يوافق اليوم ذكرى مرور 40 سنة على يوم مفصلي فى تاريخ مصر المعاصر ، كان فاتحة عهد جديد فى سياسات مصر داخلياً وخارجياً ، وأسس لنظام شكل انقلاباً كاملاً على نظام ثورة 23 يوليو 1952 – الذى امتد فى الفترة من 23 يوليو 1952 حتى 7 نوفمبر 1973 – تم تدشين هذا الزمن الجديد خلال اللقاء المنفرد الذى جمع بين الرئيس الراحل أنور السادات ووزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، أتى هذا اللقاء بعد العديد من الرسائل بين السادات وكيسنجر عبر محمد حافظ اسماعيل مستشار السادات للأمن القومى طوال أيام حرب أكتوبر 1973، وهى مجموعة رسائل أدت لتغيير مسار المعركة على الجبهتين المصرية والسورية وكانت بمثابة نافذة مفتوحة لإطلاع الأمريكيين والإسرائيليين على نوايا مصر وسوريا السياسية والعسكرية، ويمكن مراجعتها تفصيلياً فى كتاب "سنوات الفوران" الجزء الثانى، مذكرات هنرى كيسنجر، أو فى الملحق الوثائقي لكتاب "أكتوبر 1973 .. السلاح والسياسة" لمحمد حسنين هيكل. كانت تلك الرسائل المشئومة هى المقدمة التمهيدية لذلك الاجتماع المنفرد. فى يوم 7 نوفمبر كان الرئيس السادات يستقبل هنرى كيسنجر فى قصر الطاهرة للمرة الأولى وجهاً لوجه ، وفى هذا الإجتماع المنفرد بين الرجلين فوجئ كيسنجر كما كتب بنفسه فى مذكراته بالسادات وأطروحاته ، فالسادات لم يطلب منه أن تعمل الولاياتالمتحدة على إنسحاب إسرائيل من جميع الأراضى المحتلة فى حرب 1967، فى إطار تسوية شاملة للصراع العربى الإسرائيلى تحافظ على حقوق الشعب الفلسطينى، بل كل ما طلبه هو إنسحاب إسرائيلى من ثلثى سيناء حتى خط العريش – رأس محمد، وبهذا خالف السادات الموقف العربى الثابت منذ حرب 1967 ،وحتى هذا المطلب رغم سرور كيسنجر به، رفضه كيسنجر قبل الرجوع للإسرائيليين ،والسادات يصارح كيسنجر ان حصار الجيش الثالث ليس جوهر المسألة وخطوط 22 أكتوبر 1973، لا تصلح للنقاش بين صانعى سياسة مثله هو وكيسنجر، أن السادات راغب بشدة فى عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولاياتالمتحدة ،وهى العلاقات التم قطعها بين مصر والولاياتالمتحدة عقب حرب 1967 ،وإثر الدور الأمريكى الواضح فى الحرب تخطيطا وتنفيذا، وإثر هذا القرار المصرى، قطعت معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بالولاياتالمتحدة ، وتم خروج 62 ألف أمريكى من الوطن العربى، فى مشهد مهين لهيبة وكرامة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهاج الرئيس الأمريكى جونسون، معتبرا ما حدث صفعة لمكانة الولاياتالمتحدة، وتحريض شرير من الرئيس عبد الناصر، وطوال الفترة من 1967 وحتى 1973، حاولت الولاياتالمتحدة العمل على عودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأمريكية دون جدوى، لإصرار مصر على أن تلزم الولاياتالمتحدة إسرائيل بالإنسحاب من الأراضى العربية قبل تلك الخطوة. والأن يقوم السادات وبعد حرب ضارية اهتزت فيها ثقة إسرائيل وتم كسر جيشها بتقديم هذا العرض المجانى، اغتبط كيسنجر لذلك وفى ذهنه ما هو أبعد وأهم ، فعودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأمريكية تفتح الباب لعودة علاقات أمريكا بكل دول العالم العربى، ويبلغ السادات كيسنجر أنه قرر أن يرفع مستوى التمثيل الدبلوماسى فورا من قائم بالأعمال إلى سفير بالنسبة لمصر والولاياتالمتحدة، وكل ذلك بدون مقابل، ولم يكتف السادات بذلك بل يبلغ كيسنجر أنه ينوى تصفية ميراث سياسات الرئيس جمال عبد الناصر وتوجهاته القومية، وسيعمل على طرد السوفيت من الشرق الأوسط، ويقول لكيسنجر لقد كانت حماقة وطيش من عبد الناصر محاولاته الدائمة لإبتزاز الأمريكان وتحقيق أهداف مصر من خلال محاربة السياسة الأمريكية فى العالم العربى وعلى امتداد العالم، وإن مصر خاضت ما يكفيها من حروب وتتطلع إلى السلام. يسجل كيسنجر فى مذكراته تلك الكلمات عن السادات (أنه يمثل لى أفضل فرصة لكى نقلب المشاعر والإتجاهات العربية والمواقف العربية تجاه إسرائيل، وهى أفضل فرصة تتاح لدولة إسرائيل منذ قيامها). يقول كيسنجر أنه هو الذى أوحى للسادات أن المشكلة بين مصر وإسرائيل هى مشكلة نفسية، نتجت عن عدم ثقة إسرائيل بنوايا مصر وخوفها على أمنها، وأن يجب على مصر أن تعطى إسرائيل الإحساس بالأمان، وكالعادة يوافقه السادات ويصارحه أن المشكلة الأساسية نجمت من رفض عبد الناصر الإعتراف بالهزيمة عام 1967 ، وإصراره على الحل العسكرى للصراع مما كلف مصر الكثير، ويتفق الطرفان فى نهاية الإجتماع على مشروع ( النقاط الست ) الذى يعترف كيسنجر فى مذكراته أنه من وضع رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير ونص على التالى: 1 – توافق مصر واسرائيل على الاحترام الدقيق لوقف اطلاق النار الذى أمر به مجلس الأمن. 2 – توافق مصر وإسرائيل على البدء فورا فى تسوية مسألة العودة إلى مواقع 22 أكتوبر فى إطار الاتفاق على فض الاشتباك والفصل بين القوات تحت رعاية الأممالمتحدة. 3 – تتلقى مدينة السويس يوميا امدادات من الطعام و الأدوية ، وجميع الجرحى والمدنيين فى مدينة السويس يتم ترحيلهم. 4 – يجب ألا تكون هناك عقبات أمام وصول الامدادات غير العسكرية إلى الضفة الشرقية للقناة ( سيناء ) 5 – تستبدل نقاط المراقبة الإسرائيلية على طريق السويس – القاهرة بنقاط مراقبة من الأممالمتحدة، وفى نهاية طريق السويس يمكن لضباط اسرائيليين الاشتراك مع الأممالمتحدة فى الاشراف على الامدادات غير العسكرية الى تصل إلى شاطئ القناة. 6 – بمجرد تولى الأممالمتحدة نقاط المراقبة على طريق السويس – القاهرة ، يتم تبادل جميع الأسرى والجرحى عندما سمعت جولدا مائير بنبأ الاتفاق قالت ( ان هذا الاتفاق هو انجاز خيالى، وشئ لا يصدق، يفوق كل ما توقعته اسرائيل) بالطبع قالت ذلك لكيسنجر وليس للعالم بموافقة السادات على هذا الاتفاق يكون قد قدم تنازلات جوهرية غير مفهومة للجانب الإسرائيلى. لقد اعترف رسميا بحصار الجيش الثالث المصرى وهو أمر كانت تروج له اسرائيل فى العالم كدليل على انتصارها فى نهاية الحرب، وتنازل دون مبرر عن شرط عودة اسرائيل إلى خطوط 22 أكتوبر 1973 ، رغم أن قرارات مجلس الأمن الدولى، وضمانات القوتين العظميين تضمن له ذلك. وافق السادات على اطلاق سراح الأسرى والجرحى الاسرائيليين، كان من ضمنهم 36 طيار اسرائيلى أسقط الدفاع الجوى المصرى طائراتهم خلال حربى الاستنزاف و1973 ، و أخذوا أسرى أحياء كتنازل دون مقابل من مصر وبهذا خسر ورقة تفاوضية هامة للضغط على الاسرائيليين، والأدهى من ذلك أن السادات وافق على طلب كيسنجر بأن تخفف مصر الحصار البحرى على مضيق باب المندب ولكنه طلب من كيسنجر ابقاء الأمر سرا حتى لا يضر بموقفه أمام العرب. وفى يوم 13 ديسمبر 1973 يصل كيسنجر إلى مصر للقاء الرئيس السادات مرة أخرى لكى يحصل على موافقته على انعقاد مؤتمر جنيف الدولى. كان غرض كيسنجر من المؤتمر أن يكون مظلة للقاء سياسى مباشر بين مصر و إسرائيل، وأن يدعى للمؤتمر كل الدول العربية المحيطة باسرائيل، ولكن مصر تتعهد بحضور المؤتمر حتى لو رفضت الدول العربية الحضور، أن يتفاوض العرب مع اسرائيل منفردين، مصر واسرائيل، سوريا واسرائيل، الأردن واسرائيل، وليسوا مجتمعين فى وفد موحد، الفلسطينيون لن يدعوا لحضور المؤتمر وسوف يتم بحث حضورهم فى ترتيبات لاحقة! وفى نفس الاجتماع طلب كيسنجر من الرئيس السادات العمل على انهاء الحظر البترولى الذى فرض على الولاياتالمتحدة ، وكالعادة وافق الرئيس السادات على كل طلبات كيسنجر. الغريب فى الأمر أن الرئيس السادات بدأ مفاوضاته للسلام قبل أن يتم فك الاشتباك، ورفع الحصار عن الجيش الثالث المصرى، الذى تسبب قراراه بقبول وقف اطلاق النار فى 22 أكتوبر بتشديد الحصار عليه، رغم أن القادة العسكريين المصريين قاموا بوضع خطة عسكرية سميت (الخطة شامل) ، لتصفية الثغرة وإبادة القوات الاسرائيلية الموجودة بها، حتى يزيلوا ما أعتبروه إهانة للعسكرية المصرية وتضحياتها فى المعركة، وحتى يرفعوا عن المفاوض المصرى حرج التفاوض وجيشه الثالث محاصر، ومما دعم خطتهم وصول امدادات عسكرية جديدة لمصر من الاتحاد السوفيتى والعرب تكفى لنجاح الخطة، ولكن السادات طلب منهم الانتظار ورفض التصديق على تنفيذ الخطة. رفض السوريون حضور مؤتمر جنيف قبل فض الإشتباك على الجبهات القتال، كما رفضوا إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، بينما وافق السادات على حضورالمؤتمر الذى شهد أول مفاوضات سياسية مباشرة بين العرب وإسرائيل والجيش الثالث المصرى محاصر، ومدينة السويس محاصرة. حقق مؤتمر جنيف مكسبا هاما لإسرائيل تمثل فى حدوث أول لقاء سياسى مباشر وعلنى بين العرب و إسرائيل، كما تم من خلاله عزل الدور السوفيتى فى تسوية الصراع، كما زاد من الخلافات بين مصر وسوريا، وأدى إلى توجس الفلسطينيين مما يتم خلف ظهورهم وفى قضية فى الأساس خاصة بهم وببلدهم المحتل. مرة أخرى يعود كيسنجر إلى مصر لمقابلة الرئيس السادات فى إستراحته بأسوان لبحث بنود اتفاقية فك الإشتباك الأول على الجبهة المصرية. وفى 18 يناير 1974 يتم الإتفاق على بنود اتفاقية فك الإشتباك الأول على الجبهة المصرية، التى نصت على: سحب كل القوات المصرية والأسلحة المصرية التى عبرت إلى سيناء ماعدا 7000 جندى، و30 دبابة. وبالنسبة للمدفعية والصواريخ تم الاتفاق على الا توجد قطع مدفعية باستثناء مدافع مضادة للدبابات ومدافع مورتار وما لايزيد عن 6 بطاريات من مدافع هاوتزر طراز 122مللم، وبحيث لايزيد مداها عن 12 كم. وبخصوص الطيران تم الاتفاق على الا تكون لدى أى طرف أسلحة قادرة على إعاقة قيام كل طرف بالطيران فوق مواقع قواته، وألا تقام مواقع صواريخ ثابتة فى كل مكان. كان هذا الاتفاق هو السبب الذى دعا الفريق الجمسى للبكاء على رؤوس الأشهاد فى إجتماع الوفود فى فندق كتراكت القديم فى أسوان، وكان تعليقه: ( لقد عبرنا إلى هناك بقوة جيشين، 150 ألف رجل و1200 دبابة و 2000 قطعة مدفعية ، والأن هل يعقل ألا أستبقى من كل هذه القوات إلا هذا؟!! ). فى نفس الوقت وقبل أن يسافر كيسنجر طلب من الرئيس السادات مرة أخرى أن يبذل مساعيه لرفع الحظر البترولى العربى عن الولاياتالمتحدة ، كما طلب منه أن يسرع فى تعمير مدن القناة وإعادة سكانها المهجرين كدليل على حسن النوايا تجاه إسرائيل، وعدم إستعداد مصر لإستئناف القتال مرة أخرى ضد إسرائيل ، وليؤكد للإسرائيليين أجواء السلام. وكأن كل ما حصل عليه كيسنجر وما حصلت عليه إسرائيل من تنازلات لم يكن كافى للطمأنينة، حتى بعد تبديد جهود الأمة العربية والشعب المصرى الذى حقق معجزة العبور، لينتهى الأمر بموافقة السادات على 30 دبابة و 6 بطاريات مدفعية و7000 جندى لحماية النصر العسكري العظيم . وفى 18 مارس 1974 وإثر ضغوط الرئيس السادات على الدول العربية خاصة السعودية تم رفع الحظر البترولى العربى على الولاياتالمتحدة، ووافق الرئيس السورى حافظ الأسد مضطرا على ذلك مقابل أن يتم فك الإشتباك على الجبهة السورية، وهو ما تحقق فعلا فى 31 مايو 1974 . استقالت جولدا مائير من رئاسة الوزراء فى إسرائيل، وتولى خلفا لها إسحاق رابين وفى أول زيارة له إلى واشنطن عقب توليه منصبه، طلب أن يتم فصل عملية التسوية على الجبهتين المصرية والسورية عن بعضهما، فإسرائيل تسعى للإستفادة من مرونة الرئيس السادات، والوصول معه لمعاهدة سلام منفردة، بعيدا عن المسار السورى، وترى أن الظروف مواتية لذلك، لذا فهى تطلب من الإدارة الأمريكية فصل المسارين، ويستأنف كيسنجر رحلاته المكوكية إلى المنطقة، ويواصل الحصول على تنازلات لصالح إسرائيل على حساب الحقوق العربية. فى 22 سبتمبر 1975 يتم التوقيع على إتفاق فك الإشتباك الثانى على الجبهة المصرية، والذى جاء أشد وطأة من الإتفاق الأول لفك الإشتباك، حيث تعهد فيه الرئيس السادات: بقبول صلح منفرد بين مصر وإسرائيل. بالتعاون مع الولاياتالمتحدةالأمريكية لإخراج الاتحاد السوفيتى من أفريقيا وليس من العالم العربى وحده. كما وافق الرئيس السادات على ألا تعترف إسرائيل و لا تتصل بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا إذا قامت المنظمة بالإعتراف مسبقا بقرارى مجلس الأمن 242 و383 ، وهو مايعنى أن الفلسطينيين سيتخلوا عن مطالبهم التاريخية فى كامل أرض فلسطين ، ويتفاوضوا على حدود 1967 فقط. كما تعهد السادات أن تمتنع مصر عن أى أعمال عسكرية أو شبه عسكرية فى تعاملاتها مع إسرائيل. كما تعهد أن تبدأ عملية تقليص المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل تدريجيا ،بوصول القوات الإسرائيلية إلى المرتفعات الشرقية لمضايق سيناء، أبلغ رابين وزير الخارجية الأمريكى كيسنجر بعد توقيع بنود الاتفاق، أن إسرائيل لن تنسحب خطوة أخرى واحدة للوراء إلا بتوقيع معاهدة سلام كاملة بينها وبين مصر، وقد أصبح الطريق أمامها ممهدا لذلك لأن رهان الرئيس السادات على الحل السلمى وعلى أن 99 % من أوراق اللعبة بيد الولاياتالمتحدةالأمريكية ، لم يترك أمامه بديلا أخر. المؤسف أن رهانات الرئيس السادات لم تؤثر فقط على مصر ، بل أضاعت فرص الوصول لتسوية شاملة ونهائية للصراع العربى الإسرائيلى على كل الجبهات. كان ذلك الاجتماع المنفرد المشئوم منذ أربعين عاماً مضت هو نقطة الانطلاق لدخول الأمريكيين لمصر مجدداً، ترتب على تعهدات الرئيس السادات لكيسنجر يومها كل ما عانينا منه، وما زلنا نتحمل تبعاته حتى الأن، أهدر السادات تضحيات الرجال، ودماء الشهداء التى حققت النصر العسكرى العظيم، هدم السادات مشروع ثورة 23 يوليو النهضوى، أطلق غول التطرف الدينى فى المجتمع المصري، دمر قيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص التى حرص عبد الناصر على تطبيقها، فكك القاعدة الصناعية الضخمة التى ورثها عن سلفه، فتح الأسواق المصرية للمنتجات الغربية، قزم دور مصر فى العالم العربي وأفريقيا، كان هو المؤسس وواضع بذرة النظام الذى حكم مصر منذ ذلك اليوم الأسود حتى تنحى خلفه مبارك عن السلطة فى 11 فبراير 2011، النظام الذى جعل للولايات المتحدةالأمريكية نفوذاً مطلقاً فى شئون السياسة المصرية داخلياً وخارجياً. لن تتحرر مصر، ولن تتحقق أهداف ثورتى 25 يناير، و30 يونيو، إلا باسقاط كل خيارات السادات فى ذلك اليوم الكئيب، لتعود مستقلة الإرادة والقرار، منفتحة على كل القوى بالعالم، ترى مصالحها بعينيها الأثنتين وليس بعين واحدة لا تبصر سوى ما يريده الأمريكان.