بين القصرين.. هدمت المحافظة أحدهما.. السكرية.. لم يتبق منها سوى"لافتة" قصر الشوق .. الأولياء يسيطرون على المكان.. ودرب المهابيل.. أسطورة السكارى "الحياة فيض من الذكريات تصب فى بحر النسيان, أما الموت فهو الحقيقة الراسخة, ولكن آفة حارتنا النسيان", "فى حارتنا إما أن يكون الرجل فتوة أو أن يعدّ قفاه للصفع".. أقوال عديدة نسج بها أديب مصر العالمى نجيب محفوظ، خيوط مضيئة لما حوته رواياته من قصص وعبر لشخصيات من قلب البيئة المصرية، و"أماكن" اختارها محفوظ بعناية، من قلب القاهرة القديمة، لتتحدث عن تاريخ مهم للمحروسة، لم تستطع كتب التاريخ أن تعبر عنه، إلا أن أديب نوبل، استطاع من خلال هذه الأماكن والشخصيات التى استحضرها، أن يرسم لوحة فنية لم تكن بعيدة عن الشارع المصرى، الذى كان يرى نفسه فى رواياته ما جعله أديبًا لا يعبر عن المثقفين بل هو معبر عن واقع يعيشه المصريون، فكانت أشهر أعماله "الثلاثية"، التى تحدثت عن 3 أماكن شهيرة لا تزال تنبض بالحياة فى قلب القاهرة، هى "بين القصرين وقصر الشوق والسكرية"، إلى جانب حوارى ودروب سرد بها محفوظ تاريخًا لا يقرأ إلا من خلال كلمات تمتاز بالسهولة والبعد عن التقعر، ووصفها العديد من النقاد بأنها السهل الممتنع. بين القصرين من روايات محفوظ، وهى الجزء الأول من ثلاثيته "الشهيرة"، والتى تشكل القاهرة ومنطقة الحسين، وتحكى الرواية قصة أسرة من الطبقة الوسطى، تعيش فى حى شعبى من أحياء القاهرة، فى فترة ما قبل وأثناء ثورة 1919، يحكمها أب متزمت ذو شخصية قوية هو السيد أحمد عبد الجواد، الذى عُرف ب"سى السيد"، ويعيش فى كنف الأب كل من زوجته أمينة وابنه البكر ياسين وابنه فهمى وكمال وابنتيه خديجة وعائشة. "بين القصرين"، وهى منطقة أو أشبه بالميدان، الذى كان يقع بين القصر الشرقى الكبير الذى تم بناؤه للخليفة المعز، والقصر الغربى الصغير، الذى تم بناؤه للخليفة العزيز بالله ابن المعز، وكان هذا الميدان يسع عشرة آلاف جندى, واحتوى على قبة نجم الدين أيوب، التى تنتهى عند باب الفتوح أحد بوابات قصر المعز. يقول الحاج أحمد إسماعيل، صاحب ورشة لدق النحاس, إن "بين القصرين" هو الاسم الأول لشارع المعز، نظرًا لأنه كان يقع بين قصرى المعز وابنه العزيز، ولكن تم هُدم أحد القصرين وظل قصرًا واحدًا متواجدًا بالشارع وهو للأمير سيف الدين بشتاك الناصرى، ويرجع بناؤه للعصر المملوكى، وبالنسبة للقصرين الذى سمى الشارع على اسميهما فظلا حالهما حتى قضى صلاح الدين الأيوبى على الدولة الفاطمية، واتخذ وأمراء دولته القصر الكبير مقرًا لحكم دولتهم إلى أن تم بناء قلعة الجبل فوق جبل المقطم، ومنذ ذلك الحين تُرِك القصر الكبير مهملاً، واليوم تحل محله قبة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وعدد من المدارس الفاطمية ولا يُعرف سبب اختفاء قصر العزيز حتى الآن. قصر الشوق هى الجزء الثانى من الثلاثية المعروفة لمحفوظ, والتى تعرض الجزء الثانى من حياة أسرة السيد أحمد عبد الجواد فى منطقة الحسين، بعد وفاة نجله فهمى فى أحداث ثورة 1919 والتى تنتهى بوفاة الزعيم سعد زغلول . وعلى بعد أمتار قليلة من باب القاضى بشارع المعز, يوجد شارع قصر الشوق، وقد سمى هكذا لأن المنطقة قديمًا تقريبًا فى عصر شجر الدر قصر والشوارع المحيطة كانت بها دهاليز بالقصر، وكان هذا القصر تملكه ملكة سميت "شوق" وسميت المنطقة تخليدًا لاسمها، وتحتوى المنطقة على آثار وكنوز بعضها تمتلكها الحكومة وجزء وجده بعض الأفراد واحتفظوا به. ويقول أحمد البنا، أحد قاطنى شارع قصر الشوق بمنطقة الجمالية, إنه فى العصر الحديث لا يختلف الشارع عما تناوله الأديب فظل سكنى، وبه بعض ورش الورق والنيلون والطباعة ولكن تميز بوجود عدد من مقامات لأولياء الله الصالحين مثل مقام سيدى مرزوق الأحمدى والمُغلطاى الأمريكانى, وسيدى حسن العدوى ومقام سدينا الحسين. السكرية الرواية الثالثة من ثلاثية أديب نوبل، وسميت بذلك الاسم نسبة إلى الحى الذى تدور حوله معظم أحداث الرواية، وتبدأ أحداث هذا الجزء بعد نهاية أحداث الجزء السابق بثمانية أعوام كاملة أى فى عام 1934، وتنتهى فى عام 1943. والسكرية، مكان كان يسمى عطفة قديمًا بمنطقة الجمالية, وهى جزء لا يتجزأ من شارع الغورية، الذى سمى بهذا الاسم نسبة للسلطان قنصوة الغورى، أحد سلاطين المماليك، واتخذت الحارة أسماء أخرى قبل هذا الاسم منها حارة القاياتى أو آل الأيلى وهم شيوخ لهم منازل ومقامات يتبارك بهم الأهالى حتى الآن . وبشكلها الحالى، لا يتبقى منها سوى لافتة صغيرة جدًا مدون عليها الاسم، وهى حارة تقع قرب بوابة المتولى الموجودة داخل وكالة الغورية, وتمت إزالة اللافتة الكبيرة المكتوب عليها الاسم وعودة الاسم الأصلى, وفقًا لأقوال السكان، حيث سميت بحارة القاياتى نسبة إلى الشيخ محمد القاياتى صاحب منزل بالحارة, ويبدو على المكان السكون التام رغم زيارة "المصريون" له وقت الذروة، حيث أكد أبو ممدوح صاحب محل بالحارة، أنها على هذا الوضع منذ فترة بعيدة، واشتهرت فى ذلك الحين بأنها مستوقد لأصحاب سيارات الفول . زقاق المدق تحكى الرواية، عن مكان يسكنه عدد من الأشخاص، تربطهم علاقات الجيرة والقرابة, وهم حميدة الفتاة اليتيمة الطامحة لحياة أخرى أكثر تحررًا ورفاهية، وتتم خطبتها لحلاق الزقاق عباس الحلو، الذى يقرر السفر إلى معسكر الإنجليز ليحصل على مال أكثر يكفى به احتياجات حبيبته، وبعد سفره يقوم قواد محترف، "فرج" بإغواء حميدة، وبعد تورطها تنغمس فى حياتها الجديدة وتنسى عباس وأهل الزقاق، وعندما يعود عباس ويعلم من أهل الزقاق بهروب حميدة، لا يصدق ويقرر البحث عنها، لكنه يفقد الأمل بعد أن يكون قد بحث عنها فى كل مكان، إضافة إلى المعلم كرشة صاحب المقهى بالزقاق. وزقاق المدق، أحد الأزقة الشعبية المعروفة ببساطة سكانها, متفرعة من حارة الصناديقية بمنطقة الحسين بحى الأزهر بالقاهرة، وهو زقاق صغير ومغلق متفرع من شارع الصناديقية الموازى لشارع الأزهر، ويحتوى على عدد من المحال أحدهم مقهى وآخر للعطارة ومحل آخر للأدوات الكهربائية، وسلالم مؤدية إلى عدد من المخازن الخاصة بتجار المحال المجاروة للزقاق، وقد سمى بهذا الاسم حيث كانت تطحن فيه التوابل قبل نقلها إلى سوريا. ويقول محمد كرشة، حفيد المعلم كرشة الحقيقى داخل الزقاق: "من حبنا الشديد فى الأديب العالمى وضعنا صورته على حائط المكان بجوار صورة جدى، لأنه شرفنا بزيارته ", مضيفا: "كما توجد منضدة بالقرب من محل عطارة الجعفرى اعتبرها أملاك تاريخية بعد أن جلس عليها الأديب العالمى محفوظ، إبان سبعينيات القرن الماضى عندما زار المكان بعد إصدار الفيلم. وتابع حفيد كرشة: "الأستاذ نجيب، جلس على هذه المنضدة الأسوانية البسيطة واحتسى مع أبى الشاى وتحدث معه عن حال المنطقة آنذاك, وفرحنا عندما علمنا بإصدار الفيلم رغم أنه امتلأ بكثير من الحبكات السينمائية المبالغ فيها". خان الخليلى رسم الأديب نجيب محفوظ، للخان صورة لا مثيل لها بروايته، التى سميت بنفس اسم المكان, وتدور أحداثها فى القرن العشرين وتحديداً فى العام 1941 إبان الحرب العالمية الثانية، والقصة تدور حول أسرة تسكن فى حى السكاكينى، وعندما تشتد الغارات مع الحرب العالمية الثانية تضطر الأسرة للانتقال إلى حى خان الخليلي، حيث يقع أحمد أفندى الكهل فى أربعينيات عمره فى غرام جارته الجميل نوال، ابنة الستة عشر عاماً وتبدأ الأحداث ويحتدم الصراع. سمى خان الخليلى، بهذا الاسم نسبة إلى منشئه الشريف الخليلى، الذى كان من كبار التجار فى عصر السلطان المملوكى برقوق عام 1400 م , والمكان واحد من أعرق أسواق الشرق، يزيد عمره على 600 عام، وما زال معماره باقياً على حاله منذ عصر المماليك وحتى الآن، فى حى الجمالية بمنطقة الحسين, فالخان اتخذ الشكل المربع الكبير الذى يحيط بفناء ويشمل المحال والمخازن والمساكن, وهو واحد من ثمانية وثلاثين سوقاً كانت موزعة أيام المماليك على محاور القاهرة، ويقع هذا الخان وسط المدينة القديمة فوق مقابر الخلفاء الفاطميين سابقاً. ويمتاز خان الخليلى، بكثرة عدد المحال التى يباع فيها كل ما ترغب فيه، بدءًا من القطع الأثرية الفرعونية المقلدة بحرفية ودقة شديدة، مرورًا بالمشغولات النحاسية والأرابيسك الجذابة، فضلاً عن محال مخصصة للعباءات وبدل الرقص الشرقى، التى تجذب السائحين من كل الجنسيات ومحلات الفضة التى تضم المشغولات الفضية التى لن تجدها إلا فى الخان، وتحظى بإقبال شديد من السائحين العرب والأجانب. كما يتواجد بالخان، المصنوعات الجلدية والنحاسية، ولا يقصده السائحون فقط، بل يعتبر أحد مقاصد العاملين فى مجال التمثيل من الذين يحضرون للخان لشراء الملابس والإكسسوارات التاريخية، التى يظهرون بها فى الأعمال التاريخية كالسيوف والخوذات النحاسية والأحزمة. درب المهابيل سميت بالمهابيل, والآن أضفت على الشارع سمة تواجد المطابع الورقية. ألفها محفوظ عام 1955، وتدور الأحداث فى حارة شعبية من خلال خديجة التى تعيش مع والديها، وتقتصد أى مبلغ لتساعد خطيبها طه، الذى يعمل عند العجلاتى البخيل لإتمام زواجهما، وذات يوم يشترى طه ورقة يانصيب أملاً فى الفوز بالجائزة الأولى، حتى يتمكن من إتمام الزواج، ويقدمها لحبيبته لتحتفظ بها، ولكن والدها المتدين يأمرها برميها فى الشارع لأن هذا يخالف الدين، ويجدها مجذوب الحارة قفة، ويشاء الحظ أن تكون هى الورقة الفائزة بالجائزة الأولى، وينقلب هدوء الحارة إلى فوضى كبيرة، حيث يريد كل فرد فيها جزءاً من هذا المال. وتتعدد الأسماء بين درب العنبة والطاحونة وشارع تُرب المناصرة, فالمكان امتداد شارع المناصرة، بعد تقاطعه مع شارع محمد على بالعتبة، وبالقرب من شارع بورسعيد, فهو من أقدم الأماكن المتواجدة بهذه المنطقة ورغم كثرة الدروب والمنافذ إلا أن المهابيل، يحفظ فى ذاكرة سكانه قصصًا وأساطير عن أصل التسمية. يقول الحاج سعيد سليمان، صاحب محل عطارة، إن الاسم يعود إلى عام 1908 عندما سكن عدد من «المعاتيه أو المتخلفين» بالحارة وكانوا يسببون الإزعاج لبقية الأهالى، الذين لم يكن أمامهم سوى تحملهم حتى انقضت حياتهم على مدار السنين. ويروى صاحب محل حلاقة، حكاية أخرى، بأن المنطقة موجودة منذ العصر الملكى وعمرها تجاوز ال100عام وقديمًا كانت مدافن، ولكن بُنيت عليها المبانى تباعًا وبعد ذلك تواجد بعض محال البوظة، التى كان يقبل عليها الأهالى، مما كان يجعلهم سكارى معظم الوقت.