يحتفل العالم فى هذه الآونة بمناسبتين على جانب كبير من الأهمية، الأولى مرور مائة عام على ميلاد الزعيم الأسطورى نيلسون مانديلا والثانية ذكرى مرور سبعين عاما على الإعلان العالمى لحقوق الانسان. وارى ارتباطا كبيرا بين رمزية المناسبتين، فكلاهما يمثل علامة فارقة فى تاريخ الإنسانية. ولا يخفى على احد العلاقة المهيبة بين مانديلا الأسطورة، الأيقونة التاريخية، وتجسيد فكرة النضال الإنسانى من أجل الحق والعدل والحرية، بئر الآلام وملحمة القدرة على الاحتمال والتحمل والتسامح الانسانى وعلاقة كل هذه القيم الخيرة العظيمة وهذه الروح الحرة المعجونة بالإيمان بقوة بمعانى الحرية النبيلة مهدت الطريق وحفرت فى الصخر لتشق درب حقوق الانسان فى العالم كله. فقد ولد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان من رحم أهوال الحرب العالمية الثانية ليؤكد الاعتراف بحق كل إنسان فى الكرامة، ومن هذا الحق انبثقت حزمة من الحقوق الإنسانية الأساسية ، غير قابلة للتصرف او التجزئة، منها، الحق فى الحياة ، والحق فى الهوية، والحق فى الحصول على المعرفة والحق فى حرية التعبير الثقافى والدينى وغيرها. وعلى الرغم من ان الإعلان العالمى لحقوق الانسان مجرد إعلان مبادئ وليس اتفاقا يرتب توقيعه قوة ملزمة،، فإنه اكتسب قيمة وقوة معنوية كبيرة عندما احتضنته جميع دول العالم بينها مصر، التى شاركت فى صياغته. وبمرور السنين زادت قناعة الإنسانية بالحاجة اليه ومن رحمه خرجت اتفاقيات تتمتع بقوة الإلزام القانونى للدول المصدقة عليها. ففى الستينيات انبثق عنه العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن العهدين تفرعت اتفاقيات تحمى حقوق فئات عانت من الظلم والتهميش منهم ضحايا التمييز العنصرى، والتعذيب، والعمال المهاجرين، وضحايا الاختفاء القسرى، والنساء، والأطفال، وذوى الإعاقة، وكلها اتفاقيات شاركت مصر فى صياغتها. وتلتزم الدول المصدقة عليها باتخاذ تدابير تشريعية وإدارية ومالية وغيرها لتنفيذ الحقوق التى تكفلها هذه الاتفاقيات. وبموجب هذه الاتفاقيات تشكلت لجان، تشارك مصر أيضا بخبرائها فى عضويتها، ترصد تنفيذ الدول الأطراف للحقوق المنصوص عليها وتعاونها على التغلب على المعوقات. ومن تجربتى كخبيرة لثمانى سنوات،بإحدى هذه اللجان، أراها تماثل غرف المحاكمة، يتم الإعداد لها بعناية فائقة، تتسم مناقشتها بالعمق والجدية وتحضرها منظمات المجتمع المدنى ووسائل الاعلام. واكتملت ملامح نظام متكامل لحقوق الانسان بإنشاء مجلس حقوق الانسان الذى تقدم اليه تقارير المتابعة الدورية الشاملة والتى تمثل تلخيصا لكل التقارير المقدمة الى اللجان المختلفة لتحقيق التكامل فى تقييم حالة حقوق الانسان فى الدول التى ارتضت الانضمام. وأضحت هذه المنظومة ،رغم قصور بعض جوانبها، تمثل قصة نجاح للأمم المتحدة التى تعثرت فى مواقع اخرى عديدة. فبفضل الإعلان العالمى لحقوق الانسان اصبح الانسان، بصرف النظر عن جنسه او دينه او عرقه، ومهما يبلغ ضعفه او فقره او اعاقته، صاحب حقوق واجبة الاداء وأصبحت حكومته تتحمل المسئولية الرئيسية عن تنفيذ هذه الحقوق وجعلها حقيقة واقعة. هذه القيم والحقوق جسدها الزعيم العظيم نيلسون مانديلا الذى كان لى شرف الاقتراب منه وربطتنى به علاقة إنسانية اعتز بها كثيرا. ادين له بالتعلم منه عبر خمس سنوات ونيف عملت خلالها كسفيرة لمصربجنوب إفريقيا فى فترة حفلت بالأحداث. فبالقرب من مانديلا تعلمت قيمة التواضع ووضوح الرؤية والهدف، وقيمة المجتمع المدنى وإسهاماته فى الوفاء بحقوق الإنسان وبالقرب من مانديلا رأيت اهتمامه بالطفل الذى أنشأ من أجله صندوق نيلسون مانديلا للأطفال وكان يتبرع براتبه كاملا للصندوق. فعن قرب سمعت شكوى مانديلا من تدنى جودة التعليم التى يحصل عليها أطفال بلاده الافارقة مقارنة بالأطفال من أصول أوروبية خاصة فى العلوم والرياضيات، ورأيت اهتمامه بحق هؤلاء الأطفال فى الرياضة واللعب. وكانت حقوق أطفال سويتو المهمشين وفى مقدمتها الحق فى الكرامة دائما نصب عينيه، وكان إيمان مانديلا بحقوق الانسان راسخا لا يتزعزع، كان منطقه يتسم بالقوة فى سلاسته ووضوحه. دافع باستماته عن حق د. بطرس بطرس غالى فى ان يترشح لفترة ثانية أميناً عاما للامم المتحدة الذى كان له الفضل فى بدء جهود إصلاح الاممالمتحدة والترتيب لعقد مؤتمر فيينا لحقوق الانسان عام 1993 والذى حرص مانديلا على حضوره وإلقاء كلمة، وكان من اهم إنجازات المؤتمر انشاء منصب المفوضية السامية لحقوق الإنسان والتى تعد بمنزلة الأمانة العامة لمنظومة الاممالمتحدة لحقوق الانسان. وكان مانديلا يدين بفضل كبير للدكتور بطرس بطرس غالى. وبالاقتراب من مانديلا لمست الدور الرائع الذى قام به لاعلاء الحقوق الثقافية، عندما تمسك بهويته الإفريقية يفاخر بها، ولم يلتفت للانتقادات وظل مرتديا قميصه الافريقى، يشارك الزعماء والقادة مرتديه مثلما يشارك الشعب فى مختلف المناسبات ببساطه وعفوية وأناقة منقطعة النظير. ورغم تجاوزه منتصف الثمانين وهو رئيس للجمهورية، ورغم المتاعب الصحية التى خلفها حبسه 27 عاما فى زنزانة صغيرة غير آدمية، ظل مانديلا شامخا يرقص مع الجماهير برشاقة وتناغم رائع فى ارقى أنواع التعبير الثقافى. وانتشرت الثقافة الإفريقية خلال سنوات حكم مانديلا الأربع، واكتسبت احتراما وعشقا فى مختلف أنحاء العالم ، وتسابقت اعرق دور الأزياء العالمية لمحاكاة قميص مانديلا واقتباس التصميمات الأفريقية فى الملابس والأثاث والتحف. وازدادت عالمية الأغنية والموسيقى والرقص الافريقى. وفى عهد مانديلا وضعت بلاده دستورا لايزال يعد من اكثر الدساتير قوة فى مجال حقوق الانسان والحريات العامة. دستورا يعد ترجمة امينة للإعلان العالمى لحقوق الانسان، تتسم نصوصه بنفس القوة والوضوح، دون مواربة او تحفظات. ولم يقف الدستور عند الوثيقة او الرمز بل ترجم لأرض الواقع بكل قوة وامانة، وفى كل المناسبات الوطنية كانت كلمات مانديلا تعبيرا عن الحكمة والإيمان بحقوق الانسان. كانت كل تصرفات مانديلا ترجمة أمينة ومخلصة لحق كل إنسان فى الكرامة وكل الحقوق الانسانية، وبلغت كرامة مانديلا من القوة قدرا عظيما أتاح له ان يغفر اخطاء وغطرسة آخرين لا يتمتعون بقوته ولا بشعبيته ولا بحكمته. لقد كان مانديلا وسيظل ملهما، قدم نموذجا حيا لما يرمز اليه الإعلان العالمي لحقوق الانسان. لمزيد من مقالات د. مشيرة خطاب