من المثير للإعجاب أننا نمتلك تجربة تعليمية عريقة، تمتد بجذورها إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر، وبالتحديد فى عصر محمد على (1805 1848)، وربما الأشد عجبا أن التجربة قد استفاد منها الإمبراطور اليابانى والمعروف الميجى فى تجربته الإصلاحية للمجتمع اليابانى والتى بدأت عام 1868 وبها وضع اليابان على طريق النهضة والتقدم، ولقد اعترف الإمبراطور باستفادته من تجربة محمد على بكل إيجابياتها وسلبياتها، وكان ما كان من التجربة اليابانية العملاقة، ويعد التعليم هو العامل الرئيسى والحاسم فى النهضة اليابانية ولا يزال. أما تجربتنا التعليمية فلقد تعرضت لعشرات العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والتى كانت تعمل فى اتجاهات لم تكن فى مصلحة هذه التجربة، بل شكلت أهم معوقاتها، وبالتالى لم تحقق التجربة التعليمية المصرية الأهداف المتوقعة والمنشودة منها، وذلك عند مقارنتها بالتجارب الأخرى الأحدث منها، وعلى وجه الإجمال يكشف التتبع التاريخى للتعليم المصرى أنه فى الغالب الأعم كان ولا يزال يعانى العديد من السلبيات نتيجة التراكمات التاريخية التى ورثها، والظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التى عاشها ويعيشها، عملت على اهتزاز بنيانه، واضطراب سياسته، وعدم استقراره محتوى وتنظيما، ومنها على سبيل المثال: اعتماده على المحاكاة والنقل، وتقديم المعلومات للحفظ والاستظهار، لا المعارف والحقائق الباعثة على التفكير والعقل، باختصار لا يزال يعمل من خلال «ثقافة الذاكرة» لا «ثقافة الإبداع» وينزع فى التفكير الأحادي، لا المعقد، يبحث عن ماذا؟ لا عن كيف؟ ولماذا؟ إنه كان ولايزال يعيش رد الفعل فى تعامله مع الظروف والأحداث الطارئة، ومن ثم يتعرض لتعديلات كثيرا ما يتم العدول عنها لتعديلات أخري، مما أدى ويؤدى إلى عدم استقرار السياسات والقرارات حول التعليم الذى تفرض طبيعته الاستقرار والتأنى فى اتخاذ القرارات. إنه كان ولا يزال يحمل بذورالطبقية والثنائية البغيضة التى لا تقف عند حد الطبقية بين الفقراء والأغنياء، وإنما إلى المعرفة الإنسانية ويتجلى هذا بوضوح فى الفصل المصطنع بين فروعها، دون إحداث التكامل بينها، كما أنه يعانى الازدواجية بين الدينى والمدني، الحكومى والخاص، الفنى والعام، وغيرها من الازدواجيات التى تعمل على تفتيت التوازن الاجتماعى وتكريس وتهديد قيم وأخلاقيات المواطنة، وفى اطار من الطبقية، والتفاوت الاجتماعي، والرغبة فى التميز الثقافي، والتعامل وفق أيديولوجيات السوق، أصبح التعليم سوقا، وتجارة رابحة، فكثر إنشاء المدارس والجامعات الخاصة على يد من يمتلكون القدرة على إنشائها، رغبة فى المزيد من الغنى والثراء. كما أن محتوى التعليم وصياغته وفق ثقافة الذاكرة والاستظهار، وصياغة الامتحانات بالطريقة التقليدية القائمة أيضا على الحفظ والاستظهار يعد من أهم عوامل انتشار الدروس الخصوصية بكل ما تحمله من أخطار على جميع المستويات التربوية والتعليمية، الثقافية والاقتصادية مما يجعل منها وبكل المعايير من أخطر الكوارث فى جسم التعليم والمجتمع المصري، إلى آخر هذه المظاهر السلبية لتعليمنا المصرى والتى شكلت ما يمكن اعتباره مرضا عضالا يعانى منه، نتيجة تراكمات تاريخية، ثقافية ومجتمعية، سياسية واقتصادية. ولن نتخلص من هذا وغيره، إلا بالتغيير الجذرى لمنظومة التعليم ومقاومة الثقافة السائدة حول هذه المنظومة، والقيام بعمليات التطوير وفق استراتيجية تأخذ فى اعتبارها كل الأبعاد والمعطيات ومن خلال الحوار القومي، فقضية التعليم أخطر من أن يعيش رد فعل أحداث معينة، وإنما لابد أن يمتلك الفعل والتأثير فى مختلف الميادين والمجالات، لأنه بالتعليم يمكن أن نتغلب على كل ما نعانيه من أزمات ومشكلات، هذه هى الحقيقة التى يجب علينا جميعا إدراكها والعمل من خلالها ضمانا لإثبات الوجود، وامتلاك عناصر القوة فى عالم لا يعترف إلا بالقوة علميا ومعرفيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا، والتعليم هو الرهان الوحيد لامتلاك هذه القوة. لمزيد من مقالات ◀ د. محمد سكران