وصف الكاتب اليابانى الامريكى فوكوياما ظاهرة العولمة بانها نهاية التاريخ لما لاحظه فيها من الاتجاه فى الدول الرأسمالية المتقدمة نحو التقارب تمهيدا للاندماج فى مركز واحد مع القدرة فى نفس الوقت على استيعاب الأطراف وإدماجها فى المركز الرأسمالى الجارى بناؤه. ومن هذه النظرة فان معظم الدراسات التى اجريت على ظاهرة العولمة الرأسمالية كانت تتابع عملية الاندماج والادماج الجارية فى العالم باعتبارها قدرا محتوما، اكد ذلك اتجاه معظم الدول الاوروبية الى إنشاء الاتحاد الاوروبى وما شمله من مؤسسات، بالإضافة الى تبلور مؤسسات عالمية مثل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للانشاء والتعمير ومؤسسة التجارة العالمية وغيرها الى ان فاجأتنا ظواهر مضادة مثل قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الاوروبى وفق اتفاق بريكست وتزايد النفوذ الجماهيرى لقوى اليمين المتطرف التى تدعو للخروج من الاتحاد الاوروبى ونجاح احزابها فى الفوز بمقاعد اكبر فى الانتخابات البرلمانية واخيرا مظاهرات السترات الصفراء فى فرنسا وبلجيكا وهولندا التى ربما تمتد الى دول اخرى، اى ان العولمة فى الواقع هى ظاهرة قابلة للتطور سلبيا وإيجابيا حسب الظروف المحيطة بها، اى انها يمكن ان تنمو على النحو الذى كان متوقعا ويمكن ان تتراجع ليتشكل عالم جديد من عدة مراكز رأسمالية، عالم متعدد الاقطاب موزع تحت قيادة قوى كبرى كالولايات المتحدة والصين والاتحاد الروسى والهند وانجلترا او المانيا وغيرها. اننا مازلنا نعيش مرحلة جديدة فى عملية التوسع الرأسمالى، تعيد الرأسمالية من خلالها هيكلة نفسها وتحافظ فى نفس الوقت على جوهرها الاستغلالى وطابعها القائم على الاستقطاب والتفاوت. وهى ليست ظاهرة بلا جذور، وإنما هى مرحلة جديدة فى ظاهرة تاريخية موضوعية ناتجة عن الثورة العلمية والتكنولوجيا المعاصرة من جهة والطبيعة التوسعية للإنتاج الرأسمالى من جهة أخرى. وهى ليست نظاماً اقتصادياً وحسب، بل تمتد إلى مجالات الحياة المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية. الثورة العلمية والمعلوماتية المعاصرة هى الطاقة المولدة والمحركة للعولمة بما أتاحته من جعل هذا العالم أكثر اندماجاً، وسهلت حركة رأس المال والسلع والخدمات والمعلومات والأفراد بين دول العالم، وجعلت المسافات تتقلص والزمان ينكمش، وأسهمت فى انتقال المفاهيم والقناعات والأذواق والسلوكيات فيما بين الثقافات والحضارات. تنطلق العولمة من تكريس قاعدة الاعتماد المتبادل غير المتكافىء فى علاقات المراكز بالأطراف، ولهذا فإنها تكرس مصالح رأسمالية المراكز المتقدمة (امريكا وأوروبا واليابان) على حساب مصالح الشعوب الفقيرة والمجتمعات النامية فى الأطراف ومن بينها الأقطار العربية، مما أدى إلى مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة فى هذه المناطق حيث تعانى التفكك الداخلى نتيجة للاندماج الخارجى المشوه والاختراق الرأسى لهذه المجتمعات، الذى يربط اجزاء من الرأسمالية المحلية برأس المال الدولى بينما تتخلف قطاعات أخرى فى المجتمع مما يزيد من حدة الاستقطاب الداخلى، ويهمش أجزاء كبيرة من السكان. ومن المهم أن نتفهم تأثير العولمة على الوطن العربى ونستشرف آفاق المستقبل على ضوء هذا التأثير والمدى الذى ستصل اليه هذه الظاهرة فى بلادنا. اقتصاديا: تزايد الديون الخارجية، وتزايد الاعتماد على الخارج، واتساع نطاق ظواهر البطالة والإفقار والتهميش، وخضوع الاقتصاد الوطنى بدرجات متزايدة لهيمنة الشركات المتعدية الجنسية والمؤسسات الاقتصادية الرأسمالية الدولية. اجتماعياً: انتزاع المكاسب التى تحققت للطبقة العاملة والفئات الوسطى فى مرحلة التنمية الوطنية، وخاصة ما يتصل فيها بالأجور وحق العمل الدائم والتأمينات الاجتماعية والتأمين الصحى، وما ترتب على ذلك من تزايد حدة الصراع الطبقى والتوترات الاجتماعية والعنف والتعصب الدينى والعرقى. سياسياً: انحسار الدولة من مجالات الإنتاج والخدمات والدعم، وضعف قدرتها على المحافظة على مستوى معيشة أغلبية السكان، وعجزها عن مقاومة الضغوط الخارجية، واختراق المؤسسات الدولية والشركات متعدية الجنسية للمجتمعات العربية مباشرة متخطية الدولة، وما يترتب على ذلك من آثار بالنسبة لاستقلالية القرار الوطنى. ثقافيا: رغم التطورات الإيجابية فى الحقل الثقافى الناجمة عن تطور وسائل الاتصال والمعلومات والإعلام ودورها فى نشر الثقافة والقيم الإنسانية المشتركة، وحل العديد من المشاكل فى مجالات التعليم والتربية والثقافة، فإن هذه التطورات تحمل من جهة أخرى ما يثير القلق بالنسبة للشعوب العربية التى تتعرض ثقافتها لمؤثرات خارجية قوية تحمل معها قيما وانماطا من السلوك تدعم نمط الثقافة الاستهلاكية الرأسمالية، وتستوعب الشعوب العربية فى إطار المنظومة الرأسمالية العالمية فكريا وثقافيا ووجدانياً وتستفز تيارات فكرية وسياسية متعددة تعتبر ذلك تهديداً للثقافة العربية وجذورها الممتدة فى التاريخ البعيد والقريب، وتحرمها إمكان التطور المستقل. وختاما فإن ما ستشهده أقطارنا العربية من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية سيحدد ما ستصل اليه بلادنا فى ظل العولمة هل هى قدر محتوم ام مجرد صفحة فى مسيرة البشرية؟!. لمزيد من مقالات عبد الغفار شكر