لم يرتبط مكان بأديب مثلما ارتبطت القاهرة بنجيب محفوظ ولم يقترن إنتاج أديب بمدينة قدر اقتران أدب نجيب محفوظ بالقاهرة، بأحيائها وشوارعها وحاراتها وأزقتها. وبرغم ثراء شخصيات روايات نجيب محفوظ، إلا أن الأماكن لعبت أدوارا لا تقل عن أدوار الشخصيات الإنسانية، فاختيار أسماء شوارع وأحياء وحارات من صميم القاهرة كعناوين لخمس روايات لنجيب محفوظ، لم يأت اعتباطا، ففى القاهرة تبدو المناطق التى اختارها لأحداث رواياته، متفاعلة ومشاركة وليست مجرد عناوين، فتبدو وكأنها أحد أبطال العمل القصصي، بل ربما - إن جاز التوصيف- نطلق على كل مكان منها لقب البطل الأكبر وإن لم تجر على ألسنتها ثمة جمل حوارية. كانت أولى الروايات التى حملت اسم منطقة فى القاهرة هى رواية «خان الخليلي» الصادرة فى سنة 1946 ثم تلتها رواية زقاق المدق فى عام 1947 ثم مرت سنوات تسع حتى خرجت الثلاثية «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية» كأشهر أعماله فى عامى 1956 و1957. «من خان الخليلي» وحسب طبيعة الأمور فقد تغير الحال عما ورد فى تلك الروايات، فلم يعد خان الخليلى حيا سكنيا بالمرة وهو الذى كانت قد آوت إليه أسرة الموظف أحمد عاكف هاربة من جحيم غارات الحرب العالمية الثانية التى امتدت إلى القاهرة وضربت حى السكاكينى الذى كانت تسكنه الأسرة، لتلجأ إلى السكن فى حمى آل بيت النبى فى جوار سيد شباب الجنة، حيث «حى الدين والمساجد، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين» فهذا ما ورد على لسان الأب ليبرر لابنه الانتقال من السكاكينى إلى حى خان الخليلى الملاصق لمسجد سيدنا الحسين. وتلاحظ فى الرواية أن الصخب الذى تكاد تسمع ضجيجه فى وصف نجيب محفوظ لخان الخليلي، يبقى الآن كما هو مع أن أحداث الرواية بدأت فى سبتمبر 1941، عقب اندلاع الحرب التى فرضت على القاهرة أن تكون أحد مسارحها بالرغم من أنه لم تكن لمصر فيها ناقة ولا جمل. إنه الصخب المميز لخان الخليلى القادم من الطرقات الضيقة التى تفصل ما بين الدكاكين والمقاهى المكتظة والشوارع التى تغلق سماءها الشرفات. الآن اذهب إلى خان الخليلى ستجده بالصخب نفسه ولكن من غير سكان، فقد هجر الأهالى خان الخليلى وتحولت منازله إلى بازارات ومحال ولوكاندات وكافيهات وأتيليهات ومخازن، فكل متر.. لا.. بل كل سنتيمتر، صار له ثمنه الباهظ فى واحد من أشهر مناطق الجذب السياحى وصار الباحث عن مكان للشراء أو للإيجار فى خان الخليلى يمكن أن يواجه باتهام بالغفلة والبله لأن أحدا من أصحاب الأماكن هناك يمكن أن يتهم بالسفه والجنون إذا ما فكر فى بيع مكانه بعد أن صار خان الخليلى يشغل قلب أكبر وأنشط وأشهر منطقة تجارية فى مصر تعمل على مدى لا يقل عن 16 ساعة متصلة يوميا طوال أيام السنة وتظل فى المواسم الكبرى لاسيما فى مولد الحسين وليالى رمضان لا تكاد تجد فيها موضعا لقدم وكلما ازدحمت ازدادت جاذبيتها فكان الناس يؤمون هذه الأماكن حبا فى الزحام. ليس هذا هو حال الخان فقط، بل صار حال القاهرة القديمة التى اتخذ محفوظ من بعض اللافتات المعدنية الزرقاء الملصقة بجدران مبانيها العتيقة عناوين أشهر رواياته. الآن صارت القاهرة الفاطمية التى شغلت ومازالت تشغل المبدعين فى كل فن، مركزا تجاريا تتلاشى فيها الحياة الاجتماعية يوما بعد يوم، فقديما كانت تتجاور الأسواق مع المساكن الأهلية وكانت الوكالات تتداخل مع البيوت ولكن أمام سطوة النشاط التجارى الذى ارتبط بأسواق الأزهر منذ عهد بعيد، تكاد القاهرة القديمة تكتفى بماضيها الاجتماعى الثرى دون الحاضر والمستقبل. وليس غريبا أن يحدث ذلك فى مدينة اقتصادية بالدرجة الأولي، فحتى أسماء الأحياء والشوارع والحارات والدروب والأزقة والعطفات، تجد الأنشطة الاقتصادية تغلب على أسمائها منذ عهود بعيدة، فهناك النحاسين والسكرية والصاغة والصناديقية والشماعين والمغربلين والفحامين والسروجية وكثير منها أصبحت فقط أسواقا تمتد على طول وعرض القاهرة المحفوظية. «خلاء الأحد» وإذا قادتك قدماك إلى هناك ذات يوم من أيام الأحد حيث الراحة الأسبوعية لكثير من الحرفيين والتجار، ستجد الحارات شبه خاوية من ساكنيها وتكاد تخلو من «السابلة» وهو اللفظ الذى يكثر نجيب محفوظ من استخدامه للتعبير عن حال الحركة فى الطرق، فالكثير من هؤلاء السابلة قد باعوا أو تنازلوا عن مساكنهم فى البيوت القديمة بعدما لم تعد تناسب طريقة العيش فى الوقت الراهن، فى مقابل مبالغ باهظة بعد أن أطبقت المنطقة التجارية عليها من مراكزها التقليدية سواء فى الشمال حيث العتبة الخضراء أو من الغورية فى الجنوب. هذا بجانب تضخم مراكز التجارة العتيقة المتناثرة فى قلب الجمالية نفسها!. لن نكون مبالغين لو قررنا أن كل سكان الأدوار الأرضية قد حولوا غرفهم أو شققهم إلى محال أو ورش أو مقاه أو مطاعم، أما الأدوار العليا فيتم استخدامها كمخازن للشركات التى تكدس فيها ما استوردته من مصانع الصين أو الورش التى تبيع منتجاتها عبر منافذ فى المكان نفسه. الآن القاهرة المحفوظية هى قلعة الاقتصاد الشعبى أو ما يطلق عليه «الاقتصاد الموازي» والذى ظل صامدا أمام عوامل التغيير التى ضربت الحياة الاقتصادية فى مصر فى مقتل عقب أحداث ثورة 25 يناير 2011. ولعل هذا الاقتصاد على عشوائيته، هو الذى حفظ المكانة للتجارة بعد أن لاذ بالحارات والأزقة ليحتمى فيها كما احتمى أبطال رواية خان الخليلى من الحرب العالمية الثانية.
«مفاجأة فى الزقاق» إذا قررت أن تذهب لترى بنفسك هذا المكان الشهير «زقاق المدق» والذى ستربط حتما بينه وبين أحداث رواية نجيب محفوظ الذى وضع اسمه عنوانا لها، فقد تشعر بخيبة أمل تصل إلى الظن بأن نجيب محفوظ قد خدعك، فالزقاق لن يستغرق من قدميك سوى بعض خطوات وأنت تنحنى إليه من شارع الصناديقية ولكن الأستاذ نجيب وصفه فى صدارة روايته قائلا: «تنطبق شواهد كثيرة بأن «زقاق المدق» كان من تحف العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً فى تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري. أى قاهرة أعني؟ الفاطمية؟.. المماليك؟.. السلاطين؟.. علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أية حال أثر، وأثر نفيس.. كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصناديقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة «كرشة» تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا القدم باد، وتهدم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذى صار مع مرور الزمن عطارة اليوم والغد». «ومع أن الزقاق يعيش فى شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على الرغم من ذلك يضج بحياته الخاصة، حياة تتصل فى أعماقها بجذور الحياة الشاملة وتحتفظ - إلى ذلك بقدر من أسرار العالم المنطوي». «آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق فى غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقاً أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصناديقية، ثم يصعد صعوداً فى غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهى سريعاً كما انتهى مجده الغابر ببيتين متلاصقين يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة». إذا ما قرأت هذه الفقرات فى مفتتح الرواية ومع أول خطوة فى الزقاق، فلن تبرح الفقرة الأولى حتى تجدك وقد فارقت زقاق المدق بعد أن استدرت للعودة وهو الآن بلا سكان ولكنه جزء من العالم التجارى الرهيب. «الأحياء المحفوظية» لكن الشخصيات التى نحتها نجيب محفوظ من جدران هذا الزقاق هى التى جعلتك تظن أنه حارة عملاقة تمتد فى قلب قاهرة محفوظ، لكن لو أردت الحق، فالمساحات والمسافات هنا لا تقاس بالخطوات، فهذه المنطقة بكل امتداداتها بداية من باب الفتوح وحتى باب زويلة، وإن تبدو قريبة ويمكن أن تقطع المسافة سيرا متواصلا على قدميك فى ساعة أو بضع ساعة، لكن مهما تؤت من قدرة، فلن تستطيع أن تحيط بالشبكة العملاقة المتداخلة بين الشوارع والحارات والأزقة والعطفات، مهما تحاول لن تستطيع بالرغم من بساطة المبانى وكثرة المعالم البارزة من مساجد وأسبلة وتكايا ووكالات وخانات، فستجد نفسك فى هذه المساحة التى يمكن حصرها، أمام تشعبات وامتدادات والتواءات تأخذك من هنا إلى هنا وتسلمك لبعضها البعض حتى تقذف بك إلى أى منفذ من منافذها الخارجية!. هذه هى أحياء وحارات نجيب محفوظ.. نسخ عملاقة من الأبطال، تبدو شديدة البساطة وفى داخلها شبكة من التيه تبدو أحيانا قاسية ولكنك تألفها وتألفك وهى تأخذك فى أحضانها وكأنك وليدها!. لكن بقايا للحياة المحفوظية يمكن أن تجدها فى عناوين الثلاثية، فى بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، لكن بالطبع اختفت المظاهر الرئيسية للحياة التى حدثتنا عنها الروايات، ففى بين القصرين والسكرية، نجد طغيان الحياة اليومية والتجارية والسياحية ولكن فى قصر الشوق الذى هو عبارة عن حارة ممتدة بالتواءات عجيبة ويمكنك التسلل إليها من خلف المشهد الحسينى عبر لتسلك دروب وحارات أم الغلام والفرادين أو خان جعفر، لتفاجأ بلافتة تحمل اسم «قصر الشوق» لكن مظاهر الحياة الشعبية التقليدية القديمة لم تعد فيه كذلك، فلا عربات كارو ولا حمير وبغال وجمال ولا باعة عرق السوس ولا الأشجار السامقة والمزهرة ولا تكاد ترى أثرا للجلاليب التى كان يفضل أولاد البلد من القاهريين ارتداءها وكانت تشبه الجلباب الصعيدى إلا لدى قليل ممن تجاوز السبعين، كذلك لن تجد من يرتدى الككولا ولا الجبة ولا القفطان والتى كان كبار التجار يحرصون على ارتدائها مع الطربوش كأنه زى يدل عليهم كما رأينا السيد عبد الجواد، أما الملايات اللف والبرقع واليشمك فليس لها أى أثر وربما ينوب عنها «الملس» الذى يظهر أحيانا وهو رداء حريمى أسود تلبسه النساء والفتيات فوق ملابس الخروج. «وزمنا زمن الفتوات» إذا أمعنت فى عمق الحارات لتجول فى منحنيات العطوف وكفر الطماعين والزغارى وباب النصر وبهاء الدين، فربما وجدت ملامح تذكرك بما مضى من عصورها الغابرة والتى حدثنا عنها نجيب محفوظ فى حكايات حارتنا والحرافيش وكثير من حكايات مجموعاته القصصية، فهناك أثر من بقايا زمن الفتوات وعمال اليومية تراهم كأنما انشقت عنهم الصفحات النجيبية ولولا السيارات الحديثة وواجهات بعض المحال وضجيج أغانى المهرجانات على المقاهى والمطاعم التى مازال كثير منها تحافظ على شكل «النصبة» ذلك البناء البسيط من الأخشاب والخيش والكرتون المقوي!. «جماليات العمر» ستبرح الجمالية عبر باب الفتوح، فتجد فى مواجهتك حى الحسينية المنافس الشرس لحارات الجمالية فى معارك الفتوات والذى طغت عليه الآن ملامح العشوائية رغم محاولة بعض عماراته اتخاذ أشكال أنيقة لكنها تبدو متنافرة وقاتلة لشخصية الحى القديم. كانت القاهرة الفاطمية الأيوبية المملوكية العثمانية، هى مسرح «زمكاني» لإبداع نجيب محفوظ رغم أنه رحل عنها فى سن الطفولة، حيث تركوا منزلهم فى بيت القاضى فى الجمالية إلى العباسية ولكن محفوظ أعطى هذه المنطقة جل اهتمامه كما أعطته أعظم وأشهر شخصياته، فهى باقية يشار إليها حتى فى قصص تحدث بعيدا عنها، حتى إنه لتبدو الشخصيات النجيبية خارج أحياء القاهرة العتيقة، كأنما مراحل تالية منها، فعندما خرج بنا إلى أحياء أخرى قديمة أو حديثة، كان كأنه يحن إليها بموقف أو مشهد أو ملامح شخصية، فرائحة القاهرة العتيقة تبدو حتى فى قصصه ورواياته ذات النكهات الفلسفية المكثفة ولو لم تلمسها أو تراها، فاسم نجيب محفوظ على غلاف أى عمل يلوح وكأنه شروع فى تلاوة عزيمة لتحضير روح القاهرة التى تراها تحل فى كل الأركان.