حلم راود الإنسانية منذ فجر الحضارات أن تتوحد وتسقط الحواجز الجغرافية، فكما أن كثيرين من الفلاسفة والحكماء كتبوا عن حلم المدينة الفاضلة وتخيلوها مدينة للسلام والأمن والفضيلة هكذا تخيل كثيرون أن تتحول الكرة الأرضية إلى ما يشبه المدينة الكبيرة يسودها العدل والمساواة ويتقاسم سكانها خيراتها فلا يكون فيها جائع أو جاهل أو مظلوم.. إنه حلم عولمة الدنيا، حاول الإسكندر الأكبر توحيد الجنس البشرى وإسقاط التمايز فى الجنس أو اللون فأقام الأعراس ليالى متصلة تزوج فيها أبناء وبنات القارات التى كانت معروفة آنذاك، وظن الإسكندر الأكبر أن ذلك سيعطى جنساً واحداً للبشر وتصبح الإنسانية أسرة واحدة ولم يمهله القدر ورحل فى الثلاثينيات من عمره ، وظل الحلم فى وجدان البشر، وعاد الأمل يراود من حمل مشاعل الأديان فى توحيد البشرية وبسط عقيدة واحدة أو إيمان واحد، ولكن البدع والصراع على العروش والسلطة والثروة، أمور أشعلت الحروب فتراجع حلم العولمة، وتسربت نتيجة الحروب والمآسى مفاهيم خاطئة وانتشرت اسواق الرقيق والجوارى واستعبد الإنسان أخاه الإنسان، كما ساد الكبرياء عند جنس يحتقر باقى الأجناس وجاء من ادعى نقاء دم دون آخر وتميز عائلات على غيرها حتى عرفت القرون الوسطى (من القرن العاشر إلى الخامس عشر الميلادى) بأنها عصور الدين والحرب. ثم بزغ فجر القرن الخامس عشر وبين الغرب وبين الشرق حروب لم تنقطع ولكن ثورة فكرية ودينية كانت فى مخاض بعد فشل هذه الحروب ونتائجها المدمرة وبعد أن رأى قادة حملات الغرب أن فى الشرق شعوباً مؤمنة راقية لهم حضارتهم وتاريخهم وأن الحوار معهم هو السبيل للسلام، تفجرت ثورة فكرية ونادت بأسس لقيام حضارة إنسانية: التخلص من حكم رجل الدين (الحكم الثيوقراطى). استخدام العقل ولا عبادة للتقاليد الموروثة. حرية العبادة، والتفكير، والتعبير، والتنقل. وحدة الجنس البشرى والمساواة بين أبنائه. خيرات الأرض لجميع الشعوب. وبعد حربين عالميتين (1914 - 1939) عاد حلم العولمة إلى الفكر بعد أن رأى العالم أن الحروب لا تأتى إلا بالدمار والخراب وأنها لمأساة طاحنة للمنتصر وللمنهزم وبدا مشهد الدنيا بعدها كئيباً حزيناً، ونشط العقلاء والمؤمنون بكرامة الإنسان وقيمة الحياة وسمو الدعوة الدينية يدعون إلى أن يكون الإنسان إنساناً بالرغم من انتشار تيارات الإلحاد والمادية وانحسار المعنى الروحى للوجود، فأنشئت الأممالمتحدة (1948) وظهرت ملامح عولمة جديدة فى أفق الحياة الإنسانية وأقرت غالبية الشعوب بإعلان عالمى لحقوق الإنسان تمت بلورته فى فيينا (1997) ونشطت حركة العولمة فى مختلف أنشطة الحياة، التجارة والصناعة، والزراعة، والعلوم وامتدت كشبكة تسربت فروعها إلى البلدان كافة. ترى ما هى العولمة ، الظاهرة التى تحولت إلى ما يشبه الأيديولوجيا العالمية، حاول بعض أهل الفكر تقديم تعريف سهل مفهوم يقول إن العولمة محاولة للتنسيق بين الأمم لخير جميع الناس، استخدم التعبير الفرنسى Mondialisation بداية من (1980) وفهمت على أنها حركات اجتماعية نشطة تضم كل أفعال الخير، وعبر الفيلسوف مارشال ماكلوهان بقوله الكرة الأرضية أضحت قرية كبيرة ، وأن العولمة سبيل للتنمية والرقى للعالم أجمع ، أما العالم الجغرافى لوران كارويه فحددها إنها ثمرة النظام الرأسمالى تهدف إلى بسط سيطرة الدول الغنية على الأرض، ورأى يقول بأنها لها غاية فى توحيد سكان الدنيا لتصبح الكرة الأرضية مدينة بلا حدود أو سدود، رأى آخر يقول إن العولمة سبيل لتوحيد الشعوب على أساس فكرى وثقافى يتيح للسلام العالمى أن يسود الحياة، والعولمة لا تقتصر على الجانب الاقتصادى والمالى فهناك العولمة الثقافية والسياسية والاجتماعية والجغرافية، ويمكن القول إنه منذ عام ( 1960) وحتى بداية القرن الحادى والعشرين قد تغير وجه العالم فى كل مجالات الحياة، إذ تم تركيب كابل تليفونى عبر المحيط (1962) وأول قمر ستالايت وظهر (1976) أول جهاز كمبيوتر للاستعمال الشخصى وفى سنة (1982) ظهر أول تليفون موبايل وهو العام الذى تحقق فيه اتصال الإنترنت... ومازال تدفق المكتشفات العلمية، وامتداد أفق الترابط بين البشر بلا حدود، فإلى هنا يمكن الجزم بأن العولمة نعمة حلم بها البشر وبدأوا فى تحقيق هذا الحلم. غير أن هناك من يرفض هذه العولمة ، يقدم أسباب التخوف من انتشارها وسيادتها على العالم: الخوف من عولمة الأخلاق تنتصر فيها أخلاق ومبادئ الذين يملكون ادواتها مثل وسائل الاتصال والدعاية والإعلان وقد لا تتفق مع أخلاق شعوب كثيرة . التخوف من تحول المجتمعات التى تسعى للتنمية والترقى وتبذل فى سبيل ذلك التضحيات الجسام تتحول إلى مجتمعات استهلاكية تغمرها الدول الغنية بمنتجاتها وبضائعها مما يعطل الوصول إلى مستقبل أفضل. التخوف من استغلال العولمة من قبل المتطرفين والإرهابيين لحرية الحركة والتنقل إلى الدعوة إلى التعصب والعنصرية وقد نشأت على غرار اطباء بلا حدود, حركة مؤمنون بلا حدود تدعو إلى المستحيل وهو توحيد الدنيا على عقيدة دينية واحدة، الأمر الذى لم يحدث خلال عشرين قرنا من الزمن، لأن دعوتهم إلى تغيير العالم بالعنف يتعارض تماماً مع سنة الخلق فى التعددية والتنوع ومع دعوة الأديان إلى التعايش والتعارف والتضامن والدعوة الحسنة. الخوف من أن تبتلع أنانية الحاضر حقوق المستقبل والأجيال القادمة وذلك باستنزاف المواد الخام دون ضرورة وتقليص مساحات الغابات والخضرة وتلوث البيئة، مما يؤدى إلى أن تظل الدول الفقيرة على ضعفها وفقرها ويزداد جشع وثراء من يملكون آليات هذه العولمة وكمثال لا أكثر ولا أقل لقد بلغ عدد المشتركين فى الفيس بوك 750 مليوناً من البشر، لقد كنا فى الماضى نعتقد أن التربية هى رسالة الأسرة والمدرسة أضيفت إليها بعد العولمة مربٍ جديد هو عالم العولمة، ولن يستطيع بلد أن يفلت من شباكه، وأهم ما نشير إليه أن على كل مسئول يحب وطنه ويحب العالم ألا تذوب ثقافة الأمة أو يضيع تراثها التاريخى والإنسانى. لمزيد من مقالات د.الأنبا يوحنا قلته