فى فرنسا قامت أول ثورة عمالية فى التاريخ؛ ففى 18 مارس عام 1871 أعلن ميلاد كوميونة باريس, وتم رفع علم أول دولة عمالية على مبنى بلدية باريس. وسيطر الفزع على العالم الرأسمالى الأوروبى خوفا من انتشار هذه الموجة فى أوروبا؛ مثلما حدث مع ثورات 1848 التى انطلقت من باريس، وعمت مختلف المدن والعواصم الأوروبية، تدعو لإقامة سلطة العمال، والتخلص من الإقطاع، وقد أشعل هذه الثورات البيان الشيوعى الذى كتبه كارل ماركس، وصديقه فريدريك إنجلز عام 1848، وتم نشره في1848. ورغم أن كوميونة باريس لم تستمر أكثر من 72 يومًا فقط، حيث سقط آخر مقاتليها فى 28 مايو 1871، إلا أنها فى هذه الأيام القليلة استطاعت أن تقدم نموذجا تاريخيا للثورة العمالية ضد المظالم الاقتصادية، وظل هذا النموذج يلهب خيال الاشتراكيين الثوريين حتى تاريخنا هذا. فى عام 2006 نشرتُ كتيبا عنوانه: الاتجاهات المعاصرة فى السياسة المقارنة: التحول من الدولة الى المجتمع، ومن الثقافة الى السوق. كانت الفكرة المركزية فيه أن من أهم نتائج العولمة، وثورة الاتصالات والمواصلات، والثورة التكنولوجية أن نظم الحكم سوف تشهد تحولا جذريا؛ سيكون فيه المجتمع أهم من الدولة ومؤسساتها, بصور تقود الى تهميش دور الدولة، وتقوية دور المجتمع ممثلا فى القطاع الخاص، ومؤسسات المجتمع المدنى، وإلى تقليل الاعتماد على الدولة، ومن ثم يكون لدينا نموذج لمجتمع قوى ودولة ضعيفة، وسيتم التحول من الاهتمام بالثقافة السياسية؛ باعتبار أنها المحرك الرئيسى لتوجهات الحكم والسلطة الى السوق بصفته هو مركز تحريك وتوجيه الحكم والسلطة، ومن ثم الدولة. هذا التحول الضخم فى طبيعة نظم الحكم حدث فى معظم دول العالم، إلا العالم العربى الذى أدت ثورات ربيعه المشئوم الى العودة الى انهيار المجتمع أو تفككه وتشرذمه، ودخوله فى حالة احتراب داخلى، وحتى الدولة لم يعد الاهتمام منصبا على وظائفها وأدوارها, بل أصبح مركزا بصورة أساسية على إعادة بنائها، وترسيخ أركانها بعد أن أوشكت على السقوط فى سوريا واليمن، أو سقطت بالفعل فى ليبيا. وعلى الرغم من أن الحراك العالمى يتجه للسير مع التحولات الجديدة فى طبيعة دور الدولة ووظائفها، بالتركيز على المجتمع أكثر من الدولة، وعلى الاقتصاد أكثر من السياسة، وعلى السوق وآلياته أكثر من الأيديولوجيا ... فإن النخبة الحاكمة فى فرنسا, والتى جاءت من خارج البنية الحزبية التاريخية, ذات الخبرة والتجربة, فالرئيس ماكرون جاء من حزب جديد, خاض الانتخابات لأول مرة, ففاز برئاسة فرنسا، وخلفيته المهنية رأسمالية شرسة، فقد عمل ماكرون فى أحد بنوك عائلة روتشيلد أغنى عائلات العالم، التى تتحكم فى البنوك المركزية لعدد من الدول الغربية بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية. هذه الخلفية الرأسمالية المتعالية دفعت الرئيس الفرنسى إلى التركيز على إعادة أمجاد فرنسا فى أوروبا، وإفريقيا، والعالم، وصار تركيز حكومة ماكرون منصبا على الدور القيادى فى أوروبا، بل ومواجهة الولاياتالمتحدة تحت قيادة ترامب؛ من خلال الدعوة الى تأسيس جيش أوروبى، بديلاً عن حلف الأطلنطى الذى تقوده الولاياتالمتحدة، وانشغل ايضا فى التدخل فى ليبيا لمواجهة النفوذ الإيطالى، بل إنه انساق وراء الدعاية التركية، وتورط فى توظيف مقتل الصحفى السعودى جمال خاشقجى ضد المملكة العربية السعودية... كل ذلك يقدم الأدلة على أن حكومة السيد ماكرون تسير عكس حركة التاريخ، والتحولات الكبرى فى دول مثل الولاياتالمتحدة والصين، حيث التركيز الأول على الاقتصاد، والتنمية، وخلق الوظائف، والسياسات الاجتماعية.... ففى حين يهبط مستوى البطالة فى الولاياتالمتحدة الى مستوى لم تشهده منذ 49 عاما، نجد السيد ماكرون وحكومته يفرضون المزيد من الضرائب، ويرفعون الأسعار. إن ما يحدث فى فرنسا الآن ينتقل الى دول أوروبية أخري, هو فى حقيقته رد فعل طبيعى على سياسات لم تفهم طبيعة التحولات الكبرى فى العالم، وأن لغة السياسة فى هذه العصر هى لغة اقتصادية, تتم ترجمتها فى مظاهر محددة هي: توفير الوظائف، ورفع مستوى المعيشة، تقديم الخدمات، تأمين الرعاية الاجتماعية، وضمانات التقاعد....الخ، كل ذلك يتطلب سياسات تقوم على توفير موارد للدولة من خلال تفعيل الوسائل الاقتصادية والاستثمارية، وليس من خلال المزيد من الضرائب، والمزيد من رفع الأسعار. لقد أصبحت الشعوب تحرص على ضمان تأمين المخرجات الاقتصادية لسياسات الدول، وليس المدخلات الديمقراطية لصناعة هذه السياسات، فليس المهم المشاركة فى صناعة هذه السياسات، فالسيد ماكرون جاء الى الحكم من خلال مشاركة المواطنين فى التصويت والاختيار... ولكن الأهم عند المواطن هو ماذا ستقدم الحكومة له فى الجانب الاقتصادى، وليس ما ستقدمه على مستوى الإيديولوجيا السياسية، أو الشعارات الوطنية، أو الدور الدولى...الخ لابد أن يدرك الجميع أن عملية الحكم، والسلطة، وإدارة الدولة أصبحت تُقاس بما تقدمه للمواطن على المستوى الاقتصادى والمعيشى، ولم يعد ذلك المواطن قابلا لاستهلاك الشعارات والأدوار والأوهام. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف