إليك.
لأنك أستاذى.. ولأنى فتّحت عينى بين صفحات كتبك.. وُلدت من تفاعل كلماتك.. ثم لأعتذر لك عن عدم حضور اجتماع لجنة القصة القادم.. فقد اكتشفت أنه ليس مهما ما يجرى فى مجلس الأمة حول قصصى، ولكن المهم هو أن أنقذ نفسى من التمزق، وأن أنجو من أزمتى النفسية.
إنى لن أرد على كل ما يقال عنى، وما يثار فى وجهى.. لأن دوافعه ليست دوافع بناء.. ولكنها دوافع هدم.. والحل الوحيد لوقف الهدم هو أن يستمر البناء.. ولن أستطيع أن أسهم فى البناء إلا إذا أنقذت نفسى من الانهيار.. أنا الذى سأنقذ نفسى لا أحد آخر.
وسأترك كل شىء.. وأسافر بعد أن أنتهى من كتابة الفصلين الأخيرين من القصة التى أثارت كل هذه الضجة.. وهناك بعيد..سأحاول أن أجمع نفسى..أن أستعيدها وأعود لأكتب من جديد.. وربما كتبت قصة هذا الرجل الذى وقف فى مجلس الأمة يحاول تحطيمى.. وإذا كتبتها فسيبدو وجه مصر بشعا.. غاية من البشاعة فى مرآة الأدب.
واعذرنى..
لقد كنت أريد أن أكتب هذا الكلام ولم أجد أحدا قريبا منى لأكتب له.. إلا أنت
شكرا لتحملك أزمتى.
المخلص
إحسان عبدالقدوس
انتهت رسالة إحسان عبدالقدوس الذى قرر أن ينقذ نفسه بنفسه، بثباته على مبدئه مهما كلفه ذلك الثبات، لقد اختار حريته كمبدع لأنه لا بديل لهذه الحرية سوى الانهيار.
وحين أراد أن يبلغ أحداً بقراره الذى اتخذه بينه وبين نفسه كتب إلى الأستاذ توفيق الحكيم.. «أستاذى ولأنى فتّحت عينى بين صفحات كتبك» «وُلدت من تفاعل كلماتك»، «ولم أجد أحدا قريبا منى لأكتب له إلا أنت»، ثم يختتم رسالته الحميمة بقوله للحكيم «شكرا لتحملك أزمتى».
فكيف يستقيم ما كتبه إحسان عبدالقدوس بخط يده إبان الأزمة وتداعياتها، مع اتهامه لتوفيق الحكيم فى الحديث الصحفى المشار إليه (بعد وفاة الحكيم). بتخليه عنه فى أزمته، هل هو ضعف فى الذاكرة أم أن آراء الناس حتى المميزين منهم كالمبدعين تتغير وتلعب بها الأهواء فى بعض الأحيان؟ ألم يحدث أن اعترف طه حسين للعقاد فى حياته بإمارة الشعر بعد شوقى، ثم قال فى ندوة تليفزيونية مذاعة بعد وفاة العقاد إنه لم يفهم عبقريات العقاد؟ ثم أنكر فى حديث صحفى إمارة الشعر للعقاد.
فما تفسير ذلك؟ لا شيء سوى أنها النفس البشرية وتقلباتها، يستوى فى ذلك الإنسان العادى، والإنسان العبقرى.
وحتى لا نبتعد كثيرا عن موضوعنا، مرجحين حديث إحسان المكتوب فى رسالته التى قرأناها منذ قليل، على حديثه الصحفى الذى أشرنا إليه سابقا، للتناقض الحاد بين الرأيين، فلا نجد أمامنا سوى الأخذ بالوثيقة «الرسالة» التى كتبها إحسان عبدالقدوس بإرادته ومحض اختياره يبث فيها بشكل خاص جدا همومه وصراعه النفسى، إلى توفيق الحكيم، بل يشكره لتحمله فى أزمته، وهو ما لا يمكن أن يتفق أبدا مع موقف التخلى الذى اتهم به إحسان، الحكيم، فعلى الأقل كان عليه إزاء مثل هذا الموقف أن يصمت ويتجاوز ما حدث، ولكنه كتب رسالة ودية فيها من عبارات التبجيل والاحترام، ما ينفى أى موقف للتخلى والسلبية، ومما يؤكد هذا الرأى ويجعلنا نطمئن إليه هو مسيرة العلاقة بين الرجلين، الأديبين، الصديقين، فاقرأ معى على سبيل المثال، ما كتبه إحسان عبدالقدوس وهو يهدى توفيق الحكيم مجموعته القصصية «الراقصة والسياسى» حين يقول:
«أستاذى» وأستاذ كل قلم كتب قصة، توفيق الحكيم. مع تمنياتى بالصحة دائما والنجاح دائما والحب دائما.
إحسان عبدالقدوس
وقد شاهدت بنفسى خلال ترددى على توفيق الحكيم بمكتبه بالأهرام كيف أن إحسان عبدالقدوس كان كلما علم بوجود الحكيم أسرع لزيارته وتحيته، فيرد عليه الحكيم بمداعبته، من ذلك مثلا قول الحكيم لإحسان: هو انت كل يوم تلبس بدلة جديدة.. ويضيف: طبعا لأجل كثرة المعجبات. فيضحك إحسان ويقول ردا على دعابة الحكيم: إيه رأيك لو جمعنا لك تبرعات لنشترى لك بدلة جديدة.
فيقول الحكيم بدهائه المعهود: أنا لا أحب البدل الجاهزة، هات لى التبرعات وأنا أعمل بدلة تفصيل.
وهنا يدرك إحسان مكر الحكيم والفخ الذى أوقعه فيه، فيقول له: ثم تاخذ الفلوس ولا انت مفصل بدلة ولا حاجة.. لا يا عزيزى.. من شروط جمع التبرعات أن تكون البدلة جاهزة.. يعنى الهدية عينية لا نقدية. وتنتهى الدعابة بين توفيق الحكيم وإحسان عبدالقدوس إلى انصراف الأخير مودعا الحكيم، وقد سجل كل منهما ابتسامة على وجه الآخر. وإبان أزمة الحكيم مع رجال الدين والشيخ الشعراوى خلال أحاديثه مع ربه، تحدث إحسان عبدالقدوس إلى د.بنت الشاطئ كمفكرة إسلامية لكى تقف إلى جانب توفيق الحكيم فى أزمته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.