سوف يظل الرئيس انور السادات موضوعا للحوار والجدل بين الباحثين فى تاريخ مصر وتطورها السياسى والاقتصادى فى القرن العشرين وما زالت الآراء تختلف حول تقييم دوره كثالث رئيس للجمهورية المصرية ولرجل انتمى الى الجيش المصري، ثم انخرط فى الحياة السياسية بعد تخرجه من الكلية الحربية عام 1938، ويرجع هذا الجدل والخلاف الى السمات المتميزة التى اتصف بها تاريخه قبل توليه الرئاسة وبعدها. فقبل قيام ثورة 1952، كان للسادات شبكة معقدة من العلاقات والاتصالات. فمن ناحية اولى، تردد على منزل الفريق عزيز المصرى المعارض للإنجليز واقام صلة مع عدد من ضباط المخابرات الالمانية واشتهر بعدائه للاحتلال الانجليزى وكان ضمن المتهمين فى قضية اغتيال امين عثمان وزير المالية واهم رموز التحالف مع بريطانيا. و من ناحية ثانية، استمرت صداقته مع يوسف رشاد الطبيب الخاص للملك فاروق والمسئول عن تنظيم الحرس الحديدى للقصر. ومن ناحية ثالثة، كان من أكثر ضباط يوليو تواصلا مع الاحزاب والحركات السياسية، وصدر قرار بفصله من الجيش، وعمل إبان ذلك تباعا على عربة نقل وعامل بناء، وتم سجنه اكثر من مرة. كان رجلا يستطيع إخفاء مشاعره الحقيقية، فرغم ان خلفيته السياسية والعملية وثقافته الواسعة أهلته لان تكون له آراؤه المستقلة، فإنه لم يظهر اى اختلاف مع الرئيس جمال عبدالناصر على مدى 18 عاما وسمح ذلك له بالاستمرار فى صفوف النخبة الحاكمة، وان يتولى مسئوليات عديدة مثل وزير دولة 1954 ورئيس لتحرير جريدة الجمهورية وامين عام للمؤتمر الاسلامى ورئيس لمنظمة التضامن الافريقى الآسيوى ورئيس لمجلس الامة ثم نائب لرئيس الجمهورية . وفى فترة رئاسته للجمهورية، اتبع ما سماه سياسة الصدمات الكهربائية فاتخذ قرارات مفاجئة وغير متوقعة بل كان احيانا يعطى اشارات مخالفة لما ينوى القيام به. وفى عهده تغير اسم الدولة من الجمهورية العربية المتحدة الى جمهورية مصر العربية، وتغيّرعلمها ونشيدها الوطنى ومجمل سياساتها الداخلية والخارجية. وأظهر السادات حنكته السياسية فى الطريقة التى أدار بها الأزمة التى سببتها استقالات عدد كبير من الوزراء فى مايو 1972. وفى العام نفسه، أنهى السادات خدمة نحو 17000 خبير عسكرى سوفيتى، ورغم ان هذا القرار مثل ضربة موجعة للسياسة السوفيتية فى الشرق الاوسط فإن السادات لم يتصل بواشنطن قبل اتخاذه او يطلب منها ثمنا او مكافأة عليه. وسجل هنرى كسينجر اندهاشه من هذا المسلك للسادات. كما ظهرت حنكته فى ادارة خطة الخداع الاستراتيجى التى نفذتها القوات المسلحة المصرية وكل أجهزة الدولة باقتدار فى الاسابيع السابقة لحرب 1973 والتى كان من شأنها ان الحرب جاءت مفاجأة كاملة لإسرائيل. وفى عام 1974، طرح ورقة اكتوبر لتطوير الحياة السياسية والاقتصادية، والتى كانت كما اخبرنى الاستاذ احمد بهاء الدين انه قد كتبها بناء على طلب الرئيس ليلقيها كخطاب فى احدى المناسبات فأعجب بها السادات وقرر طرحها من جانبه كورقة للحوار العام. وكان هذا الحوار مدخلا لتغيير سياسات التنمية الاقتصادية من الاعتماد على القطاع العام والتخطيط وتدخل الدولة الى سياسة الاعتماد على القطاع الخاص وعلاقات السوق فيما سمى وقتها بالانفتاح الاقتصادي، كما كان مدخلا لانتقال الحياة السياسية من نظام التنظيم السياسى الواحد الى نظام التعددية الحزبية المقيدة والتى استمرت حتى صدور قانون الاحزاب السياسية عام 2011 والذى أطلق حرية تكوين الاحزاب دون تدخل ادارى او حكومى . وعلى المستوى الدولي، تغيرت تحالفات مصر الخارجية وانتقلت من العلاقة الوثيقة مع الاتحاد السوفيتى الى العلاقة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة. وارتبط ذلك بانتقال مصر من مجموعة ما سمى بالدول الثورية او التقدمية العربية الى مجموعة الدول المحافظة او المعتدلة. وكان خطاب السادات فى مجلس الشعب فى 9 نوفمبر عام 1977 الذى أعلن فيه عن استعداده لزيارة القدس اذا تطلب تحقيق السلام ذلك و قيامه بالزيارة بعد عشرة ايام صدمة كهربية اخرى للرأى العام المصرى والعربى وتلا ذلك اتفاقية كامب ديفيد فى 1978، ثم الاتفاقية المصرية مع اسرائيل عام 1979. تفاعلت هذه التطورات مع الأوضاع الداخلية القلقة التى شهدت تقلبات حادة وخصوصا فى العلاقة مع حركة الاخوان المسلمين والتيارات المشابهة. كان السادات قد أفرج عن عديد من المعتقلين والمسجونين من تلك التيارات، و سمح لهم بالحركة والنشاط خصوصا فى الجامعات وتم إعادة إصدار بعض مجلاتهم ومطبوعاتهم، ووجد النظام فى هذه الجماعات حليفا له ضد القوى الناصرية واليسارية. وبعد فترة قصيرة من المهادنة سرعان ما ازدادت الفجوة بين الرئيس وتلك التيارات التى استخدمت خطب الجمعة فى المساجد لانتقاد سياساته، وادى ذلك الى تغيير مفردات الخطاب الرئاسى فبعد استخدام تعبير الرئيس المؤمن ودولة العلم والايمان صرح السادات بأنه لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين، ثم تراجع عن ذلك فيما بعد. وأدت تلك المواجهة الى اغتيال الرئيس يوم 6 أكتوبر 1981. أدرك الرئيس السادات حقيقة توازن القوى على مستوى العالم وفى المنطقة، وكرر فى أحاديثه الخاصة انه يوجد فى العالم قوة عظمى واحدة هى الولاياتالمتحدة وان الاتحاد السوفيتى هو نصف قوة عظمى، وبناء على ذلك راهن على الورقة الامريكية. ودفعه هذا الى تصريحات صادمة مثل القول بان 99% من اوراق الضغط على اسرائيل فى يد الولاياتالمتحدة . ولعله قصد بمثل هذه التصريحات تحريك المياه الراكدة والبحث عن مخارج لحالة الجمود التى رصدها وعاشها. كان عهد الرئيس السادات مرحلة فاصلة فى تطور أوضاع مصر والمنطقة العربية، ولم تعد الأحوال بعده الى ما كانت عليه من قبل، واستمر تبنى التوجهات الرئيسية التى ارسى السادات أسسها مثل العلاقة مع الولاياتالمتحدة والسلام مع إسرائيل وسياسات الاقتصاد الحر. ومع تغير الظروف وتبدل الأحوال، فقد تغيرت بعض جوانب تلك التوجهات التى وضعها السادات ولكن الأسس بقيت. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال