نجت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماى من اقتراع بسحب الثقة منها فى حزب المحافظين الحاكم... لكن بأى ثمن؟. فثمن النجاة يبدو أنه سيقود فى نهاية المطاف إلى غرقها. فخلال ساعة، بين الخامسة والسادسة مساء يوم الأربعاء، وقبل تصويت نواب حزب المحافظين على سحب الثقة منها، اضطرت ماى تحت الضغط للتسليم بأنها لن تكون على رأس الحزب خلال الانتخابات العامة المقبلة 2022. أى بعبارة أخرى وافقت على طلب لطالما رفضت الموافقة عليه، وهو تنحيها عن زعامة الحزب ورئاسة الوزراء قبل الانتخابات العامة المقبلة لأن الكثير من أعضاء حزبها يعتقدون أنها ستقودهم لهزيمة أسوأ حتى من النتائج الهزيلة التى عانوها عندما دعت لانتخابات مبكرة فى يونيو 2017. تجاوزت ماى عقبة سحب الثقة بدعم 200 نائب لها من حزب المحافظين، مقابل 117 صوتوا ضدها. لكن لا شيء يدعو للسعادة عندما يصوت ثلث نواب الحزب فى البرلمان ضد زعيمة الحزب ورئيسة الوزراء، خاصة أن غالبية هؤلاء تعهدوا بإسقاط اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبى (بريكست) عندما تطرحها ماى على البرلمان فى يناير المقبل. فحزب المحافظين أو «الحزب المؤذي»، كما يطلق عليه البعض فى بريطانيا بسبب عدم رحمته فى التعامل مع زعمائه عندما يفقدون قدرتهم على الفوز فى الانتخابات، نادراً ما يتعاطف مع زعيم فى طريقه للأفول السياسي. وربما أطلقت تيريزا ماى الرصاص على نفسها عندما اضطرت تحت الضغوط للتسليم بأنها لن تقود الحزب فى الانتخابات العامة المقبلة مساء الأربعاء فى لندن، ثم عندما كررت نفس التأكيدات صباح الخميس فى بروكسل. فالمنافسة على خلافتها بدأت بعد ساعات من إعلانها. ولن يمر وقت طويل حتى تمر ماى بما مرت به رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت ثاتشر، التى صادف نوفمبر الماضى الذكرى الثامنة والعشرين لإطاحتها بها من زعامة حزب المحافظين فى عام 1990على خلفية خلافات عميقة داخل الحزب حول أوروبا. ويقول جون ويتندال، مستشار ثاتشر السياسي، إن هناك «تشابهات» كبيرة بين ماى وثاتشر. فبخلاف أن العلاقة مع أوروبا كانت قلب الخلاف، عانت ثاتشر، كما تعانى ماى الآن من استقالات فى حكومتها مهدت الطريق للإطاحة بها. فقد استقال نائب رئيس الوزراء جيفرى هاو ووزير الخزانة نايجل لاوسون من حكومة ثاتشر، كما استقال من حكومة ماى وزيرا البريكست ديفيد ديفيز ودومنيك راب، ووزير الخارجية السابق بوريس جونسون ووزيرة العمل والمعاشات آستر ماكفى، إضافة لعدد آخر من وزراء الدولة ونواب الوزراء. وقبل 28 عاماً كتب ماكس هيستنج، رئيس تحرير «ديلى تلجراف» عن أزمات ثاتشر المتلاحقة قائلاً: «كان من الواضح أن سلطتها تتبخر ... كانت هناك أجواء من الخوف، خاصة بين نواب حزب المحافظين فى الدوائر الانتخابية الذين يشعرون بأن موقف الحزب ضعيف فيها ويمكن أن يتعرض للهزيمة خلال الانتخابات العامة المقبلة تحت قيادتها».وفى مقالة له هذا الاسبوع فى صحيفة «التايمز» عن ازمات ماى المتلاحقة، أعاد هيستنج نشر هذه الفقرة وقال إنها تنطبق على ماى بنفس الدقة التى انطبقت بها على ثاتشر. ويلاحظ هيستنج أن التصميم والعناد يمكن أن يكون «انتحارياً» فى السياسة. وقد وقعت ثاتشر فى الفخ. فقد أصرت علي فرض ضرائب جديدة على إنجلترا وويلز، بالرغم من أن هذه الضرائب أثارت فوضى فى اسكتلندا وأعمال الشغب فى لندن. كما عارضت ثاتشر بشدة إعادة توحيد شطرى ألمانيا وفكرة الاتحاد النقدى الأوروبي، مما أثار توترات من شركاء بريطانيا الأوروبيين، برغم أن بريطانيا لم يكن لديها أى قدرة على منع وحدة شطرى ألمانيا أو إنشاء الآلية الأوروبية للوحدة النقدية التى فتحت الباب لاعتماد عملة أوروبية موحدة هى اليورو. ثم كان هناك استياء من تأكيد ثاتشر العلنى فى نوفمبر 1989 أنها تخطط لقيادة حزب المحافظين فى الانتخابات العامة المقبلة، بالرغم من أن حزب العمال المعارض كان يتقدم على المحافظين فى استطلاعات الرأى بعشر نقاط. وفى الشهر التالي، ديسمبر 1989، حدث أول تحد لثاتشر على زعامة الحزب على يد السير أنتونى ماير الذى حصل على 33 صوتًا مقابل 319 لثاتشر. وبرغم فوزها الكبير كان تحدى زعامتها بحد ذاته إشارة على أن أيامها فى السلطة بدأت فى النفاذ. وخلال الأشهر التى تلت ذلك، يروى هيستنج، الذى كان مصدر المعلومات حول الصراعات داخل حزب المحافظين بوصفه رئيس تحرير «ديلى تلجراف» الصحيفة المقربة جداً من المحافظين، يروى أن مسئولين كانوا يقولون له فى أحاديث ثنائية عن ثاتشر «لقد جُنت»، مشيرين إلى أنها أصبحت «حصناً منيعاً» أمام النصيحة، وتستمع إلى عدد قليل جداً من المستشارين، وتعتقد أنه لا يمكن الاستغناء عنها. لقد وصلت ثاتشر لقمة الهرم السياسى فى بريطانيا بعد سنوات من العزم والعمل الدءوب والعناد فى ظروف صعبة لا تمنح المرأة عادة تلك المناصب المهمة، وكانت زعيمة ذات رؤية وكاريزما. لكن بعدما تسلقت جبل السلطة الوعر، وبقيت على قمته 11 عاماً، افترضت ان هذه الصفات وحدها كافية لإبقائها إلى اجل غير مسمي. ويقول هيستنج إنه لم يكن لدى نواب حزب المحافظين أى شك فى أن ثاتشر أعظم رئيس وزراء لبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن مع ذلك كان هناك «تعب» من قيادتها. كما أن البريطانيين، بعد 11 عاماً من حكم ثاتشر الحافل بالتغييرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، كانوا يريدون «رئيس وزراء ألطف»، وأقل حدة واستقطاباً سياسياً. وفى 1 نوفمبر 1990، استقال السير جيفرى هاو من منصب نائب رئيس الوزراء. وألقى كلمة فى مجلس العموم انتقد فيها «أسلوب» ثاتشر فى الحكم، وتسلطها وعنادها وأنها «لا تستمع» لما يقوله أعضاء الحزب. ووصف المحلل السياسى بيل ديديز ذلك الخطاب بأنه من النوع « الذى يؤدى إلى إسقاط رؤساء الوزراء». وفى 14 نوفمبر، أعلن مايكل هيزلتاين وزير الدفاع السابق الملقب ب «طرزان» بسبب طول قامته وشعبيته الكبيرة فى البلاد تحدى ثاتشر على الزعامة. وبعد 6 أيام، تم الإعلان عن نتائج الاقتراع، إذ حصلت ثاتشر على 2014 صوتاً، فيما حصل هيزلتاين على 152 صوتاً، وامتنع 16 عن التصويت. وعلى الرغم من أن ثاتشر تعهدت بالاستمرار فى منصبها وتحدى معارضيها وكانت كل عناوين الصحف تحمل هذه العبارة أو عبارات مشابهة «ثاتشر تقاوم دعوات الاستقالة»، إلا أنه فى يوم 22 نوفمبر استسلمت تاتشر لضغوط حزبها واستقالت. وبعد الإطاحة بها كانت هناك أجواء صادمة فى الشارع البريطاني، ومشاعر متناقضة بين الحزن والتعاطف والارتياح. و اتهم كثيرون حزب المحافظين ب»خيانة» المرأة التى قادته للفوز فى الانتخابات المرة تلو الأخري. وحمل آخرون مايكل هيزلتاتن، مسئولية اسقاطها بهذه الطريقة المهينة. لكن فى الحقيقة ما أسقط ثاتشر هو خطاب جيفرى هاو أمام البرلمان. فقد اعتبر هذا الخطاب نزعا «للسلطة الأخلاقية» عن ثاتشر كى تحكم. ويقول هيستنج إنه على الرغم من أن المقارنة بين ثاتشر وماى ظالمة لثاتشر، التى ما زالت تُعد حتى اليوم أحد أعظم رءوساء الوزراء فى بريطانيا، لكن الدرس المستفاد من أحداث 1989 و1990 هو أن هناك لحظة، حتى لو احتفظ فيها زعيم الحزب ب «أغلبية ورقية»، كما حدث مع ماى ليلة الأربعاء الماضي، فإن وقته فى السلطة يكون فى بداية العد التنازلى «فبمجرد أن تنتهى السلطة الأخلاقية فمن غير اللائق ومن العبث محاولة الاستمرار». مرة سُئل رئيس الوزراء البريطانى الأسبق جون ميجور هل يأسف أحيانا لأنه أصبح رئيساً للوزراء فى تلك الأوقات العصيبة بعد الإطاحة بثاتشر لتولى إدارة البلاد وسط تلك الأمواج العاتية؟، فرد قائلاً: «نعم، أشعر أحياناً بالأسف». ويقول هيستنج إن ماى ربما ستقول نفس الشيء يوماً ما. فهى تقود سفينة البلاد وسط أمواج عاتية، لكنها تقودها بدون ما يكفى من التوافق. فهي، مثل ثاتشر، محاطة بعدد قليل من المستشارين والمقربين لا تستمع إلا لهم. كما أنها تتمتع ب «عناد انتحاري»، فعلى الرغم من أنها تعلم منذ الصيف الماضى ان غالبية الحزب والبرلمان لا تدعم خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبى أصرت عليها برغم كل شيء. وحالياً تواجه بريطانيا خيارات صعبة مع مطلع 2019 من بينها الخروج دون اتفاقية أو اجراء استفتاء شعبى ثان أو حتى انتخابات مبكرة. لقد ضمنت ماى أنها ستقضى هذا الكريسماس واحتفالات السنة الجديدة فى «10 دواننج ستريت» ومقر رئيس الوزراء الريفى فى «تشيكرز»، لكن احتمالات أن تكون ماى فى نفس العنوان العام المقبل تتضاءل بشكل متزايد. لكنها لن ترحل دون معركة. فرئاسة الوزراء هى أكبر جائزة يمكن أن تقدمها السياسة البريطانية لسياسى محترف، وترك رئاسة الوزراء هو الجزء الأصعب. فحتى المرأة الحديدية غلبتها الدموع وهى تغادر لآخر مرة «10 دواننج ستريت».