اليوم يحتفل العالم بميلاد المسيح, أمير السّلام، ومع الكنيسة يعيش دهشة وفرح العذراء مريم والقديس يوسف ورعاة بيت لحم الذين تأمّلوا الطفل الموضوع فى مذود. إنّ ولادة المسيح طفل المغارة، ملك السّلام، ترافقت مع نشيد الملائكة: «المجد لله فى العُلى وعلى الأرض السّلام وفى الناس المسرّة» (لوقا 14:2). ليُذكِّرنا بأهمية السّلام والحاجة الماسّة إليه. إنّ هذا الإعلان يجوب اليوم الأرض ليصل إلى كلّ الشعوب المضطربة والتى تعيش فى أجواء صعبة، خاصّة تلك التى تنهشها الحروب وترتفع فيها وتيرةُ العنف والنزاعات، وتتفاقم فيها مأساة الفقر والظلم والتهجير، ويتصاعد عدد القتلى والجرحى والمهجرين، والتى تتوق للسلام. ولكننا نبقى متمسكين بالرجاء أساساً فى حياتِنا كأفراد وجماعات،: فلَمَّا بُرِّرْنا بالإيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِالمسيح، وبهِ أيضاً بَلَغْنا بالإيمانِ إلى هذه النِّعمةِ التى فيها نحنُ قائمون، ونفتَخِرُ بالرَّجاءِ لِمَجْدِ الله... والرَّجاء لا يُخَيِّبُ صاحبه، لإنَّ محبَّةَ اللهِ أُفيضت فى قُلوبِنا بالرُّوحِ القُدُسِ الذى وُهِبَ لنا» (رومة 1:4-4) فاحتفالنا بعيد ميلاد السيد المسيح، هو احتفال بالإيمانِ والرجاءِ والسّلامِ والمحبّةِ على الأرض. هذا النشيد الملائكي، هو وعد ينعش فينا الأمل بغدٍ أفضل، ويفتح أعيُننا على فجر جديد وحياةٍ جديدة، ورجاء نختبر فيه حضورَ من يملأ قلوبَنا بفرح الحياة. هو ايضاً نداء يدعونا إلى شحن همتنا وحماسنا واندفاعنا لبناء السّلام العادل والدائم لكلّ البشر، وترسيخ أواصر الأخوة والعيش معاً بعيداً عن التعصب والتطرف وأعمال العنف. وهو عنوان مشروع حقيقى طويل الأمد، تجسَّد فى السيد المسيح ويتطلب أن يتجسَّد فى قلب كلِّ إنسانٍ لكى يعمَّ السّلام الحقيقى فى العالم.. المسيحى هو رجل الرجاء لأن فى قلبه يولد المسيح، ورجاؤه يقين وقوّة، لا يأتى من وَهْمٍ أو حلمٍ أو من تفاؤل شخصي، بل من إيمانه بوعد الله: السّلام على الارض. هذا الرجاء نفسه يقودنا وسط حيرتنا وتشتتنا وألمنا وخوفنا، ويضيء ظلام ليلنا الطويل، فنكتشف توجهات جديدة وسبلاً جديدة ومبادرات جديدة لنكون علامات مضيئة فى مجتمعنا: نوراً وملحاً، خميرةً وحبة خردل كما يريد المسيح. هذا الرجاء يدفعنا الى جعل الآمنا المشتركة قوة دافعة للتغيير فى داخلنا وفِى محيطنا، ويجعلنا نتشبث بالحياة ونتمسّك بأرضنا وبالبقاء فيها، وينعش رغبتنا فى العمل والتعاون مع اخوتنا المواطنين الآخرين الطيبين. هذا الرجاء يمنحنا الجرأة لتخطى الحواجز والخوف. هذا الرجاء وعد من الله، «الله الكلمة»، والكلمة نور وطريق وحقّ وحياة وموقف ومسئولية وفعل وإصلاح. الكلمة مشروع يتحقق فينا يوما بعد يوم ليكون المجد لله فى السماء وعلى الأرض السّلام. إنّ قوّة هذا الطفل، «المسيح ملك السّلام»، كما دعاه أشعيا النبى فى العهدِ القديم، ليست سلطان هذا العالم المبنيّ على القوّة والثروة: إنها سلطة الحبّ، والسلطة التى خلقت السماء والأرض، وأعطت حياة لكلّ مخلوق. إنها السلطة التى تسامح الخطايا وتصالح الأعداء، وتحوّل الشرّ إلى الخير. الميلاد يهدف إلى ارتقاء الإنسان والإنسانيّة والكون بأجمعه إلى حياةٍ جديدة، ومستقبلٍ أفضل، كما دعا قداسة البابا فرنسيس قائلا: فنعيش حياة عنوانُها السلام الذى تطمح له الإنسانية جمعاء وتنتهى فيها الحروب والصراعات. لذلك بات ضرورياً ان يعمل المسئولون على مستوى العالم على تحقيق الوفاق والوئام وبناء دول مدنية حقيقية تحترم قيم المواطنة وحقوق الإنسان أيا كان، وتعيد النظر فى المناهج التربوية القائمة وإرساء ثقافة جديدة، ثقافة التنوير والأخلاق الحميدة لكى تصبح قيما يتأسس عليها كل مجتمع سليم. فى هذا الميلاد، وهذه السنة الجديدة 2019، التى سنبدأها بعد أسبوع، وسنحتفل فى اليوم الأول منها بيوم السّلام العالمي، أدعوكم إلى تكثيفِ صلواتكم من أجل وقف الحروب والآلام التى يُعانيها الناس خصوصاً فى شرقنا الحبيب، وفى كل مكان من بقاع العالم. وانطلاقاً من هذه الهموم والمشاكل والصعوبات، أدعو المسئولين فى العالم إلى أن يتحركوا بعزم فى إرساء أسُس السّلام والعدالة وحماية حياة الناس وكرامتهم. الميلاد رسالة تُعَبّر عن مشيئة الله لنا، وعلينا قبولها وتفعيلها بفرح مع ذوى الإرادة الطيّبة والحسنة، لتتحوّل إلى منابع خير وسلام ومحبّة وازدهار، بهذه المناسبة يطيب لى أن أعرب لكم عن محبّتى وتهانيّ القلبيّة الصادقة وتمنياتى الحارة بعيد الميلاد المجيد، وعن قربى منكم خاصة المرضى والمتألمين. إننى فى هذا العيد المجيد، أضم صلاتى إلى صلاتكم ورجائى إلى رجائكم ليكون ميلاد السيد المسيح وآمال جميع الشعوب لتعزيز قيم التسامح وقبول الآخر والاحترام المتبادل والتلاقى والتعاون فى إطار من الوحدة والتنوع لبناء أسُس متينة لمجتمع يشرِّف بلدنا ويخدم مواطنينا. أسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك لمزيد من مقالات المطران كريكور أوغسطينوس كوسا